-الحلقة الأولى- يجمع الدارسون والمراقبون أن الحركة الإسلامية اليوم أصبحت محورا مركزيا ، واهتماما رئيسا من اهتمامات الرأي العام داخل دولها . وخارجها في الدوائر الغربية ، فقد تم تجنيد باحثين وخبراء واستراتجيين عكفوا للبحث في شأنها . وأنشأت معاهد ومراكز بحث تراقب وتتابع جل تحركاتها وتطوراتها. في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط نكاد نقول بأن الحديث بدأ يروج عن الحركة الإسلامية منذ الأربعينات والخمسينات ، ولقد ساهم في ظهور هذا الاهتمام منذ الفترة المذكورة عاملان أساسيان: يتعلق أولهما بالثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ، والتحولات المشرق أوسطية التي ترتبت عنها ، وثانيهما : انهيار الشيوعية واندحارها عام 1991 في المعسكر الشرقي ، وتداعيات ذلك على صعيد بعض الدول التي كانت بعض أحزابها تتبنى خيارات هذا الاتجاه الأيديولوجي ، وما تلا ذلك من صيحة الغرب وحملته بحثا عن العدو البديل ، والذي وجده مشخصا في الإسلام ، و"الحركات الأصولية" ، يضاف إلى العاملين الاثنين عامل ثالث لا يقل أهمية عن سابقيه ويتعلق بالشعبية التي تعاظمت لدى الحركة الإسلامية داخل أوطانها وبلدانها في ظل حالة الاحتقان الاجتماعي والسياسي الذي عرفته مجموعة من شعوب هذه البلدان ، في ظل غياب استراتيجية تنموية قادرة على استيعاب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتعاظمة والمتفاقمة . ومن بين دول العالم الإسلامي التي استأثرت فيها الحركة الإسلامية باهتمام المتتبعين تركيا، البلد الإسلامي الذي ما يزال يرمز بحضارته وتاريخه للخلافة العثمانية التي عمرت قرونا من الزمن. 1 تأسست الدولة العثمانية باسم الإسلام ، وتحت رايته توسعت وتمددت في أوروبا ، وحين يممت وجهها شطر بلاد الشام وشمال إفريقيا، أيضا رفعت راية الإسلام ، فأخضعت لسلطانها دولا عديدة. لقد اعتمدت هذه الدولة على الإسلام كلية في صراعها السياسي مع القوى الدولية ، فشكل الدين انطلاقا من ذلك عاملا من عوامل الصراع الفكري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ، وقد قامت محاولات عدة من طرف كتاب عثمانيين، وحتى من طرف بعض الوزراء والمقربين من السلطنة العثمانية لتبني المفاهيم العلمانية ، إلا أن هذه المحاولات كانت تبوء بالفشل. لم تتوقف تلك المحاولات واستمرت من حين لآخر في شكل مناقشات داخل الدولة العثمانية ، واشتدت أكثر بعيد إخفاق الدولة في الحرب العالمية الأولى ، وبرزت أكثر فأكثر بعد حرب الاستقلال ، حيث إن قوادا داخل الجيش التركي ما فتؤوا يرفعون شعار القومية بديلا عن الإسلام في التحرك الداخلي إلى درجة أصبحت عندهم القومية ترادف مفهوم العلمانية ، وازداد رفع هذا المطلب ليصل إلى مستواه الأعلى مع كمال أتاتورك الذي ارتبط اسمه بإلغاء السلطنة ثم فيما بعد بإلغاء الخلافة واستبداله لها بالجمهورية . تعد محاولة كمال أتاتورك هذه أول محاولة من نوعها في العالم الإسلامي سعت إلي علمنة المجتمع ، وتغييب