توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات        مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدرسة محمد جسوس، معلمة تعليمية تثقيفية ووطنية أسست على التقوى والإيمان والتصميم والعزيمة
كان للمرحوم عثمان جوريو دورا في تعلقنا بالدراسة وإذكاء الشعور في أنفسنا بالمسؤولية الوطنية
نشر في العلم يوم 24 - 03 - 2010

كان يوم فاتح أكتوبر 1934 على موعد مع حدث بارز كان الكل يتوق إليه وينتظره بشوق كبير، وآمال بالغة. فبعد انتظار طويل تم في ذلك اليوم الإعلان عن افتتاح مدرسة أحمد بلافريج، أو كما سماها مؤسسها »مدرسة محمد جسوس« طيلة الأسابيع السابقة كان الآباء والأمهات حريصين كل الحرص على أن يتم تسجيل أبنائهم في تلك المدرسة وكانوا منهمكين في تهييء ما يلزمهم من ملابس لائقة ومن أدوات مدرسية. علموا قبل الافتتاح بأن المدرسة لم تكن بعد جاهزة، ولكنهم اطمأنوا بعدما أخبروا بأن الافتتاح سيتم في الموعد المقرر، وذلك بعدما تفضل بعض الأخيار من عائلة غنام، المرحوم العربي غنام، بوضع منزله المجاور للمدرسة رهن إشارة الأستاذ أحمد بلافريج لتفتح فيه الدراسة مؤقتا ريثما تنتهي أشغال بناء المدرسة وذلك بعدما تأكد بأن ذلك المنزل كان كافيا في المرحلة الأولية لاستيعاب الموجة الأولى من التلاميذ.
في الصباح الباكر من ذلك اليوم حملني والدي رحمة الله عليه إلى المدرسة وأنا لم أتم بعد الخامسة من عمري. كنت طيلة الطريق مبتهجا فرحا بملابسي الجديدة ومحفظتي الصغيرة غير واع ولا مبال بما كان ينتظرني. أمام باب المنزل الكبير كان جمع غفير من الأولاد الصغار والكبار وبمعيتهم مرافقوهم وهم ينتظرون أن يسمح لهم بالدخول، وهم في هرج ومرج يصيحون ويضحكون ويقفزون. لست أدري ماذا انتابني في تلك اللحظة من شعور عميق بالخوف والفزع وأنا وسط تلك الضوضاء التي لم أكن متعودا عليها. من الغريب أنني ما زلت أذكر إلى يومنا هذا ذلك الوضع الذي كنت فيه، وتتماثل أمام عيناي تلك الصورة التي كنت عليها وأنا متشبث بالباب الكبير الأحمر اللون أجهش بالبكاء رافضا الدخول إلى صحن المدرسة رغم محاولات من كان حولنا وإصرار والدي رحمة الله عليه الذي لم يسعه في الأخير إلا أن يعود بي إلى البيت وهو يفكر بلا شك في خطة ما لإعادتي من جديد إلى المدرسة. بعد ظهر ذلك اليوم حملني والدي إلى »مسيد« أي كتاب كان يقع، على ما أظن، بشارع الجزاء بالمدينة القدمة. أخذ بيدي وأدخلني ذلك المكان الذي كان عبارة عن حجرة صغيرة وبسيطة كل البساطة وتوجه إلى »الفقيه« الذي كان جالسا بالقرب من المدخل. عانقه والدي وكأنه كان من معارفه وهمس في أذنه ثم انصرف تاركا إياي في ذهول تام. وجدت نفسي وسط عدد من الأطفال الجالسين على الحصير وهم يتلون ما في ألواحهم من آيات القرآن الكريم، بأصوات عالية و»الفقيه« أمامنا وبيده قضيب لم أر أطول منه من قبل، يحركه في كل اتجاه مهددا باستعماله مع »الفلقة« التي كانت معلقة على الحائط وهو يوجه إلي من حين لآخر، نظرات يتطاير منها الشرر. لم يكن لي عهد من قبل بالكتاب إلا ما حدث لي وأنا دون الرابعة من عمري حينما كان أستاذا من أقاربي يأخذني معه إلى كتاب بزنقة للا أم الكنابش بالمدينة العتيقة يحفظ فيها القرآن للأطفال وكان يجلسني بجانبه. وفي يوم من الأيام قيل إنني حفظت بعض آيات القرآن الكريم فنظم لي احتفال يطلق عليه إسم »الحدقة« وذلك بخروج التلاميذ في موكب طويل وكنت أنا في مقدمتهم وهم يحملون الألواح القرآنية فوق رؤوسهم، وهم ينشدون »كلام الله الحق علينا وما محمد إلا نبينا...« مخترقين المدينة إلى باب البويبة متجهين إلى منزل جدي الحاج أحمد القباج، وهو المنزل ذي الهندسة المغربية الذي ولدت فيه والذي كان خارج الأسوار بزنقة »ريشار ديفري« التي يطلق عليها اليوم إسم زنقة الإسكندرية. هناك استقبلتنا العائلة بالزغاريد والطبول وبالعناق والقبل وبما لذ وطاب من شفنج وحلويات وشاي، الشيء الذي أدخل في نفسي وفي قلوب رفاقي كثيرا من البهجة والسرور والارتياح، أما في كتاب زنقة الجزاء فالأمر كان مختلفا جدا حيث لجأ الفقيه إلى إدخال الرعب في قلبي وذلك بلا شك بإيعاز من والدي فكان من نتيجة ذلك أن صممت على عدم العودة إلى ذلك المكان »المرعب« مفضلا الذهاب من يوم غد إلى المدرسة.
