مكتسبات الفكر السياسي الشيعي تساهم في أفول تأثير القاعدة في العالم العربي والإسلامي وتراجع دور الدول السنية الكبرى د. حسين مجدوبي* (القدس العربي) تراجع الإشعاع السياسي والإعلامي والإستقطابي الذي تمتع به تنظيم القاعدة خلال الخمس سنوات التي أعقبت تفجيرات 11 سبتمبر. وتفسر الكثير من التقارير الصادرة عن معاهد الدراسات الإستراتيجية والتحاليل الصحفية منها الغربية على الخصوص هذا التراجع بمردودية الملاحقة الأمنية والإستخباراتية المكثفة لخلايا هذا التنظيم في معظم أنحاء العالم، لكنها لا تقلل من خطورة التنظيم. ودون التقليل من الأهمية البالغة للملاحقة الأمنية، فهناك عامل آخر يساهم بشكل عقلاني وقوي في أفول نجم أسامة بن لادن وأطروحاته السلفية الجهادية بل وكذلك الدول السنية الكبرى مثل مصر والسعودية ويتجلى أساسا في بروز دور الإسلام السياسي الشيعي بريادة إيران وحركات مثل حزب الله اللبناني بفضل التقدم العلمي وأساسا المشروع النووي ومقاومة الغرب ولجم إسرائيل. صعود وانهيار الفكر السني الثائر فقد شكلت تفجيرات 11 سبتمبر صعودا قويا للخطاب السلفي الجهادي في مجموع العالم الإسلامي وأوساط الجالية المسلمة في الغرب بسبب قوتها ورمزيتها، وهو الفكر الذي كان قد اكتسب شرعية الوجود في حرب أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي. فرغم بيانات التنديد من الحكومات العربية والإسلامية للقاعدة وعملياتها إلا أن غالبية الرأي العام العربي والإسلامي انشدت إلى خطاب أسامة بن لادن واعتبرت 11 سبتمبر فاصلة بين زوال مرحلة الظلم والخنوع للغرب وبين بداية الانطلاق نحو مرحلة الإنعتاق. وتكشف استطلاعات الرأي وخاصة التي أنجزتها مؤسسة غالوب الأمريكية خلال الثلاث سنوات التي أعقبت التفجيرات تأييد أكثر من ثلثي العرب والمسلمين لأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة. وأدرك العالم الغربي ولاسيما الأنجلو *** وني تأثير القاعدة في صفوف الشباب المسلم، فتأثيرها الحقيقي لم يكن مقتصرا فقط على خسائر مادية ضخمة ناتجة عن سقوط برجي التجارة العالمي واستهداف البنتاغون بل زرع وبث "روح الثقة" في نفسية شباب مسلم ثائر في مجمله يعتقد أنه بفضل فكر القاعدة قادر على الانتقال من مرحلة الخنوع إلى مرحلة التحرر الفكري والسياسي من وصاية الغرب ومن أنظمة عربية فاسدة سياسيا. وتخوف الغرب من الانعكاسات الخطيرة التي تحملها "ثورة القاعدة" ومن نتائجها المفترضة استيلاء حركات راديكالية على السلطة في الخليج العربي وما يشكله هذا الخليج من احتياطي لنفط حيوي للصناعة العالمية ولاسيما الغربية. وعليه، ولمواجهة هذا المستجد، كانت "الحرب الأمنية" الشاملة ضد الفكر السني الثائر وحملت معها في الوقت ذاته تحجيم دور الدول العربية السنية التي تحولت إلى أشبه بمقاطعات تحت نظام الحماية الأمريكي تأتمر بأوامره وتبتغي رضاه لدرء تهمة تشجيع الإرهاب بعدما جرى تحميل السعودية المسؤولة المعنوية لتفجيرات 11 سبتمبر. وبعد 2007 يمكن الحديث عن ضعف القاعدة كتنظيم مهيكل بل وكذلك بأفول أطروحاته الفكرية وتراجعها. في هذا الصدد، ينقسم الغرب في تقييمه للقاعدة، فالموقف الرسمي الأمريكي يؤكد استمرار قوتها، في حين يؤكد خبراء من الغرب نهاية القاعدة وأبرزهم الرئيس السابق لشعبة مكافحة الإرهاب الإسلامي في المخابرات الفرنسية آلان شوي. وحول استمرار القاعدة كتنظيم قوي، تقدم واشنطن معطيات مستقاة من الواقع، مستشهدة بالعمليات المسلحة التي ينفذها أعضاء التنظيم في العراق وأفغانستان والجزائر