الدين عن وجدان غالبية شريحته. طبعا هناك عدة عوامل سهلت تحقيق هذا الهدف وتسريعه ، يتفاعل في هذه العوامل ما هو ذاتي مرتبط بالضعف الذي دب دبيبه إلى السلطنة العثمانية في أواخر عمرها ، ومانتج عن ذلك من ضعف في سيطرتها على مجموعة من الأراضي الداخلة تحت حكمها ، وأيضا ما هو خارجي مرتبط بالمتربصين بالخلافة من الخارج ،هؤلاء الذين كانوا يتحينون الفرصة المناسبة للقضاء على السلطنة العثمانية . وقد تعددت المحاولات في هذا الصدد إلى أن كتب لها النجاح على يد كمال أتاتورك الذي عمد إلي إدخال تغييرات جديدة بقوة القانون والسيف، فألغى كل ما يبث إلى الإسلام بصلة من المظاهر الإسلامية مهما قل شأنها أو عظم- ونذكر منها : إلغاؤه مادة الإسلام من الدستور التركي واستبدالها لها بمبدأ "العلمانية" لتكون الأساس في السلوك السياسي الداخلي للمجتمع التركي. - إلغاؤه المحاكم الشرعية في كل بلاد تركيا. - حظره نشاطات الفرق الصوفية والطرق الدينية . - إلغاؤه لبس الطربوش والحجاب . - إبعاده وإقصاؤه استعمال الأبجدية العربية ، ورفع الآذان بها للصلاة . - إلغاؤه التقويم بالتأريخ الهجري ، واستبداله عطلة الجمعة بعطلة يومي السبت والأحد . - إنشاؤه مؤسسات تابعة للدولة تشرف على الشؤون الدينية ، وتضبط حركة الأئمة والخطباء والوعاظ - إلغاؤه الدروس الدينية من المدارس بموجب قانون توحيد التدريس. كانت غاية الإصلاحات الكمالية من هذه التغييرات التي ذكرت فقط أبرزها أن تبعد الإسلام عن أن يقوم بأي دور سواء في مجال القانون أو التعليم.. نظرا للأهمية التي كان يحظى بها في ظل السلطنة العثمانية ، وأيضا لانتشاره الواسع والكبير في أطراف الدولة التركية وشموله أعدادا غفيرة من الناس ، ظلت تدين به منذ عقود من الزمن فأصبح بذلك جزء من ذاكرتها ، وشكل مرجعتها في كل شؤون حياتها . و ظل يشكل قوة اجتماعية وسياسية حتى في المراحل الأخيرة من عمر الخلافة العثمانية. رافقت تطبيق الإجراءات والاصلاحات الكمالية صنوف وألوان من العذاب ، لم تستثن أحدا من الناس أفرادا وجماعات ، ولعل ذلك يشكل أول المحن التي تعرض لها المسلمون في ظل الدولة التركية الحديثة ، وقد كانت معاناتهم مريرة جدا ، فعدد كبير من العلماء وشيوخ الزوايا والطرق الصوفية شردوا واضطهدوا، ودوهمت بيوت كثير من المسلمين وشرد أهلها ، واعتقل آخرون وحوكموا دون تهم أو بتهم واهية ملفقة . طبعا كل هذه الإجراءات والاصلاحات الكمالية وما رافقها وما صاحبها لم تكن لتمنع استمرار الدين الإسلامي في نفوس من بقوا على قيد الحياة ، انه هوية شعب وذاكرة أمة ، رسخ وتجذرمنذ عقود من الزمن . لقد كانت زعماء الإصلاحات وحملتها أن يجتثوا الإسلام من نفوس وأفئدة مجتمع ، عاش بتعاليمه سلوكا واعتقادا وعبادة منذ آلاف السنين . هكذا عادت النشاطات الإسلامية -برغم شدة الإصلاحات الكمالية- من جديد مع بزوغ أول انفراج . لقد ظل الموقف من الدين nالدين الإسلامي- ومن دوره حاضرا داخل المجتمع التركي ، ويشكل أحد المحاور الثابتة في الصراع السياسي والتجاذب الاجتماعي بين حساسياته وأحزابه وجمعياته ، كما ظل مادة محورية في السجالات الفكرية على امتداد عقود الجمهورية ، مشكلا بذاك قضية جوهرة ظلت تبرز وتختفي تبعا للمراحل والتطورات ، يتم التعبير عنها بأشكال مختلفة تبعا لظروف وطبيعة كل مرحلة سياسية ومقتضياتها، فما موقع الحركة الإسلامية بتركيا من هذه المعادلة ؟ 2 هناك ملاحظات هامة يحسن البدء بها قبل الاسترسال في الحديث عن هذا المحور الذي خصصته فقط لذكر أهم مكونات الحركة السلامية بتركيا بمختلف أشكالها ، وهذه الملاحظات في نظري ضروري أن تأخذ بعين الاعتبار في هذا الحديث ، ويتعلق الأمر بأربع ملاحظات وهي: الملاحظة الأولى: يشعر أبناء الحركة الإسلامية بكل مكوناتها أنهم امتداد حقيقي وفعلي للخلافة العثمانية التي اعتبروها بالنسبة إليهم إرثا تاريخيا هاما من تراث الحضارة الإسلامية . هذا الإرث التاريخي الكبير شكل n ومازال يشكل- حافزا قويا لأبناء هذه الحركة، يشعرون دوما بضرورة الحفاظ على ما تبقى منه واستعادت ما اندرس منه ، فهناك إذن وعي كبير بهذا الإرث الضخم ، وهناك طموح يوازي هذا الوعي بضرورة استعادته ، ومعه لا يتوانى بعض أبناء هذه الحركة في الإعلان بأنهم أحفاد الخلافة العثمانية التي تركت هذا الإرث التاريخي الكبير، الذي ما زال عالقا في ذاكرة كثير من رجالات الحركة السلامية ، وما تزال تشهد عليه الأبنية العظيمة المنتشرة في كثير من مدن تركيا من مساجد وقلاع وقصور وأسوار.. . شكل هذا الإرث مصدر انبعاث النهضة الإسلامية ، والشعور الإسلامي. الملاحظة الثانية : إن حمل المشاعر الدينية منذ حظر كمال أتاتورك لنشاطات الطرق الدينية ، وقع على عاتق بعض زعماء وشيوخ وأفراد هذه الطرق ، حيث حملوا هذه المشاعر في أفئدتهم وقلوبهم ، وهاموا بها في مناطق وعرة ليلا تلاحقهم آلة التعذيب والاضطهاد التي رافقت الإصلاحات الكمالية ، وعندما استقر الأوضاع وهدأت ،عادوا بها، فأحيوها من جديد فيمن تبقى من مريديهم وأتباعهم من خلال طقوس مختلفة. الملاحظة الثالثة: في مرحلة تعدد الأحزاب ثم التخفيف من القيود المفروضة على الدين ، فحصل انبعاث إسلامي ، أعقبه ظهور أحزاب تخاطب بصراحة المشاعر الدينية لدى هذا المجتمع ، وتستميله فوزا بأصواته عند اقتراب كل استحقاق انتخابي ، لتظهر بعد ذلك أحزاب سياسية إسلامية تبنت صراحة وعلنا هذه المشاعر، شكلت المنظومة الإسلامية - أفكارا ومبادئ.. - مرجعية هذه الأحزاب السياسية. الملاحظة الرابعة : عندما تطلق كلمة الحركة الإسلامية بتركيا ،فغالبا ما ينصرف الذهن صوب تجربة الأحزاب السياسية الإسلامية التي نالت حظا واسعا من اهتمام المتتبعين من أبناء الحركات الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي ومن غيرهم من المراقبين والدارسين . في حين لم تكن هذه التجربة إلا مكونا واحدا من مكونات الحركة الإسلامية ، ذلك أن جزء كبيرا من "الانتلجنسيا الإسلامية" في تركيا لم ينخرط كلية وبطريقة مباشرة في الحياة