تزخر أدبياتنا الإسلامية بجملة من المفاهيم والشعارات التي شكلت منذ البدايات الأولى للتجربة الحركية الإسلامية جزءا كبيرا من قناعاتنا وأفكارنا، إذ كانت تعبر في مرحلة معينة عن قاعدة الانطلاق، ومحور التجميع والاستقطاب. وكانت في عموميتها وقدرتها التعبوية كافية لصرف الانتباه إلى أهمية المصادر المرجعية في الممانعة الثقافية والتميز الحضاري. لم تكن المرحلة حينها تستلزم برامج واختيارات، وإنما كانت تستدعي شحذ الهمم، والتأكيد على قدرة المرجعية الإسلامية على الإجابة على معضلات العصر. التحدي الذي كان يطرحه الاستعمار والأفكار والاختيارات العلمانية، كانت تتطلب أن يتحرك العقل المسلم من أرضيته الخصبة، ويناظر الخصوم من منطلق قناعاته المبدئية. حينها كانت مقولة دستورنا القرآن تحمل أكثر من دلالة، فهي من جهة دعوة إلى التشبث بالمرجعية الإسلامية التي يشكل القرآن قاعدتها ومصدر قوتها، ومن جهة أخرى كانت تشكل عنصر فصل وتمايز، يجد المتبني لها نفسه على مسافة كبيرة من الطرح العلماني واختيارته الموجودة على الأرض. فالمقولة أو الشعار بهذا الاعتبار لم يكن إلا صحوة للضمير، وبعثا للعقل الإسلامي على التفكير والتنظير انطلاقا من قاعدة الإسلام. لم يكن التفكير الإسلامي حينها معنيا بالمسألة الدستورية، ولا بمفهوم الدستور ودوره في تنظيم الحياة السياسية، وفي صمت الاستقرار المجتمعي. كانت عبارة الدستور تفهم في بعدها اللغوي المعياري، فالقرآن يمثل الجامع لهذه الأمة، وهو يتضمن المبادئ العليا والقواعد العامة التي تهتدي بها الأمة في جميع مفاصل حياتها. لكن المقولة حين استعيرت لتكون عنوانا لعمل سياسي، طرح أكثر من إشكال عملي، إذ بدأت أفهام كثيرة تنظر للدساتير الموجودة الآن بعين الاعتراض، وأحيانا بدأ يتشكل وعي متطرف، يكفر الدول بدعوى أنها تتبنى دساتير غير متوافقة مع القرآن. والحال، أن الدستور بالمفهوم السياسي لا يتضمن سوى المبادئ العامة والقواعد الكلية التي تنظم الحياة السياسية، إذ تؤسس لنوع النظام السياسي، وطبيعة التراتبية في ممارسة السلطة، والصلاحيات المخولة لكل طرف، وطبيعة العلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية. حين استعيرت مقولة لغوية معيارية بدلالاتها التعبوية والتحفيزية إلى حقل السياسة، وبدأت تشتغل خارج نسقها العام الذي تشكلت ضمنه، أصبحت تنتج نماذج من الممارسة السياسية الشاذة التي لا تعترف بالنظام السياسي، ولا بالقوانين ولا بالدستور، وترفض ذلك بدعوى أن ذلك يتناقض مع الممارسة السياسية الإسلامية التي تتأسس على مقولة دستورنا القرآن. ومن ثمة، كان التفكير في ضرورة نقد هذه المقولة، والوقوف على حقيقتها وحدود دلالتها. إن القرآن إذ يشير إلى المبادئ العامة التي ينبغي أن تلتزمها الأمة لإقامة نموذج الحكم، لا يعير اهتماما للتفاصيل، وليس من شأنه وطبيعته أن يستعرض نماذج التدبير للمسألة السياسية والدستورية ،.فتلك مهمة متروكة للتقدير والاجتهاد البشري بحسب الحاجة وخصوصية البلد، وكلما استطاع التفكير البشري أن يبدع أسلوبا أمثل لتحقيق مبادئ الإسلام في الحكم، كلما كان أقرب إلى مقاصد الإسلام وغاياته. ومن ثمة فالدساتير لا يمكن الحكم على مخالفتها للإسلام ومقاصده إلا من جهة وفائها بتحقيق العدل والديمقراطية وحرصها على حقوق وكرامة الإنسان. وحري بالعقل الإسلامي أن يجدد النظر في المسألة الدستورية، وأن يجتهد في البحث في النظم والتدابير الدستورية، ويبصر خصوصية البلد، ونوع النظام السياسي القائم حتى ينتج أفكارا دستورية تمكنه من ممارسة الإصلاح الدستوري بشكل متدرج حتى تصل الأمة إلى أعلى درجة من درجات المواءمة بين مطالب الشرع، وبين واقع الممارسة الدستورية والسياسية. لا يكون للاعتراض على الدساتير أي معنى ما دام القرآن لا يحدد طبيعة الحكم وآلياته وشكله، ولا يكون لمقولة دستورنا القرآن أي مضمون، إذا تم تجاوز دلالتها الأصلية، وتم استعارتها وتوظيفها بنحو مغلوط في حقل الممارسة السياسية. إنها بلا شك ستنتج حينها فكرا خوارجيا ينطلق بصدق من المفاهيم، غير أنه لا يفهم دلالتها الحقيقية، فيستعملها بشكل منحرف في ممارساته السياسية. هكذا بالضبط استعيرت الآيةإن الحكم إلا لله وانتزعت من سياقها الدلالي الحقيقي، واشتغل بها في حقل السياسة بدلالة متطرفة، فأنتجت سلوكات متشددة، وأنتجت عقلية التكفير. مطلوب من العقل الإسلامي أن يدشن مرحلة جديدة من التفكير، يراجع بمقتضاها كل المفاهيم التي شكلت مفاصل الرؤية السياسية الإسلامية منذ التجربة الحركية الأولى. فالعقل السياسي الإسلامي قد شارف مرحلة الرشد، والتجربة الإسلامية في قلب الاهتمامات اليومية، وبعضها على رأس التدبير السياسي، وبعضها الآخر في طريقه إلى التمكين. فإذا لم تنطلق عملية التطهير والتجديد للمفاهيم، فستكون الحركة الإسلامية هي نفسها مهددة بهذا النوع من التمثل للأفكار والمفاهيم. وستكون المهمة حينها صعبة ، إذ ستتحول الأفكار التي تنطلق من تأويل معين لنصوص الشرع إلى حركة سياسية تنازع الحركة الإسلامية في المشروعية، وتشكل تهديدا للنظام السياسي القائم،ما دامت تنطلق هي أيضا من المرجعية الإسلامية، وتسوغ ممارستها السياسية بمفاهيم الشرع ، وقد تمهد للتكفير وتسوغ العنف