وباكستان واليمن ثم العربية السعودية. ظاهريا، هذه الأطروحة مقبولة لكن التحليل المنطقي يكشف عن معطيات مختلفة. فنسبة كبيرة من العمليات المسلحة في العراق تدخل في نطاق مواجهة المستعمر، فجزء كبير من الشعب العراقي يعتبر التواجد الأمريكي استعمارا، وهذا يدفع خليط من العراقيين من ضمنهم أفراد الجيش السابق إبان حكم صدام حسين لتنفيذ عمليات ضد المحتل. وفي الوقت ذاته، فسقوط الكثير من الضحايا يدخل ضمن الانتقام والانتقام المضاد بين الشيعة والسنة. وينطبق التفسير نفسه في أفغانستان، فحركة طالبان ترغب في استعادة الحكم وطرد المحتل وهي حركة متشددة توجد في الحكم قبل قدوم أسامة بن لادن إلى أفغانستان بعد طرده من السودان. وتاريخيا، كان الفكر السلفي قويا في باكستان، والتفسير الحقيقي للعمليات المسلحة هو مواجهة النفوذ الأمريكي الجاثم على الطبقة الحاكمة في إسلام آباد وما يخلفه القصف الأمريكي للقرى من ضحايا. وتبقى حالة الجزائر خاصة، فتنظيم القاعدة استطاع خلق فرع له تحت اسم "تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي"، لكن هذا الفرع ليس سوى تغيير اسم للجماعات الإسلامية الجزائرية المسلحة. ومنذ إنشاء هذا الفرع تراجع مستوى الإرهاب في الجزائر عما كان عليه في السنوات السابقة، حيث كانت نسبة الضحايا والتفجيرات أكثر بكثير من الوقت الراهن. ويبقى تنظيم القاعدة في اليمن والعربية السعودية قوي الحضور بسبب الطبيعة الدينية للبلدين من انتشار للوهابية وفي الوقت ذاته، وكما يقول الباحث السعودي فؤاد إبراهيم صاحب كتاب "السلفية الجهادية في السعودية" أنه أمام التضييق الأمني الدولي على الوهابيين وأنصار القاعدة في الخارج عادوا إلى شبه الجزيرة العربية وبدأوا يوجهون سلاحهم ضد النظام. ويعتمد القائلون على ضعف القاعدة على التحليل الأمني ويسوقون الأمثلة التالية: في المقام الأول، إضعاف البنيات التحتية لتنظيم القاعدة والمتعاطفين معه في مجموع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والغرب، حيث أصبح يحمل اسما ليس إلا. في المقام الثاني، القضاء على مصادر التمويل المتمثلة في جمعيات خيرية كان يفترض أنها وظفت كغطاء في العالم العربي والإسلامي لجمع الأموال. في المقام الثالث، صدور قوانين جديدة في معظم دول العالم تشدد من مكافحة الإرهاب والتوقيع على اتفاقيات دولية في هذا الشأن، فتحول مكافحة الإرهاب إلى الموضوع الرئيسي الأكثر حضورا في الأجندة العالمية. في المقام الرابع، موت أغلب زعماء القاعدة في تورا بورا سنة 2001 كما أكد آلان شوي في جلسة مغلقة في البرلمان الفرنسي نهاية يناير الماضي. ويؤكد أن تفجيرات الدارالبيضاء وبالي ومدريد ليست لها علاقة مباشرة بالقاعدة. المنعطف وللعامل الأمني دوره في إضعاف القاعدة، لكن المنعطف الحقيقي يجب البحث عنه فيما هو فكري ويتمظهر في بزوغ إيران كقوة إسلامية. فبالأمس كانت القاعدة مصدر فخر للكثير من المسلمين الثائرين والآن أصبحت محط تساؤل ونقد فكري حقيقي، حيث بدأ هذا الرأي العام يراجع الكثير من الآراء والأطروحات التي تعامل معها بنوع من التقديس في السابق ، وأبرزها: في المقام الأول، اقتنع الرأي العام العربي والإسلامي أن 11 سبتمبر شكلت مدخلا جديدا لحملة بوليسية شرسة ضد الجماعات الإسلامية في العالم العربي مست حتى الليبراليين واليسار والصحافة الحرة، وعززت من صلابة الدولة القائمة على المفهوم الأمني في العالم العربي في المقام الثاني، شكلت هذه الحملة التي تستمر حتى الوقت الراهن عملية إجهاض لتطور ونمو الإسلام