السياسية ، بل شكلت لوحدها مجموعات مستقلة أقرب ما تكون إلى مدارس فكرية وتربوية ، اختلفت في طريقة تفكيرها وتحركها ، ووسائل تفاعلها داخل الساحة التركية بمجتمعها ومؤسساتها. نحن إذن nانطلاقا من هذه الملاحظات التي بين أيدينا- ليس أمام حركة إسلامية وحيدة ، بقدر ما نحن أما حركات إسلامية -إن صح التعبير- موحدة في مرجعيتها ومنطلقاتها ، ومختلفة في طرق تحركها ووسائل تفاعلها. وسنحاول فيما يلي تتبع هذه المكونات بقدر من التركيز، على أن هناك مكونات أخرى تحسب على التيار الإسلامي أو الحركة الإسلامية بتركيا تبنت خيارات أخرى غير سلمية لم نر ضرورة الإشارة إليها في مقالتنا هذه. مكونات الحركة الإسلامية بتركيا 1. الطرق الدينية الصوفية: هي مجموعة من الجماعات الصوفية التي رامت حفظ العبادات الإسلامية ومعها حفظت التراث الإسلامي في نفوس الرأي العام التركي والشعب التركي عموما ،من خلال أشكال وطقوس دينية: أذكار وأوراد يذكرونها وأناشيد وابتهالات يرددونها ، وبعضها الآخر يتجاوز ذلك الى شطح ودوران في أيام مخصوصة من الأسبوع وعند كل مناسبة دينية معينة ، وفي جانب اللباس ترى كل فئة أو كل جماعة تختص بلبس لباس خاص بها يميزها لونا وطريقة عن الأخرى ، وطوائف أخرى صوفية عكفت على تحفيظ القرآن للناس في بيوت شيوخها أو منازل خاصة ،أنشئت لهذا الغرض . وتنتشر هذه الطرق الدينية الصوفية في مختلف أنحاء تركيا.ومع إعلان الجمهورية، وبداية حملة كمال أتاتورك لتصفية المظاهر الإسلامية في الدولة والمجتمع ، كان نصيب هذه الطرق الدينية من حملة الإصلاحات كبيرا ، مما دفع بعضها الى ممارسة طقوسها بصورة سرية في السنوات الأولى من العهد الجمهوري، وأخرى واصلت تحفيظ القرآن سرا . وعند استقرار الوضع قاموا بتكوين جمعيات للإنفاق على طلاب مدارس الأئمة والخطباء لتعويض النقص الذي حصل نتيجة اختفاء الدعاة بسبب المحن التي تعرضوا لها جراء سياسة الإصلاحات الكمالية وما رافقها من تشريد ونفي وتعذيب،كما ظهرت طرق أخرى جديدة كرد فعل على الممارسات والاصلاحات الكمالية التي كانت تستهدف طمس الدين من المجتمع التركي ، و معه تطمس كل المظاهر الدالة عليه. بدء من الستينات بدا فجر الانفراجات يلوح في الأفق بعدما يأس دعاة الإصلاحات الكمالية من اجتثاث الدين من أعماق أفئدة الناس وقلوبهم، فغيروا من سياستهم ، فخففوا من شد حبل التضييق والحصار على الدين وأهله من رجالات التصوف وغيرهم ، نعم مع هذه الفترة أخذت العديد من هذه الطرق تخرج من سريتها ، لتمارس نشاطاتها بشكل علني شيئا فشيئا ،ساعدها على ذلك تنافس الزعماء السياسيين على كسب ودها ظفرا بأصواتها في الاستحقاقات الانتخابية ،بل إن بعضا من زعماء الأحزاب كان لا يتردد في أن يعلن أنه عضو في الطريقة الصوفية الفلانية. منذ ذلك الحين بدأت هذه الطرق تشكل جزء من الحركة الإسلامية في تركيا، وعاملا مؤثرا وحاسما في ترجيح كفة هذا الحزب أو ذاك، ولم تتعاطى هذه الطرق الدينية - في تلك الفترة وما بعدها- للعمل السياسي المباشر انسجاما مع فلسفتها ورؤيتها لعملية التغيير والبناء ، وأيضا خشية تعرضها للانكشاف الكامل وهذا سيكون مدعاة للإجهاز عليها خاصة وأنها غير مرخص لها قانونيا.