في صباح اليوم التالي وجدت نفسي في المدرسة رفقة أحد أقاربي الأكبر مني سنا كان، على ما أذكر، هو خالي عبد القوي القباج طلبت بأن يدخل معي القسم ويجلس بجانبي ليكون مشجعا ومطمئنا لي. كان القسم عبارة عن قاعة مستطيلة تحتوي على عدة مقاعد للدراسة في جانبيها وقد امتلأت بعدد كبير من الأطفال من مختلف الأعمار. كان من حظي الجلوس في كرسي في المؤخرة استطعت منه مشاهدة ما يجري وما يدور في القاعة. مازالت عالقة بذهني إلى اليوم، صورة ذلك الرجل الذي كان يرتدي جلبابا أبيض وطربوشا أحمر، رشيق القامة، وسيما وهو يرسم على لوحة سوداء خطوطا جميلة علمت فيما بعد أنها حروف ومفردات. كان يقرأ ما كتب على اللوحة السوداء بصوت ناعم ويطلب منا ترديد ذلك من بعده. ذلك الرجل كان هو الحاج عثمان جوريو رحمة الله عليه، الذي ظل معلمي ومربيا لي طيلة السنوات الست أو السبع التي قضيتها بمدرسة أحمد بلافريج، والتي تكللت بنجاحي في امتحانات الشهادة الابتدائية ولم ينقطع أبدا اهتمامه بي وبرفاقي القدماء بعدما التحقنا بثانوية مولاي يوسف أوم بغيرها وذلك بمساعدتنا وتوجيهنا وإذكاء الشعور في أنفسنا بالمسؤولية الوطنية.
اندمجت شيئا فشيئا في الأجواء التي كانت تحيط بي وأنا أحاول المشاركة مع أندادي من الأطفال في ترديد ما كان ينطق به الأستاذ إلى درجة أننيي عندما تفقدت مرافقي الذي جلس بجانبي تشجيعا لي على الدخول إلى القسم اكتشفت أنه قد انسحب وتركني وحدي. كانت تلك بداية تقبلي لوضعيتي الجديدة كتلميذ مطالب بتحمل مسؤوليته المدرسية. كنت أمضي يومي كله في المدرسة تأخذني السيارة في الصباح الباكر بالقرب من بيت جدي الحاج أحمد القباج، رحمة الله عليه وتعيدني مع رفاقي في المساء إلى نفس المكان. كان يصحبنا في الذهاب والإياب رجل دمث الأخلاق يرعانا برفق وعناية كان على ما أذكر يقوم بمهمة حارس عام في المدرسة. ذلك الرجل هو السي الحبيب الذي ظل وفيا للمدرسة ولصاحبها، طوال حياته إلى أن بلغ من الكبر عتيا كنت عند انتهاء الدروس الصباحية آخذ حريتي وأتمتع باللعب مع أصدقائي الجدد من عائلات بركاش، وبوهلال ، وفرج، ولوراوي وغيرهم، فكنت أرتاح إليهم كثيرا وأنسجم معهم كل الإنسجام ثم أذهب بعد ذلك إلى مكان الخدمات ومطبخ المدرسة وما كان يسمي »الدويرة« حيث كنت أجد من النسوان اللواتي كن يقمن بأعمال التنظيف ومغسل الثياب وطبخ الطعام على أفران الفحم التقليدية ترحابا كبيرا جعلني أطمئن إليهن وألجأ إليهن في كل وقت عند الحاجة كن يعرنني كثيرا من الاهتمام وينادينني باسمي، كأنهن يعرفنني يعرفن أسرتي فيساعدنني على قضاء حاجاتي وارتداء ملابسي ويعاملنني بكل لطف وحنان.
٭ ٭ ٭
لست أدري كم مضى من أسابيع أو شهور ونحن نتابع دراستنا في دار عائلة غنام، وحديقتنا الكبيرة. كانت هذه الدار بالنسبة لأحمد بلافريج سفينة النجاة لمشروعه بعدما تبين له بأن بناء المدرسة لم يكتمل بعد وأن عليه أن يستعمل هذا المنزل الذي سخرته له الأقدار الالاهية، ولو مؤقتا لئلا تضيع السنة الدراسية.
كان حقا مكانا لائقا ومؤهلا لاستقبال الفوج الأول من التلاميذ. وأظن أن المدة التي قضيناها في ذلك المنزل لم تكن طويلة، فلم نشعر نحن التلاميذ بالانتقال إلى البناية الجديدة. وقد تم ذلك ولا شك بدون مشاكل أو عوائق، ونحن في عطلة من العطل المدرسية.
كانت المؤسسة الجديدة بالنسبة لنا كما هو الحال بالنسبة لصاحب المدرسة وللأساتذة مكانا أليق وأكثر تأهيلا للعمل الدراسي، لأنها كانت تتوفر على عدد كبير من الأقسام في طابقين، ومكاتب وقاعات لنوم الداخليين ومطعم كبير، ومسجد وساحة واسعة للرياضة وأوقات الاستراحة كما اختار لها مهندسها مدخلا وبهوا في كامل الرونق والبهجة.
لقد صادف تحولنا إلى البناية الجديدة انتقالنا من بيت جدي بزنقة ريشار ديفري (الاسكندرية حاليا) إلى منزل أجره والدي رحمه الله، بحي »ديور فرج« بجوار »قرية الأحباس« أصبحت بسبب ذلك لا أحتاج إلى السيارة لتنقلني إلى المدرسة لأن منزلنا الجديد لم يكن بعيدا عنها كثيرا. كان من حظي أن تعرفت بعد عقد أو عقدين من الزمان، على صديق جديد أتي من مدينة مكناس، كنت أناديه أول الأمر، باسم محمد بن الطاهر، وفي يوم من الأيام، سنحت لي الفرصة بزيارة مدينة مكناس، وسألت عنه عددا ممن كانوا موجودين بالحي الذي كان يقطن فيه فلم أهتد إليه إلا بعدما أخبرني بعض تجار المنطقة بأن اسمه المعروف به في ذلك الحي هو محمد المسطاسي، كان يقطن في الرباط، في بيت لا يبعد عن منزلنا كان لأخيه الأكبر منه سنا، المرحوم المجاهد الفقيه غازي. كان الأخ المسطاسي يأبي إلا أن يمر علي في الصباح وبعد الظهر، ليأخذني معه إلى المدرسة فكان لي حقا خير أنيس في غدوي ورواحي، وأعز رفيق في جميع أطوار الدراسة وأوفي صديق في كل المراحل التي جمعتنا طوال حياتنا إلى اليوم.
