أيها العزيز في الذكرى الأربعين لصداقتنا بعثتُ إليك بصورة من أول رسالة توصلت بها منك؛ وقد فاجأتك لأنك لم تتصور أن أحتفظ بها أكثر من أربعين عاما. هي رسالة بخط يدك الذي لم يتغير منذ ذلك الزمان الغابر. كنت أنا تلميذاً في قسم الثانوية العامة بالمدرسة الحسينية بالقاهرة مع محمد برادة وعلي أومليل، وكنتَ أنت تلميذاً بمدارس محمد الخامس، قلتَ في رسالتك التي وجدتْ صدى عميقا في نفسي لم يزل نَديّاً إلى يومنا هذا: «أخي العربي المسلم قد أضايقك بكتابة هذه السطور إليك. هذه السطور التي أبتغي من ورائها عقد صداقة بيننا تظل حية مع الأيام، فأرجو العفو. وأيضا.. قد تعجب لتطفلي، ولكن ليس في الإمكان إلا أن أكتب إليك، من جهة لأبعث لك بإعجابي على ما كنتَ تنشره في مجلة «هُنا كل شيء»، ومن جهة أخرى لأن عواطفك الشاعرية صادفت هوى في نفسي، أو قُلْ عواطفي. وقبل أن أنتهي دعني أقدم لك نفسي: عبد الجبار السحيمي. شارع الجزاء، الجنين رقم 4 الرباط. هوايتي الأدب بنوعيه. أزاول دراستي بمدارس محمد الخامس. القسم التكميلي الثالث. وتقبل آمال وتحيات هذا المجهول. عبد الجبار السحيمي» عندما أقرأ اليوم هذه الرسالة القصيرة، أجد في طياتها كل ملامح أسلوبك الحالي، فالجمل قصيرة، والمعنى واضح، وملامح الشاعرية مُنْبئة. أيها العزيز أفتقد كتاباتك منذ أسابيع، لأن المرض حال بينك وبين الورق والقلم. وفي غياب هذه الكتابات خسارة لمن آلفَها وصاحب فيها جولاتك الشجاعة في رصد الأحداث، وتحليلها والوقوف إلى جانب الحق فيها انتصاراً للمظلومين حتى ولو كانوا خصوماً سياسيين. فمن ينسى مقالك الناري «جريدة لم تعد تصدر» تضامناً مع جريدة «المحرر» الموقوفة؟ ومن ينسى جريدة العلم الغراء وهي تفتح صفحاتها للأقلام المتمردة من جميع المشارب السياسية؟.. لم تكن خطيباً يبحث عن الجمل الطنانة، بل ظللت شاعريَّ العبارة، متدفق الأحاسيس دون إسفاف أو حقد أسود. كان الوطن، كل الوطن، في قلبك ولسانك. فأنت الصحفي القادر على كتابة كلمات أشبه بالنبضات ولكنهاقد تنقلب إلى طلقات. وأنت الصحفي المتفرد بزوايا الالتقاط التي تُسعفك فيها حاسة الأديب القاص، فلا تكتب، مثلا، عن الطاغية تشاوْسسْكُو كما يكتب السياسيون، ولاَ عنْ «السادات» كما يكتب غيرك شامتاً أو متحسراً، ولاعن عبد المجيد بن جلون يوم وفاته كتابة الرّاثينَ، وإنما تبدع في رَصْد نهاياتهم من زوايا مبْتكرة تنضج بالذكاء ولكنها لاتعدم التواصل الإنساني العميق. ولكمَ قلتُ في نفسي إنَّ تتبع مسارك الصحفي هوتتبع لتطور الصحافة الوطنية منذ الإستقلال، لأنك دخلت عالَمَها وأنتَ صغير السن فامتزجتْ بها وامتزجت بك. أيها العزيز من أين أبدأ ذكرياتنا وهي جزء طويل من حياتي وحياتك؟ أأبدأ بأيام الفرح وقدَ تحلَّق الأصدقاء: محمد الصباغ ذو اللغة الصباغية التي نفتقدها اليوم، ومحمد برادة ومقالبُهُ التي لاتنتهي، وعبد السلام عامر وهو يرسل ضحكاته المجلجلة بالمرح والرضا، ومحمد العربي المساري وهو يردد أغنية فايزة أحمد الذائعة آنذاك: آخُذْ حبيبي يَانا يا أمَّه آخذ حبيبي يابَلاشْ أم أرُدُّك إلى أيام الشدة، وقد عصفت بنا الأهوال وعمَّ النفس شجن غامرٌ بما ابْتليَتْ به أوطاننا العربية من الماء للماء؟ كنت إذا ضاقت الأجواء بما رحُبت تفزع إلى البحر لتمارس هواية الصيّد أملا في تهدئة الباطن الملْتاع أمام الأمواج والمدَى، بعيداً عن ظُلم الإنسان للإنسان.. لكن هيهات! واليوم، ياصديقي العزيز، وأنا أمر بباب جريدة العلم، أعرف أن المرض حال بين قلمك العاشق والورقة البيضاء المنتظرة بشغف، فأحس أن شيئا دَفيناً بداخلي قد انكسر، لأننا في زمن عزَّ فيه الأصدقاء، حتى إذا شعرتُ أن ماءً مالحاً ملأ العَين فغَامَتْ الرؤية وارتعش الخاطر، ردَّدْتُ أبيات شاعرنا القديم: وأذكُرُ أيامَ الحِمَى ثمَّ أنثَني علَى كَبدي منْ خشيةٍ أنْ تصدَّعا فلَيْستْ عشيّاتُ الحِمَى برواجعِ ولكنْ خلِّ عيْنيْكَ تدْمَعَا بكتْ عيْني اليُسْرى فلَمَّا نَهيْتُها عنِ الجهْلِ بَعْدَ الحلْمِ اسْبلَّتا مَعَا