السياسي في المجتمعات العربية أساسا. فإذا كان الإسلام السياسي قد استطاع الوصول عبر تمظهرات مختلفة إلى الحكم في دول إسلامية مثل تركيا بفضل التطور الديمقراطي، فالإسلام السياسي في الدول العربية يتعرض للمحاربة تحت غطاء مكافحة القاعدة. في المقام الثالث، لم يتفهم الرأي العام العربي والإسلامي التفجيرات التي نفذها أعضاء القاعدة ضد مدنيين عزل في العراق وفي بعض الدول العربية مثل الدارالبيضاء المغربية، حيث أصبح دم المسلم مستباحا بفتاوى شرعية قلما شهد التاريخ الإسلامي مثيلا لها. في المقام الرابع، بدأ الشارع العربي والإسلامي يتساءل عن عجز القاعدة ضرب إسرائيل وتحرير فلسطين وهي التي جعلت من تحرير القدسوفلسطين شعارا مركزيا لها. فشل الفكر السني الثائر يعتبر حلقة ضمن حلقات الفشل المتواصلة في العالم العربي في البحث عن البديل السياسي للخروج من الأزمة والتخلف سواء عبر العنف أو النهج السلمي. ويستمر البحث، وبما أن الدين يبقى عماد القرن الواحد والعشرين كما يقول المفكر جورج قرم في كتابه "المسألة الدينية في القرن 21"، فبالموازاة مع تراجع القاعدة والتشكيك في أطروحاتها السياسية، يبدو أن الرأي العام العربي بدأ يبدي إعجابه بالنموذج الإيراني دون أن يعني هذا الإعجاب اعتناق الفكر الديني الشيعي. وهذا الإعجاب مصدره سؤال عريض: لماذا يتقدم الإيرانيون؟ لماذا نجح حزب الله في مواجهة ولجم إسرائيل؟ لماذا فشل الفكر السني بشقيه الثائر والمعتدل؟ وهكذا، فالعالم العربي والذي في معظمه سني بدأ يجد الأجوبة في بلورة إيران لمشروع سياسي قائم على أسس دينية متينة وبدون ضجيج شعبوي، ويتجلى في الكثير من العوامل أبرزها ثلاثة: 1-بناء دولة وطنية قوية: المشروع النووي نموذجا بناء الدولة الوطنية القوية التي هي حلم الشعوب العربية والإسلامية بدأت تجسدها إيران بسياستها الرامية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في عدد من المجالات خاصة وأن شعار إيران هو أن "القضاء على الهيمنة الغربية يتم عبر البحث والتقدم العلمي". فمقارنة مع الدول السنية الكبرى مثل مصر، فإيران متقدمة في البحث العلمي والتنمية البشرية. فرغم الحصار الاقتصادي المفروض من الغرب، ورغم ارتفاع وهبوط أسعار النفط، فإيران تتحكم في اقتصادها ولم تتأثر بالأزمة المالية العالمية كما تأثرت دول الجوار السنية ومن ضمنها دولة الإمارات العربية والمملكة السعودية بل وتحقق تقدما علميا كبيرا أبرز عناوينه المشروع النووي الذي أصبح واقعا. ويقول المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي لقناة دريم المصرية (20 فبراير 2010) "إيران ليست في موقف ضعف وخوف من الولاياتالمتحدة بشأن برنامجها النووي، إيران لها قوة استراتيجية ولا تفكر بشكل عاطفي". 2-السد المانع ضد إسرائيل رفعت القاعدة شعار تدمير إسرائيل، ولكنها لم تنجح في تفجير ولو عبوة ناسفة صغيرة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة أو استهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج. وفي المقابل، فإيران بدعمها لحزب الله، استطاع الأخير إلحاق أول هزيمة نسبية بإسرائيل في حرب تموز 2006. ولا تجرأ حكومات تل أبيب الإعلان الحقيقي للحرب ضد لبنان مخافة من مفاجآت حقيقية، لاسيما بعد خطاب زعيم الحزب نصر الله يوم 15 فبراير 2010 بضرب قلب إسرائيل. وفي الوقت ذاته، فمقاومة حماس للكيان الصهيوني نقطة تحسب لصالح إيران، ويحتفظ الرأي العام العربي بمواقف طهران في دعم القضية الفلسطينية في ظل خنوع الدول السنية خاصة إبان الاعتداء الأخير ضد قطاع غزة. وبدأ يسود اعتقاد أن حل القضية الفلسطينية سيمر أساسا عبر توازن الرعب الذي تحققه إيران في المجال العسكري مع إسرائيل، وهو ما يزيد من شعبيتها وحجم التعاطف معها في العالم العربي والإسلامي. 