قصة مدرسة محمد جسوس، هي قصة معلمة تعليمية وتثقيفية ووطنية أسست على التقوى والإيمان والتصميم والعزيمة، من طرف رجل وطني فذ في ظروف مذلهمة تحت احتلال استعماري بغيض، وبعد سنوات قلائل من الحوادث الدامية التي أعقبت صدور الظهير البربري سنة 1930 .فكرة إنشاء هذه المدرسة راودت الأستاذ أحمد بلافريج رحمة الله عليه وألحت عليه واستحوذت على مجامع وجدانه فبدل أن يستعمل ما أوصى له به خاله محمد جسوس من ثلث ميراثه للاتجار أو لأي عمل مربح فضل انجاز مشروع وطني لم يكن يرمي من ورائه الحصول على أي ربح مادي. لقد لقي أشد العنت في سبيل تحقيق أمنيته إذ واجهته إدارة الحماية الفرنسية برفض إعطائه الرخصة الإدارية الشيء الذي اضطره إلى بذل شتى الجهود المضنية واللجوء إلى الحكومة الفرنسية واستعمال كل وسائل الضغط القانونية والسياسية مع تدخل كثير من معارفه الفرنسيين في باريس لإلزام السلطات الإدارية الفرنسية بالتراجع عن قرارها بالمنع. وبالفعل تمت الموافقة علي افتتاح المدرسة بالرغم من تلكؤ بعض الاستعماريين في الإقامة العامة الذين كانوا يرون في هذه المؤسسة خطرا على سياستهم الاستعمارية.
اختار أحمد بلافريج إطلاق إسم محمد جسوس على المعهد الذي تعب وكافح من أجل إخراجه للوجود، عرفانا منه بالجميل لخاله الذي ساهم في تربيته، وسهر على تعليمه ووهب له ثلث ميراثه وهذا مثال للوفاء الصادق ونكران الذات. لكن جيل التلاميذ الذين حطوا رحالهم في هذا المعهد بمجرد افتتاحه والذين استقبلهم
أحمد بلافريج بنفسه، وبابتسامته وبشاشته المعهودتين، ويسر لهم سبل التعلم والمعرفة، والتربية الوطنية الصادقة، ومع تقديرهم لما أسدى إليه خاله من معروف، كان بودهم، إنصافا للحقيقة والتاريخ، لو أطلق اسمه على المدرسة لا اسم غيره، أو على الأقل، أن يوضع له نصب تذكاري، عند مدخل المعهد، ليكون شاهدا للأجيال الصاعدة على ما أنجزه هذا الرجل المثالي، في سبيل العلم والمعرفة والوطنية.
كيف لا؟ وهو الذي اهتدى بفضل من الله وبما وهبه الله من شعور عميق بالمسؤولية الوطنية، وبحاجة المغرب إلى تعليم أبنائه العلم القويم، الذي يؤهلهم لتحمل المسؤوليات، والقيام بالواجبات الوطنية، إلى تحقيق هذا المشروع التعليمي الوطني بل وإلى اختيار النظام التعليمي الذي يفي بالمقصود، والذي يرتكز بالأساس، على الأصالة، مع الأخذ بعين الاعتبار، ضرورة الالتزام بمتطلبات العصر، وذلك باعتماد التدريس باللغتين العربية والفرنسية مع تساويهما في الحصص والبرامج. لم يكن ذلك قرارا اعتباطيا، ودون تمحيص، بل ارتكز على تفكير حكيم. فقد كان المغرب يعيش في ظل نظام الحماية الذي كان يعرقل أي تقدم صحيح للبلاد، وكان لابد من تكوين الأجيال الصاعدة تكوينا متينا وجامعا، للتمكن من متابعة الدراسة في المعاهد العليا، ومواجهة المستعمر بسلاحه ، وتحمل أعباء معركة التحرير. كانت هذه هي فلسفة أحمد بلافريج التي استلهمها من تجاربه الشخصية. فقد ابتدأ دراسته الابتدائية، بعد الكتاب، في مدرسة أبناء الأعيان بالرباط، وكانت باللغتين العربية والفرنسية وكان له فيها تفوق ونجاح كما جاء فيما روى عنه والدي، رحمه الله، فمما جاء على لسان والدي الذي كان من رفاقه في نفس القسم من مدرسة الأعيان، أنه قبيل إحدى دورات الامتحان اطلعهم أستاذهم الفرنسي على الموضوع الذي كان سيطرح في امتحان الإنشاء بالفرنسية بل زاد على ذلك بأن زودهم بنص نموذجي في الموضوع نفسه. وعند إعطاء النتائج تبين أن جل الممتحنين رسبوا في تلك المادة، لأنهم كتبوا نفس النص الذي كتبه الأستاذ بحذافره، إلا أحمد بلافريج الذي جاء إنشاؤه مختلفا تمام الاختلاف. السبب في ذلك، أن التلميذ بلافريج كان غائبا، لتوعك في صحته في اليوم الذي كشف فيه الأستاذ عن موضوع الامتحان.
بعد نجاحه في المرحلة الابتدائية، انتقل إلى ثانوية مولاي يوسف، ثم إلى ليسي كورو للحصول على شهادة الباكلوريا، ثم التحق بعد ذلك بباريس، حيث سجل نفسه بالسوربون وحصل فيها على اللسانس في الآدب وعلى دبلوم الدراسات العليا. لم يكتف أحمد بلافريج بذلك، بل اغتنم فرصة وجوده بباريس لينتقل إلى القاهرة، ويدخل كلية الآداب في الجامعة المصرية، ليزداد تمكنا من لغته العربية والإلمام بالحركة الأدبية والثقافية والدينية والسياسية في مصر. وسواء في باريس أو في القاهرة، وبفضل نشاطه وذكائه الثاقب استطاع أن يتعرف على عدد من الشخصيات ويربط معها اتصالات سياسية وثقافية مفيدة مكنته من القيام بنشاط ملحوظ لصالح القضية المغربية. ومن بين الشخصيات التي تعرف عليها وارتبط بها ارتباطا وثيقا، على الخصوص، الأمير شكيب أرسلان، الذي اتخذ منه صديقا ، بل اعتبره بمنزلة ابنه، ولم يأل جهدا في دعمه، وتشجيعه ومؤازرة الحركة الوطنية في المغرب. كما استطاع، بمعية كثير من إخوانه الوطنيين، وأصدقائه الفرنسيين الأحرار، من إصدار مجلة »مغرب« الشهرية، التي كانت تصدر باللغة الفرنسية، والتي كان يكتب فيها فرنسيون أحرار، من بينهم من كانت المجلة تصدر باسمه طبقا للقانون الفرنسي.