بل ذلك سيحصل في الفترة الأخيرة كما سنرى لاحقا. انطلاقا مما سبق نستطيع أن نميز داخل الطرق الدينية الصوفية بين قسمين أو نوعين من هذه الطرق : طرق دينية قديمة لها جذور تاريخية ترجع بها الى آلاف السنين ، وطرق دينية حديثة أقرب أن تكون عبارة عن مدارس فكرية و تربوية. أ-الطرق الدينية القديمة: وهي طرق لها جذور تاريخية ترجع الى آلاف السنين، ظلت محافظة على وجودها بين أفراد المجتمع وطبقاته، وأبرز هذه الطرق : الطريقة النقشبندية التي تعد من أعرق الطرق الصوفية ، وأكبرهم وأوسعهم انتشارا ، لها امتدادات في مجموعة من دول العالم الإسلامي، مؤسسها محمد بهاء الدين النقشبندي الذي عاش في بخارة بين 1317/1389 ه، فحمل الطريقة عنه الى الأناضول شيخ آخر نقشبندي هو عبد الله السماوي في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي لتنتشر في عدة محافظات وقرى ومدن تركيا. شارك النقشبنديون في كل الانتفاظات التي ووجهت بها إصلاحات كمال أتاتورك والتي حضرت نشاطاتها، ومع إقرار نظام التعددية الحزبية عاودت النقشبندية نشاطها، وعملت على تعزيز حضورها في أوساط أساتذة الجامعة وموظفي الدولة وأصحاب المهن الحرة . وهكذا صارت داخل النقشبندية ثلاث تيارات يتزعم كل واحدة منها شيخ نقشبندي ،من هؤلاء من تدرج في أسلاك ووظائف الدولة العثمانية، ولا يزال على قيد الحياة ، وهذه التيارات هي : تيار نقشبندي أول يجمع فئة الحرفيين والتجار الصغار ، وتيار نقشبندي ثاني يضم الطبقة الوسطى من المجتمع التركي ،و ينحشر فيه مجموعة من المثقفين وأساتذة الجامعات ، وتيار نقشبندي ثالث يضم طبقة عليا من المجتمع التركي من كبار الرأسماليين ورجال الأعمال وزعماء بعض الأحزاب السياسية. أما بالنسبة لمواقف تيارات النقشبندية السياسية، في البداية كانت مدعمة للحزب الوطني ثم حزب السلامة عند تأسيسه من طرف أربكان الذي كان نفسه نقشبنديا ، لكن بعد أصبحت تميل أصوات كل تيار صوب أحزاب، إما يمينية أو حزب إسلامي . بعد الانقلاب العسكري لسنة 1980 تشردم النقشبنديون فذهبت الغالبية الى حزب الوطن الأم عند تأسيسه عام 1983 ، فيما أيد آخرون منهم حزب الرفاه. تبقى الطريقة النقشبندية اكبر الطرق الدينية القديمة في تركيا والى جانبها توجد طرق أخرى أقل منها انتشارا وأعضاء، ويتعلق الأمر بالطريقة التجانية والقادرية والرفاعية والجراحية، وهي طرق صغيرة الحجم بالمقارنة مع الطريقة النقشبندية ، لكنها هي الأخرى منتشرة في بعض مدن تركيا ، لها نشاطاتها الخاصة بها ، كما لها حضورها في دعم بعض الأحزاب، على أن هناك طرقا دينية صغيرة لا تعدو أن تكون عبارة عن فرق فلكلورية . ب- الطرق الدينية الحديثة : وهي طرق دينية تأسست كرد فعل على الإصلاحات الكمالية التي نحت منحى علمنة المجتمع وتغريبه من خلال مناهضة كل المظاهر الإسلامية. وقد ظهرت هذه الطرق أواخر الخمسينات وبداية الستينات ،وهي ثلاثة طرق : أولا:الطريقة النورجية وتنسب الى مؤسسها بديع الزمان سعيد النورسي .