3-خريطة جديدة للعلاقات الخارجية: في الوقت الذي يستمر فيه الفكر السياسي السني في تقوية العلاقات مع المحور الغربي وخاصة الأنجلو *** وني رغم أنه كان قوة استعمارية غاشمة في العالم الإسلامي، يبذل الفكر السياسي الشيعي المتمثل في إيران مجهودات لنسج علاقات مع دول قوية مثل الصين وروسيا وأخرى صاعدة مثل البرازيل وفنزويلا وجنوب إفريقيا مناهضة للولايات المتحدة وبريطانيا وترغب في تكسير القرار الأنجلو *** وني المهيمن على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والسير نحو عالم متعدد الأقطاب سياسيا. ولم يكتفي الفكر السياسي الشيعي بنسج العلاقات من وجهة نظر دفاعية محضة بل يتعدى إلى استراتيجية هجومية، وتبقى العلاقات مع أمريكا اللاتينية العنوان المعبر لهذا التوجه والتي تقلق واشنطن وتل أبيب. بين نصر الله وبن لادن في غضون ذلك، يتساءل الرأي العام العربي، لماذا يتقدم الشيعة، إيران وحزب الله ويتأخر السنة، الدول المعتدلة مثل مصر والعربية السعودية والراديكالية مثل القاعدة؟ ونجد الجواب في سياسية إيران كدولة وحزب الله كحركة تحرر أثبتا أهمية التخطيط الاستراتيجي القائم على الدين لمخاطبة الغرب الند للند واستعمال لغة التهديد مع إسرائيل من خلال بناء الدولة الوطنية القائمة على البحث العلمي والابتكار بدل رفع شعارات حماسية ولكنها جوفاء بسبب الافتقار للتطبيق. ما هو الأهم، هل تدمير برجي التجارة كما فعلت القاعدة أم لجم إسرائيل كما يفعل حزب الله؟ هل الاستمرار في تغذية مصانع السلاح الغربي كما تفعل السعودية ومصر ودول الخليج أم تحقيق صناعة عسكرية محلية قوية والتقدم في جميع المجالات كما فعلت إيران ويمنحها استقلال القرار السياسي؟ بدون شك، معظم الرأي العام العربي يحبذ التخطيط الاستراتيجي وبناء الدولة لقوية بدل الشعارات. وفي غياب استطلاعات الرأي حول موقف الرأي العام العربي من إيران وحزب الله، فتحليل مختلف التعاليق في عشرات المنابر الإعلامية الكبرى مثل الجزيرة والقدس العربي والمحيط وهيسبريس بل حتى بعض منابر الإمبراطورية النفطية التي تمترس الرقابة مثل إيلاف والعربية تبرز الإشادة بتجربة إيران وحزب الله خاصة بعد تخصيب اليورانيوم وتستهجن اختزال مفهوم التقدم من طرف دول سنية في تحقيق أكبر ناطحات سحاب واستدعاء نجوم هوليود لمهرجانات غنائية وسينمائية. المقالات بدأت تتساءل عما أضافه تنظيم القاعدة للعالم العربي والإسلامي، أي الدمار والملاحقة وعودة الاستعمار والقبضة البوليسية أمام ما حققه حزب الله من مقاومة إسرائيل ولجمها عسكريا. وعندما تسأل رجل الشارع العربي عن السياسيين الذين يمثلون كرامته اليوم لن يتردد في اختيار عدد من الأسماء بعضها غير مسلم مثل الرئيس الفنزويلي هوغو تشابيس أو مسلم غير عربي مثل رئيس حكومة تركيا رجب أردوغان ويكون اختياره أساسا لأسماء شيعية أمثال حسن نصر الله والرئيس الإيراني أحمد نجادي، وناذرا ما تجد أحدا ما يتحدث عن أسامة بن لادن أو زعيم عربي سني. استراتيجية الفكر السياسي الشيعي تساهم في الحد من تأثير القاعدة وسط العالم العربي وتدفع الدول السنية إلى دور كومبارس، لكن وسائل الإعلام السنية ومراكز الدراسات الإستراتيجية الغربية تحجب هذا الواقع دكتور في الإعلام و مراسل صحيفة القدس العربي من إسبانيا