بفضل ذلك الرصيد الهائل من التجارب والدروس، استطاع المرحوم أحمد بلافريج أن يكون فكرة ساطعة لما كان يريد تحقيقه من مناهج تعليمية في مدرسته الغراء. كان يرغب في أن يكون مسار الأجيال التي كانت تتربى وتتعلم في معهده ، مسارا يرتقي بهم إلى أعلى مراتب العلم والعزة والكرامة. لهذا الغرض، حرص على اختيار أجود الكتب المدرسية، التي لا تكتفي بتلقين اللغة، سواء منها العربية أو الفرنسية، بل تعطي دروسا في الأخلاق والاستقامة والإخلاص والشجاعة والمروءة وغيرها.
ومن تلك الكتب أذكر، على سبيل المثال، كتاب »القراءة المصورة« التي كنا، ونحن صبيان نستمتع بما فيها من حكايات وروايات كانت ترسخ في نفوسنا تلك الخصال والسجايا التي كانت ترمز من وراء سردها. ومَن مِن جيلنا لا يذكر تلك القصص الشيقة والهادفة مثل قصة »الملك والطحان« و قصة »الحلاق الثرثار« وغيرهما؟
لاشك في أن اختياره للبرامج والكتب وغيرها كان بمساعدة عدد من إخوانه في الحقل الوطني، وخاصة ممن اختار من الأساتذة والمعلمين الأجلاء، الذين ساهموا بحظ وافر في أن تكون مدرسة أحمد بلافريج رائدة في ميدان التعليم والتربية بالمغرب. لقد كان هؤلاء الأساتذة الذين عرفناهم وعاشرناهم، طيلة مدة دراستنا، رمزا للتضحية والإخلاص، ونكران الذات. كان عملهم لا يقتصر على تلقيننا العلم والمعرفة، بل كان يهدف كذلك إلى أن يبعثوا في أنفسنا حب البحث والتنقيب، بمداومة مطالعة الكتب والشعور بالمسؤولية التي تنتظرنا في مستقبلنا.
كان أول شخص بادرتني طلعته البهية، في بداية افتتاح المدرسة، وأنا لا زلت طفلا غريرا أستاذنا الجليل المرحوم الحاج عثمان جوريو الذي كان لي ولعدد من رفاقي، طيلة السنوات التي قضيناها في هذه المدرسة الابتدائية، والسنوات التي تلتها، كان لنا خير معلم ومؤدب ومرب وحافز لهممنا ولشغفنا بالأدب والشعر والفن والموسيقى.
كان محل إعجابنا وتقديرنا ، لما حباه الله به من دماثة الأخلاق، ورقة الشمائل ولين الجانب، ولما وهبه الله في كتابته من خط جميل، وفي صوته من رقة وحلاوة في قراءة الشعر، وترتيل وتجويد آيات القرآن الكريم، وفي أنامله من دقة في العزف بشذى الألحان والأناشيد على آلة البيانو. كان نشاطه الدائم معنا لا يقتصر على تعليمنا في المدرسة، بل كان يستمر خارجها، سواء في بيته ليحفظنا الأناشيد وهو يعزف على البيانو أو يقرئنا شذرات من الشعر والأدب العربي، أو عندما ينظم لنا رحلات خارج الرباط في افران أو عين خرزوزة أو أماكن أخرى. مازلت أذكر، بشوق وحنان، تلك الأيام الشيقة، التي كنا نقضيها بافران، ببيت كان يملكه المرحوم فتح الله لوراوي، بمعية رفاق أعزاء، والتي كان أستاذنا الجليل يحرص كل الحرص، أثناءها على أن يقوم بنفسه بكل ما يلزم ليكون مقامنا ممتعا ومفيدا في آن واحد. كانت هذه مناسبات لتعليمنا الاعتماد على النفس، وتربية شخصيتنا وملكاتنا لمواجهة أعباء الحياة. وخلاصة القول، كان أستاذنا يعمل ما لديه من طاقات، ليغرس في نفوسنا مقومات العمل والكفاح وحب الوطن. كان في كل هذا وذاك سندا ودعما قويا لأحمد بلافريج عند تأسيسه للمدرسة وفي كل مراحل تسييرها، وحتى عندما امتدت يد الاستعمار الغاشم الى سجن صاحبها أو نفيه. بقي الأستاذ جوريو وفيا لعمله في مدرسة محمد جسوس، وبعدها في المدارس الحرة الأخرى، وفي جهاده في الحقل الوطني، بالرغم من محاولات السلطة الاستعمارية إغراءه بوظيفة في الدوائر المخزنية. فقد جاء في حديث له، أنه تم استدعاؤه من طرف أحد المسؤولين في إدارة الحماية، وطلب منه التخلي عن عمله في مدرسة أحمد بلافريج، مقابل تعيينه في وظيفة إدارية، بمرتب أعلى مما يتقاضاه في تلك المدرسة. وكان والدي، رحمه الله، وكما حكى لنا، يقوم بالترجمة، وفي آن واحد يشير إليه من طرف خفي، ألا يقبل ما أريد إغراؤه به. وكان هو كذلك مصمما على عدم السقوط في الفخ الذي نصب له.
كان كذلك من بين الأساتذة الأخيار، الذين اختارهم المرحوم أحمد بلافريج ليكونوا بجانبه، وليقوموا بتثقيفنا وتربيتنا، المرحوم الفقيه الجليل محمد العوينة الذي لم يأل جهدا في تحفيظنا سورا من القرآن الكريم، وتلقيننا مبادئ ديننا الحنيف والسنة النبوية. مازلت أذكر صورته بلباسه التقليدي، وهو مقبل من المدينة، راجلا يحث الخطى، في مشية رياضية، وشفتاه لا تفتر عن الحركة بذكر الله والصلاة على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم. كان رحمة الله عليه حازما كل الحزم مع من يتخاذل في حفظه للآيات القرءانية التي كان يحفظنا إياها، وخاصة مع التلاميذ كبار السن، الذين كانوا يظهرون أشد أنواع التمرد، فيعاملهم بشدة، مستعملا معهم كامل وسائل الردع، كآلة »الفلقة« التي كان يلجأ إليها، عادة، فقهاء الكتاتيب لذلك كنا نهابه، ونخشى بأسه. لكننا أحببناه، لما كان يبدي نحونا من لطف ورعاية في معاملتنا، وحرصه الشديد على تنشئتنا التنشئة الصالحة.