وثانيها :الطريقة السليمانية التي أسسها سليمان حلمي تونهان ، وهو سابقا كان شيخا نقشبنديا.وثالثها الطريقة الايشيكتشية ، ومؤسسها هو حسن حلمي ايشيك، )تعني كلمة ايشيك في التركية : النور ، الضوء.(. ما يميز هذه الطرق الثلاثة هي كونها حرصت على أن تستقل بخط فكري يميزها عن غيرها من باقي الطرق سواء كانت قديمة أو حديثة.وسنورد حديثا مقتضبا عن كل طريقة من هذه الطرق الثلاث . الطريقة النورجية : وهي- كما ذكرت- تنسب الى الشيخ الكبير بديع الزمان سعيد النورسي ،تعد من أكثر الطرق الحديثة حضورا وتأثيرا في شرائح المجتمع التركي ، بالأرياف والمدن، عدد أتباعها يعدون بالملايين في تركيا وخارجها. لم تشكل الطريقة النورجية في حياة بديع الزمان النورسي أو كان له دور في تشكيلها ، أو تنظيمها في حركة منظمة ، بقدر ما كان يشكل مرجعا صوفيا وفكريا لمجموعة من أتباعه الذين لمسوا فيه صلاح الحال وقوة الإيمان ..، فقد ا اشتهر بعلمه وتقواه وورعه وجهاده ضد الاحتلال الأجنبي ، وضد الإصلاحات الكمالية. لقد تأسست الطريقة النورجية وتشكلت في شكل تنظيم بعد وفاة شيخها وزعيمها بديع الزمان سعيد النورسي ، حيث قام أتباعه بطبع رسائله المعروفة برسائل النور، التي تشكل الأساس النظري والمعرفي للطريقة لهم . ومع أن هذه الرسائل لا تحدد مواقف ولا أهداف سياسية واضحة، إلا أنها في العمق تحمل في طياتها رِؤى وتصورات عميقة فيما يخص تدبير شوؤن حياة الإنسان الدنيوية والأخروية ، ذلك أن شيخ الطريقة النورجية ومن خلال ثنايا كتاباته نلمس دعوته الصريحة الى ضرورة أن يدرك الإنسان أن سعادته وحل مشاكله هي في الارتباط الوثيق بالله لا غيره ، مؤكدا بذلك على البعد التربوي الذي ينبغي ترسيخه وتعميقه باعتباره الأساس والمنطلق لأي عملية تغييرية فردية أو جماعية . إن المسألة الأساسية التي يؤكد عليها أتباع بديع الزمان النورسي هي الوصول إلى نظام دولة لا يتدخل في شؤونهم ولا يمارس القمع والضغط عليهم ، وفيما يخص طريقة تعاملهم مع مؤسسات الدولة هذه لا يرون بأسا في الانخراط فيها والعمل من داخلها، وفي سبيل تحقيق ذلك يقومون بسياسة التسلل الى مختلف مرافقها: كليات ، ومعاهد ومؤسسات الجيش حتى .أما بخصوص نظرتهم الى السياسة تحديدا فهي نابعة من تصور شيخهم. فقد كان موقفه في المرحل الأولى من حياته مبنيا على الابتعاد عن السياسة استنادا الى قوله -أعوذ بالله من السياسة- ، لكن في المرحلة الأخيرة من حياته دخل المعترك السياسي، لا من أجل تكوين حزب سياسي بقدرما من أجل أبعاد حزب الشعب الجمهوري عن الحكم ، دون أن يعني ذلك اعتقاده في كون الأحزاب الأخرى كانت إسلامية، ولعلنا ندرك من خلال فعله هذا استحضاره للقاعدة الفقهية:" درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ". اتبع طلابه وتلامذته هذه القاعدة في دعمهم للحزب الديمقراطي في بداية الانفراج السياسي حيث أدلوا بأصواتهم لهذا الحزب المذكور في الحقب الانتخابية 1950-1954- 1957.