قبل استئناف استعراض نماذج أخرى من إشكالات التواصل البراغماتي التي تترتب عن تقاليد ثقافية معينة في ضبط إحداثيات مقولة "المكان" بصفة عامة في التصوّر، نعود إلى المفاهيم المقولية التي تتفرع عنها الإشكالات المعرفية لثنائية "اليمين والشمال" خاصة. سبقت الإشارة إلى أن مقولة "المكان" تحدِّدها في الذهن محاورُ ثلاثة هي: المحور الأفقي بحدَّيه (يمين/شمال)، والمحورُ العمودي (فوق/تحت)، ومحورُ العُمق (أمام/خلف). فإلى أيّ مدىً تتفرع ثنائياتُ هذه المحاور عن معطياتٍ موضوعيةٍ مستقلةٍ عن إحساس الإنسان ذاتيا ببعض خصائصِِ معماريةِ جسمهِ الخاص؟ لقد أشار ابن خلدون مثلا، في أحد أبواب العلوم من "المقدمة"، إلى ما يفيد ضمنيا بأن مفهومي "الفوق" و"الأسفل" مثلا متفرعان، في محيطنا الأرضي، عن ملاحظة ظاهرة الجاذبية، التي تتجه بمقتضاها الأغراضُ - على قدر وزن كُتَلها - نحو نقطةِ مركز الكرة الأرضية: "م". ففي حدودِ حيّز مفعول تلك الجاذبية المحدود طبعا، تكون أيّ نقطة، "ن"، على خط الامتداد الفضائي لأي شعاع تقديري "م- ش" من أشعة مركز كرة الأرض، موجودةً "فوق" غيرها من بقية النقط على نفس الخط مما هو لجهة المركز "م"؛ بينما تعتبر تلك النقطة، "ن"، موجودةً "تحت" غيرها من نقط نفس الخط "م-ش"، مما هو لجهة "ش". فأي جِرم من أجرام قبة السماء (وليكن الشمس أو أي كوكب) مما يحصُل له أن يُسامت، في كبد السماء، جامورَ صومعة الكُتبية مثلا في لحظة معينة، يصبح بعد اثنتي عشرة ساعة، بفعل دوران الأرض حول نفسها، في الجهة المقابلة ب 180 درجة على امتداد نفس الخط التقديري، لكن لجهة قاعدة الصومعة وعَبرَ كرة الأرض. فلا معنى، إذن، لثنائية "الفوقية" و"التحتية" الجغرافية خارجَ نطاق جاذبية جِرم من الأجرام (مثلا: حالة ملاّح فضائي في مركبة كروية متساوية السُمك، وخارج جاذبية الأجرام من أرض وقمر، الخ). لكن الإنسان، بحكم ثقافة ما بعد انتصابه على قدمين بدل أربعة للقيام والمشي، قد جرّد عن المعطيات الموضوعية للآلية الفلكية على سطح الأرض، تمثيلا ل"الفوقية" و"التحتية"، ليس بالقياس إلى جاذبية الأرض فقط، ولكن بالقياس إلى تصوره الذاتي لمعمارية جسمه. فإذا ما وضَع مثلا ورقةً بيضاء أمام عينيه، فإنه يعتبر طرفًها المُناظر لجهة رأسه "فوقاً"، والطرفَ الآخرَ المقابلَ "تحتا"؛ وذلك مهما كان وضعه الفعلي في الفضاء بالقياس إلى الأرض (قيام، جلوس، انبطاح على البطن، اضطجاع على الظهر، أو حتى التدلّي في حالة تعليق من القدمين). أما مفهوم ثنائية محور العُمق (أمام/خلف)، فإن أساس تجريده في الذهن هو الحركة، وما تولّدَ عنها لدى المتحركات من الكائنات الحيّة (إنسان، حيوانات، حشرات) من تشكُّلٍ وظيفيّ ل"لوحة الوجه"، التي تتركز فيها حواسّ ضبط الحركة (بصر، شم، سمع)، وأهمها العينان. فكل ما هو لجهة وِجْهَة السير الفطري (دون ميل أو قهقرى)، أي ما هو واقع في امتدادِ محورِ حقلِ الرؤية المستقيمة، يُعتبر "أماما"؛ وما هو في الجهة المقابلة لذلك ب 180 درجة، يُعتبر "خلْفاً". غير أن الملكة التجريدية لذهن الإنسان جعلته مرة أخرى يُسقِط خاصيةَ "التوجيه" directionnalité على كثير من منجزاته، متحركة ً كانت أم ثابتة. فهو لم يكتف مثلا بتجهيز الناقلات، من سيارة ودراجة وقاطرة، بواجهات ذوات مصابيحَ وأنوفٍ هوائية في أقصى طرفِ اتجاهِ تحرُّكها الأصلي، وهو ما يميز بالنسبة إليها بين الأمام والخلف، بقطع النظر عن وجود أو عدم وجود إنسان داخل العربة وفي أيِّما اتجاهٍ كان. لقد تعدى الإنسان ذلك إلى التمييز مثلا، بالنسبة لكثير من المنشآت العقارية ما بين "الواجهة" - التي تتوفر بالأخص على باب بمثابة الفم وعلى نوافذ رئيسية بمثابة الأعين - وبين "الخلفية"، التي لا تتوفر على ذلك. وبناء على ذلك، أصبح يمكن القول بأن الغرض الفلاني يوجد "أمام" المنزل، أو خلف السيارة، وذلك في استقلال عن موقع كل من المتكلم والمتلقّي بالقياس إلى ذلك الغرض، أو المنزل، أو السيارة. أما ثنائية المحور الأفقي (شمال/يمين) فهي أكثرُ غموضا نظرا لانطلاق أسس قيامها في الذهن من ذاتية الإنسان نفسه بناء على مجرد معماريةِ جسمه كجهاز موجَّه (أي ذي واجهة تتركز فيها حواس القيادة وضبط تحرّكه)، وهو جهازٍ يبدو تماثليّ البنية symétrique إذا ما قوبل من الواجهة (عينان، أذنان، منخران، يدان، رجلان، الخ.) على أساس أن خط التماثل يمر من حَرف الأنف وما بين الحاجبين، عبرَ الأرنبةِ، فالعنفقةِ، فاللَّبةِ، فعظمةِ قصّ الصدر، فسُرّةِ البطن، فما بين الرجلين. إلا أن الأمر ليس كذالك في الحقيقية. فإذا ما اصطفّ شخصان فأكثر، موَلّين وجوهَهم شطرَ نفس القِبلة - وباعتبار الأغلبية الساحقة لبني البشر ? ستكون مُضَغُ القلوب من أجسامهم بنفس الجهة على مستوى صدورهم، بينما تكون مُضَغُ الأكباد بالجهة المقابلة لها على مستوى بطونهم. كما ينعكس انعدامُ التماثل على تركيبة وحجم النسيج العضلي على صعيد الصدر والظهر، ما بين ما هو من العضلات لجهة القلب، وما هو للجهة المقابلة. فهذا اللا-تماثل المميِّز لمعمارية الجسم البشري، بما في ذلك جهازُه العصبي (توزيع الوظائف على النصفين الكرويين)، هو أساسُ التمييز ما بين "اليمين" و"الشمال"، وليس أيّ معطى فضائي خارجي (جغرافي أو فلكي). فانطلاقا من تفعيلٍ لمبدإ الأغلبية في مختلف الثقافات في هذا الباب، من حيث غضُّ الطرف عن الأقلية التي يوجد القلبُ من جسمها بغير جهة وجوده لدى الأغلبية، تم التواضع على إطلاق اسم معين ("يمين"، "افاسي"، droite, derecha, right) على "الجهة المقابلة لجهة القلب"، والربط الانثروبولوجي بين الخصائص الفزيولوجية لتلك الجهة عند الأغلبية (أي بغض النظر عن فئة العُسْر gauchers) بكثير من القيم على مستوى الأخلاق والتربية والرمزيات. فانطلاقا من ذلك التواضع، القائم على ما هو غالب على معمارية التركيب الفيزيولوجي لجسم لإنسان باعتباره جهازا موجَّها وباعتبار قبلة مشيه الفطري، يمكن تَصوّر تعريفاتٍ موضوعية ل"اليمين والشمال" مرتبطةٍ بمعطيات الفضاء الخارجي؛ فيقال مثلا، بالنسبة لكل شيءٍ موجَّهٍ (سهم خط مستقيم مُسهَم، جسم الإنسان) موجودٍ على سطح الأرض مما عدا دائرتي القطبين، بأن يسار ذلك الشيء (اليد اليسرى مثلا، بالنسبة للإنسان) هو ما هو لجهة النجمة القطبية حينما يوَلّي ذلك الشيءُ وجهته شطرَ مطلِع الأجرام في الأفق (قمر، نجوم)؛ وبذلك يتحدد كذلك "اليمين" العُرفي موضوعيا كجهة مقابلة لليسار. أما خارج مثل هذه الظرفية الفلكية (موقع وحركة كوكب مثل الأرض، بالقياس إلى النجمة القطبية) فليس يُعرَف كيف سيتم فيه صياغة مثل ذلك التعريف.