كان لنا في القسم التمهيدي والأقسام الأولية أساتذة آخرون يلقنوننا مبادىء اللغة، وبعض سور القرآن القصيرة. نذكر منهم، على الخصوص، المرحوم الحاج محمد بالعياشي، الذي كنت أعرفه من ذي قبل، كواحد من أقرب الأقربين، إذ كان زوجا لإحدى أعز خالاتي. كان رحمة اللّّه عليه، كثير الاهتمام بي مع شيء من القسوة والغلظة أستحقها بلاشك في بعض الأحيان، فألجأ، حينذاك، إلى خالتي، وأنا طفلها المدلل، أشكو إليها ما أتعرض له من عقاب أحسبه غير عادل. كان المرحرم الأستاذ بالعياشي، في الحقيقة، رجلا تقيا مخلصا في عمله مهتما بجميع تلامذته الصغار، باذلا ما لديه من طاقة لتربيتهم ومساعدتهم على حفظ ما تيسر من آيات الذكر الحكيم. كان، في الواقع، يعتبرني كابن له ويخصني بعنايته قبل دخولي إلى المدرسة، فهو الذي كان يحملني معه إلى كتاب للا أم الكنابش، ويجلسني بجانبه، وأنا دون الرابعة من عمري، إلى أن جاء اليوم الذي قرر فيه بأنني قد حفظت آيات من القرآن الكريم، فأستحق على ذلك أن ينظم لي احتفال بما كان يسمى »الحدقة«، شارك فيه كما ذكرت من قبل، جموع من صبيان »المسيد« يحملون الألواح القرآنية، وهم في موكب طويل، مخترقين أزقة مدينة الرباط العتيقة، ومتجهين خارج أسوارها إلى بيت جدي، حيث وجدنا أفراد العائلة قد هيئوا لنا استقبالا بهيجا.
لايفوتني، كذلك، أن أخص بالذكر، المرحومين الفقيهين الجليلين محمد الروندة ومحمد العوني، اللذين كان لهما الفضل، كذلك في المراحل الأولى من دراستنا، في تلقيننا مبادىء التربية الدينية وتحفيظنا ما تيسر من كتاب اللّه العزيز.
كان لنا بين فترات من الدروس، سواء منها العربية أو الفرنسية أوقات للراحة نقضيها في ساحة المدرسة بين اللعب والدردشة مع الأقران، وكانت هذه الساحة كذلك، مكانا خاصا لحصة الرياضة. وكان معلمنا في ذلك، المرحوم السيد بوبكر الأزرق، من ألطف الناس بشاشة وخفة ونشاط كان يركز دروسه على شتى أنواع الرياضة، مختتما إياها بالأناشيد المرحة، أو على الخصوص، نشيد المدرسة الذي كان مطلعه:
»نحن أبناء محمد جسوس كلنا لصرح الوطن أسس«
أما عن تعليم اللغة الفرنسية، فكان لنا في السنوات الأولى معلمون مقتدرون، كان لهم الفضل في تعليمنا المبادىء الأولى للغة لامارتين تعرفنا في أول أيامنا بالمدرسة، على المرحوم الأستاذ عمر مدون، الذي كان معلما متميزا بالدقة في تعليمنا مبادىء القراءة باللغة الفرنسية. لم يكن ذلك بالسهل بالنسبة لنا، نحن الأطفال الصغار، خاصة وأن قسمنا كان يحتوي في موخرة القاعة على عدد من كبار التلاميذ، الذين كانوا، رغم صرامة الأستاذ يسعون الى خلق نوع من البلبلة، الشيء الذي كان ينقلب علينا بما لا تحمد عقباه، على كل حال كان المرحوم عمر مدون، كما كان غيره من معلمي الفرنسية في المراحل الأولى، كأمثال المرحومين أحمد الزغاري وعمر عواد ممن أدوا الأمانة بصدق ونكران للذات.
أما في قسم الشهادة الابتدائية وما قبلها فقد من الله علينا بأستاذين كريمي الخصال متشبعين بروح التضحية في سبيل تحقيق ما كنا نأمله من نجاح، كان للمرحوم السيد الصديق العلوي، وهو ابن أخت المرحوم المجاهد الحاج عمر بن عبدالجليل، كان له الفضل الكبير في تهييء تلاميذ السنة الأخيرة للحصول على أحسن النتائج في امتحانات الشهادة الابتدائية مما أكسب مدرسة محمد جسوس منزلة رفيعة، لم تكن لتروق أولي الأمر في دوائر الحماية. كانت دروس الأستاذ الصديق العلوي في مواد الحساب واللغة، بما فيها الإملاء والإنشاء، ترتكز على التمارين التطبيقية أكثر مما كانت تعتمد على المعلومات النظرية. كان رحمة الله عليه لا يبخل على تلامذته بإعطائهم دروسا إضافية في كثير من الأوقات وذلك عن طواعية وبروح رياضية. وكنت شخصيا من بين الذين استفادوا أكثر من غيري من هذه الدروس التكميلية خاصة وأن السيد الصديق العلوي كان يسكن في شقة بجوار بيتنا بحي »ديور فرج«
كان للمرحوم الأستاذ محمد بنشقرون، هو كذلك بدوره، تأثير كبير في تعليمنا اللغة الفرنسية تعليما متينا، كانت له نتائج جد ايجابية. كان رحمة الله عليه ، بهي الطلعة أنيقا في ملبسه الإفرنجي وفي كيفية وضعه المتميز لطربوشه على رأسه، وفي مشيته المتأنية. يحكي لنا في ذكرياته بالفرنسية، تحت عنوان »ذكريات مقاوم شخصية« جاء فيها »أن المجاهد الفقيه غازي، رحمة الله عليه، طلب مني أن أترك فاس وألتحق باستعجال بالرباط، لأقوم بتكليف من »اللجنة« (يقصد بها الهيأة العليا للحركة الوطنية في تلك الفترة)، بمهمة خاصة لدي مؤسسة محمد جسوس. في الرباط، مكثت مدة أسبوع، ضيفا على الفقيه غازي، قبل أن أسكن مع المرحوم الأستاذ الصديق العلوي في شقته »بديور فرج«. أخبرني الفقيه غازي بأنني مكلف بمهمة تقصي أحوال المدرسة وما يقع فيها في غياب الحاج أحمد بلافريج الذي كان يوجد خارج المغرب. وكتغطية لمهمتي، قدمت للمدير المرحوم السيد المالقي، الذي استقبلني بحفاوة، على أساس أن أكون مدرسا للغة الفرنسية«. وبالفعل وكما زاد قائلا في مذكراته »أديت مهمتي على أحسن ما يرام، ونجح جميع تلامذتي في امتحانات آخر السنة، منهم اثنان حصلا على التهنئة عباس بناني، رجل أعمال بالدارالبيضاء، وتوفيق القباج، ابن المجاهد السي عبدالجليل القباج... وبالموازاة مع عملي بالمدرسة، استطعت تهييء السنة الأولى للباكلوريا، وتتبعت دروسا في الموسيقى«. ثم زاد الأستاذ بنشقرون منوها بما لقي من عائلات التلاميذ بالرباط من ترحاب وعناية وكرم حاتمي عندما كانوا يستقبلونه، ويحتفون به في بيوتهم، وخص منهم بالذكر »عائلة بنعبدالله الأزرق، التي كانت تقطن في رقم 8 زنقة الزبدي«.