إن رفض طلاب النور إقحام أنفسهم في السياسة مباشرة من خلال إيجاد حزب سياسي أي تحويل حركتهم الى حزب، لم يكن موقفا عاما تأخذ به جل الفرق النورجية التي بلغت اثنا عشر فرقة، فقد اختلفوا فيما بينهم حول نسبة تقدير هذا الأمر ، قسم مهم منهم اكتفوا بطبع الرسائل وتوزيعها ودعوة الناس الى مفاهيمها، وتأسيس مدارس تربوية و تعليمية حرة في مستوى جيد جدا داخل تركيا وخارجها ، يستقطبون أجود الطلاب ، يسهرون على تأطيرهم وتعليمهم.. حتى يصبحوا أطرا ، ينتفعون وينتفع مجتمعهم من خبراتهم . وقسم آخر منهم اكتفى بتلقين أفكار شيخهم لأتباعهم ، وقسم أخر انخرط مع بعض الأحزاب السياسية. ويبقى القسم الأول مما ذكرت يشكل أكبر الفرق النورجية وأكثرها تنظيما وهي جماعة فتح الله غولان، والى جانبها نجد جماعة يني نسل، وجماعة" دعوى"وجماعات أخرى. الطريقة السليمانية : وهي طريقة اتصفت بالتشدد والراديكالية في معارضتها لأتاتورك ولإصلاحاته ، وللنظام العلماني ونمط الحياة الغربية التي أريد للمجتمع التركي الدخول في أتونها. تنتشر هذه الطريقة داخل تركيا و خارجها في أوروبا الغربية ولا سيما في ألمانيا . دخلت الطريقة السليمانية منذ تأسيسها في صراع مع رئاسة الشؤون الدينية التي لا تعتبرها ممثلة للإسلام ، يعلن أتباع الطريقة وكذا شيوخها أن دار تركيا هي دار حرب يجب الجهاد لتحويلها الى دار الإسلام ، وهم لا يعتبرون مسلما كل من لا ينتمي لطريقتهم . يدرك زعماء الطريقة السليمانية أهمية المجال الثقافي ودوره ، وهم تبعا لذلك يملكون مراكز ثقافية في أكثر مدن تركيا، كما عملوا على تأسيس مؤسسات موازية للمؤسسات الدينية التي تشرف عليها الدولة . تتصف الطريقة السليمانية بالانضباط الصارم لأعضائها .فهم خلاف النقشبنديون والنروجيون يتحركون ككتلة واحدة أو جسم واحد . أما في الجانب الاقتصادي فتتميز الطريقة السليمانية بمصادرها ومواردها الاقتصادية المهمة عبر مشاريعها التجارية المتعددة ، وهذه ميزة غالبية الطرق الدينية الصوفية. أما بخصوص الولاءات السياسية لهذه الجماعة الدينية فتتوزع بين حزب الطريق المستقيم والوطن الأم. الطريقة الايشيكتشية: وهي طريقة ظهرت في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات أسسها ضابط متقاعد من الجيش ، تعرف باسم "جماعة تركيا" نسبة الى صحيفة تركيا التي يصدرونها. وتعتبر الطريقة في الأساس أحد أذرع النقشبندية ، تولي الطريقة أهمية بالغة للتجارة ، وفي هذا الإطار يملك أتباعها كبرى الشركات ، لهم محطة تلفزيون ، كما لهم مجلات أسبوعية وشهرية خاصة بكل القطاعات والفئات. أما فيما يخص مواقفهم السياسية فهم كانوا يساندون منذ مدة،أما حزب الوطن الأم أو الطريق المستقيم ،واليوم ما فتؤوا يميلون الى الحزب اليميني الموجود في السلطة أو الذي يملك فرصة محتملة للوصول اليها. (يتبع) د. إدريس بووانو