ومما جاء كذلك في مذكراته »أبلغني السيد محمد غازي في دسمبر 1941 تعليمات السيد الحاج أحمد بلافريج الذي كان في منفى اختياري بأوروبا، يكلفني فيها بجمع أكثر عدد ممكن من قدماء تلاميذ مؤسسة جسوس، والتفكير، بمساعدة مسؤولي الحركة الوطنية، في تأسيس جمعية لهؤلاء القدماء، من أجل ذلك، وضعت قائمة بحوالي ثلاثين تلميذا، تمت دعوتهم لاجتماع أولي، بمزرعة بركاش بنواحي الرباط، على ضفة نهر أبي رقراق، تحت خيام قيادية. فما أروع ذلك الجمع، الذي كان حقا حدثا فريدا من نوعه وموسما ثقافيا حقيقيا«.
ومما ورد كذلك في مذكرات المرحوم الأستاذ بنشقرون، أنه، بعد انتهاء مهمته بمدرسة محمد جسوس، عاد الى مدينة فاس، حيث كان له نشاط كبير في الميدان الوطني، وخاصة في إطار حزب الاستقلال. واثر نفي السلطان محمد بن يوسف أسس خلية للمقاومة أبلي فيها مع رفاقه البلاء الحسن، الى أن ألقي عليه القبض هو وإخوانه ثم حكم عليه، وعلى تسعة آخرين بالإعدام، نفذ في أربعة منهم، وبقي هو ينتظر نفس المصير، لولا أن شاءت الأقدار، أن يعود الملك محمد الخامس من منفاه في 16 نوفمبر 1955، وأن يفرج عنه، ولو أن ذلك لم يتم إلا بعد ستة أشهر. تقلد، بعد ذلك، عدة مناصب، ككاتب عام لعمالة مدينة فاس، أو مدير لشركات مختلفة، سواء في فاس، أو في الدارالبيضاء.
هيأ الله لنا اللقاء به بعد سنين طويلة، كان الفضل فيها، بعد الله، لأخينا المرحوم الدكتور عبدالسلام الحراقي الذي عرفته، منذ صباي، في إطار الكشفية الحسنية عندما كنت جرموزا تحت قيادته. باعدت بيننا وبين المرحوم الأستاذ بنشقرون سنين طويلة، حالت دون اللقاء به منذ طفولتي، فكان اللقاء بمنزله بالدارالبيضاء وجدته لأول مرة مفعما بالفرحة والبهجة، مليئا بالشجن، استرجع أثناءه ذكرياته، حلوها ومرها، وكان، رحمة الله عليه، يستزيد من لقاءاتنا، وكأن الأقدار لم تفرق بيننا سنين طويلة، ابتداء من السنة الدراسية 1941 1942 ، بمدرسة أحمد بلافريج الى اليوم الذي من الله علينا فيه بلقاء لم يدم إلا بضع سنوات، قبل أن تختطفه منا المنون، على حين غرة جازاه الله عنا خيرا وأسكنه فسيح جناته.
كان الحاج أحمد بلافريج، وهو بعيد عن الوطن، مهتما بالمدرسة يستقصي أخبارها، ويعطي تعليماته لتكون مؤسسته في المستوى المطلوب، في وقت كانت له فيه مشاغل سياسية ووطنية ذات أهمية قصوى. ومع ذلك لم يقتصر اهتمامه بشؤون المؤسسة وبمن فيها من أساتذة وتلاميذ فحسب، بل كان يرغب في أن يكون لها امتداد في جمعية تضم جميع من تخرج منها من التلاميذ، يكون لها دور فعال في الحقل الاجتماعي والوطني. لم تتحقق تلك الرغبة في المبادرة التي تمت في ديسمبر 1941، من طرف المرحوم الأستاذ محمد بنشقرون، والتي توجت »باجتماع الولجة«، كما أشرت إلى ذلك من قبل وذلك لأسباب نجهلها ولكن من الممكن أن تكون بسبب عدم توفر العدد الكافي من القدماء أو لظروف تتعلق بالحرب العالمية الثانية وغياب السيد أحمد بلافريج في سويسرا حيث أجريت له عملية جراحية في الرئة، انتقل بعدها إلى طنجة بعد تماثله للشفاء.
لم يعد الأستاذ بلافريج إلى الرباط إلا في سنة 1943 ليستأنف مع إخوانه في الحركة الوطنية وفي إطار »الطائفة« التي كانت الجناح السري للحزب، نشاطه في بلاده، خاصة بعدما تبين له ولإخوانه قرب انتهاء الحرب لصالح الحلفاء. فجاء التفكير بجد في المطالبة بالاستقلال، التي توجت فعليا بتحرير وثيقة 11 يناير 1944، التي قدمها وفد برئاسته إلى السلطان محمد بن يوسف. كما تم آنذاك الإعلان عن تأسيس حزب الاستقلال، وانتخاب الأستاذ بلافريج أمينا عاما له. في يوم 29 يناير 1944، أقدمت سلطات الحماية على اعتقاله واعتقال المرحوم محمد اليزيدي، الأمر الذي أدى إلى قيام الجماهير الشعبية من جميع الأطياف، بمظاهرات شعبية صاخبة بحي »تواركة«، وكذا طلاب المدارس، وخاصة تلاميذ ثانوية مولاي يوسف،الذين داهموا المدير الاستعماري »روكس«، الذي حاول منعنا من الخروج، ونحن نهتف بالاستقلال، ونطالب بإطلاق سراح الزعماء الوطنيين. أمام عنف المظاهرات، اضطر مسؤولو الحماية إلى إطلاق سراح اليزيدي. أما الأستاذ بلافريج، فقد لبث في السجن لمدة قصيرة، ثم وقع نفيه بعد ذلك من قبل سلطات الحماية إلى كورسيكا، كما وقع الاعتداء على مدرسته، بتعطيل الدراسة فيها، واحتلالها من طرف القوات العسكرية الفرنسية، التي عاثت فيها فسادا.
بعد الانفراج الذي وقع إثر تلك الفترة العصيبة، في الأجواء السياسية، تبعا لقرار الحكومة الفرنسية تم فتح قنوات الحوار مع كل من جلالة السلطان محمد بن يوسف وزعماء الحركة الوطنية وتعيين »اريك لابون« كمقيم عام مدني في شهر يونيو 1946، عاد الأستاذ بلافريج من منفاه بكورسيكا إلى الرباط، حيث استأنف نشاطه في الحقل الوطني، وفي المدرسة، التي احتاجت إلى ترميمات مهمة بسبب الدمار الذي خلفه فيها الجيش الفرنسي عند احتلالها والاستيلاء عليها. وكان من أوائل الأساتذة الذين لبوا نداء الواجب والتحقوا، من جديد، بالمدرسة، أستاذنا المرحوم الحاج عثمان جوريو، الذي كان سندا قويا لصاحب المدرسة، في تلك الظروف الصعبة، والذي أبى إلا أن يستأنف فيها عمله التعليمي والوطني، رغم الصعوبات والعوائق، قبل أن يتم تعيينه بظهير شريف، بمعية المرحوم المجاهد الحاج أحمد الشرقاوي، على رأس مدارس محمد الخامس.
من بين المهرجانات والاحتفالات، التي أقيمت بمناسبة عودة الأستاذ بلافريج، كانت تلك التي نظمتها ثلة من قدماء المدرسة، بالتعاون مع المسؤولين فيها، وخاصة المرحوم الأستاذ الحاج عثمان جوريو، استدعي لها عدد كبير من الشخصيات، غالبيتهم من الرباط والدار البيضاء، من علماء وفقهاء ورجال أعمال وغيرهم. أقيم الحفل أمام ساحة المدرسة، التي اكتظت بالمدعوين، وقد توسطهم أستاذنا بلافريج. كان الحفل بسيطا، ولكن كان له وقع كبير في نفوس الحاضرين، حيث قام بإحيائه بعض صغار تلامذة المدرسة، الذين اصطفوا في أعلى الدرج المقابل للساحة وقدموا عروضا فنية متنوعة من تمثيليات وأناشيد وطنية وأشعار وكلمات ترحيبية. وأخذت بهذه المناسبة صورة تذكارية للمدعوين، (أنظر نسخة للصورة في الملحق رقم5)، وأخرى لعدد كبير من قدماء التلاميذ يتوسطهم أستاذنا الحاج أحمد بلافريج المحتفى به. (انظر نسخة للصورة في الملحق رقم6).
كان هذا الحفل مناسبة لإعادة إثارة فكرة تأسيس جمعية قدماء تلاميذ مدرسة محمد جسوس. كان المرحوم الحاج أحمد بلافريج داعيا ومتحمسا لها، ومشجعا لنا لتحقيقها في أقرب الآجال مؤكدا على الدور الذي يمكن لها أن تقوم به سواء على صعيد المدرسة، أو بالأحرى، في الميدان الاجتماعي والوطني. وكانت للتوجيهات التي زودنا بها أستاذنا المرحوم بلافريج، صدى قويا في قلوبنا مما دفعنا إلى المبادرة باللقاء في جمع مصغر، تدارسنا خلاله الإجراءات الإدارية المتبعة في هذا الشأن. ثم قمنا بصياغة القانون الأساسي الذي قدم للسلطات الإدارية رفقة الطلب بالإذن في تأسيس الجمعية. جاءت الموافقة من مسؤولي الحماية، على ما أذكر، خلال سنة 1947، تم على إثرها عقد جمع عام للقدماء، أقيم في أحد أقسام المدرسة، وتوج بانتخاب أول مكتب للجمعية، اختير المرحوم السيد التهامي بن الراضي أول رئيس لها، وككاتب عام السيد العربي بنعبد الله، وكأمين للصندوق السيد عبد الجليل الرفاعي. كما ضم المكتب عددا من المستشارين، أذكر من بينهم، الأخ السيد محمد المسطاسي، والمرحومين عمر غنام وامحمد بركاش، وعبد ربه.
بقي المرحوم التهامي بن الراضي رئيسا للجمعية، لفترتين متتاليتين، قرر بعدها، لأسباب شخصية، عدم الترشح لفترة ثالثة. على إثرها تم باقتراح من عدد من الاخوة وخاصة من المرحوم امحمد بركاش، انتخابي رئيسا للجمعية، وانتخاب جل الأعضاء السابقين، وخاصة منهم الاخوة السادة العربي بنعبد الله وعبد الجليل الرفاعي في نفس المنصبين اللذين كانا يشغلانه من قبل وكذا الأخ السيد محمد المسطاسي، وغيره كمستشارين.
قامت جمعية قدماء تلاميذ مدرسة محمد جسوس، في كل تلك الفترات بنشاط ثقافي وترفيهي ووطني هام اشتمل في كل سنة على تنظيم مخيم للقدماء في جبال الأطلس، أو في ضواحي الرباط وإقامة حفلين الأول بالدار البيضاء سنة 1948 والثاني بسينما رويال بالرباط سنة 1949، قدمت خلالهما عروضا فنية وأشرطة سينمائية وتمثيليات وأدوار موسيقية وغيرها كما نظمت عملية بيع صورة للسلطان محمد بن يوسف ولوحة زيتية على الطريقة الأمريكية خصص ريعها لمساعدة المعوزين من تلامذة مدرسة أحمد بلافريج.
إلا أن الظروف السياسية الصعبة التي تلت فترة الانفراج التي دشنها المقيم العام اريك لابون، والتي انتهت بتعيين الجنرال جوان، ثم الجنرال غيوم وإتباعهما سياسة غاشمة، أدت إلى أزمة سنة 1951 التي فرض أثناءها على السلطان التوقيع على ظهائر تمس بالسيادة الوطنية ثم إلى الإقدام يوم الأحد 20 غشت 1953 على المس برمز السيادة الوطنية جلالة السلطان محمد بن يوسف ونفيه مع أسرته إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر. أجبرت هذه الأحداث الجمعية على تجميد نشاطها واكتفاء أعضائها بالعمل في الخفاء في إطار الحركة الوطنية وباتصال مع قادة حزب الاستقلال.
استمرت الأحداث المأساوية تتوالى من ذلك التاريخ إلى غاية سنة 1955 وخاصة في شهر يونيو من تلك السنة حيث بدأت الحكومة الفرنسية برئاسة ادغار فور، تستشعر مدى حدة الأزمة الفرنسية المغربية ومحاولة الخروج من المأزق بإجراء عدة اتصالات مع الوطنيين ومع غيرهم من الشخصيات وتعيين مقيم عام جديد في شخص جيلبير غرانفال.
في هذه الأجواء المليئة بالمتناقضات وحرصا على المساهمة في إظهار الحقائق والتأكيد على المواقف الوطنية الثابتة للشبيبة المغربية قرر رؤساء عدة جمعيات مغربية من بينها جمعية قدماء تلاميذ مدرسة محمد جسوس، بعد راسة مستفيضة للأوضاع المتردية في المغرب إصدار بلاغ في 13 من شهر يونيم 1955 نشرته جريدة ماروك بريس الفرنسية في وقت لم تكن فيه أية صحيفة عربية ووطنية (أنظر الملحق رقم 2) جاء فيه على الخصوص »بأنه بدون حل قضية العرش فلن يكون هناك أي حوار مثمر وصحيح بين المغرب وفرنسا« كما أكدوا »على أنهم في انسجام تام مع باقي المغاربة الذين ما فتئوا منذ شهر غشت 1953 عن التعبير عن وفائهم وتعلقهم بجلالة السلطان سيدي محمد بن يوسف«... وعلى »أن أي تعاون مجد بين فرنسا والمغرب مرهون بالتأكيد الحقيقي على السيادة المغربية، وعلى ممارستها الكاملة من طرف الشعب المغربي«. صدر البلاغ بتوقيع الدكتور عبد المالك فراج عن ودادية الأطباء والصيادلة وجراحي الأسنان، وأحمد جسوس عن ودادية فنيي الفلاحة، ومحمد بركاش عن قدماء المدرسة الإدارية المغربية، وتوفيق القباج عن جمعية قدماء مؤسسة جسوس، ومحمد عبد القادر بالعربي عن جمعية طلبة المغرب وامحمد الدويري عن جمعية التقنيين المغاربة.
في 18 يوليو 1955 وبعد الحوادث الدامية التي كانت الدار البيضاء مسرحا لها من طرف الفرنسيين المتطرفين، بعث رؤساء الجمعيات الست المذكورة أعلاه، رسالة مفتوحة إلى المقيم العام غرنفال، نشرتها جريدة ماروك بريس في 19 يوليو (انظر الملحق رقم 3) يعربون فيها »عن استيائهم وسخطهم أمام الحوادث الخطيرة التي كانت الدار البيضاء مسرحا لها« مطالبين السفير غرنفال »بإنزال العقاب العادل بمدبري هذه الجرائم والمسؤولين عنها«.
في يوم 20 يوليو توصلت برسالة من المندوب في الإقامة العامة (انظر الملحق رقم 4)، كما توصل بها الإخوان الآخرون، يخبروننا فيها بأن »السيد غرنفال أولى للرسالة المفتوحة الاهتمام اللائق بها، وكان يود التحادث معكم في شأنها ولكن بما أنه عليه أن يكون صباح الغد بمراكش، فقد كلفني باستقبالكم بالنيابة عنه« وحدد لنا موعدا يوم الجمعة 22 يوليو في الساعة العاشرة والنصف. كان اللقاء وديا شرحنا له أثناء ذلك اللقاء الأوضاع المتردية التي يعيشها المغرب بسبب غياب الشرعية المغربية المتمثلة في شخص السلطان سيدي محمد بن يوسف. فوعدنا باطلاع السفير المقيم العام بما راج في حديثنا معه.
كانت تلك النشاطات والمبادرات مناسبة تاريخية لتنهض جمعية قدماء تلاميذ مدرسة محمد جسوس من كبوتها وتخرج من الجمود الذي أصابها بسبب الأوضاع السياسية المتردية في البلاد، ولتقوم بدورها الوطني، بمشاركة أخواتها الجمعيات الأخريات في الدفاع عن الشرعية المغربية والمطالبة بعودة السلطان سيدي محمد بن يوسف من منفاه إلى عرشه وشعبه الوفي.
لكن من المعروف أن مقام غرنفال لم يطل بسبب تعنت الفرنسيين المتطرفين. واستمرت الأحداث والمشاورات طيلة الشهور التالية بين زعماء الحركة الوطنية ومسؤولي الحكومة الفرنسية إلى أن تكللت بالنجاح وتحققت بفضل الله ومنته بغية الشعب المغربي بعودة ملكه المفدى محمد الخامس في 16 نوفمبر وإعلانه بزوغ فجر الحرية والاستقلال.
شكلت الحكومة المغربية الجديدة في 7 ديسمبر 1955 برئاسة المرحوم السيد مبارك البكاي، وعين فيها الحاج أحمد بلافريج أول وزير للخارجية في عهد الاستقلال. جازاه الله خيرا عنا، وعن أمته، وأسكنه فسيح جناته، وسدد خطى المشرفين على مدرسته لتبقى وفية لماضيها المجيد. كما نتمنى لجمعية قدماء تلاميذ مدرسة أحمد بلافريج التي أصبحت تضم الآلاف من القدماء أن تعود إلى سالف نشاطها الاجتماعي والثقافي والوطني.
الملحقات:
1- نسخة رسالة جمعية طلبة المغرب لتكوين لجنة تنسيق 18-6-1955
2- نسخة بلاغ الجمعيات الخمس 1955/6/13
3- نسخة رسالة مفتوحة الى المقيم العام غرانفال - ماروك بريس 1955/7/19
4- نسخة رسالة المندوب بالاقامة العامة الفرنسية بالمغرب - 1955/7/20
5- صورة للمدعوين في الاحتفال بعودة بلافريج من المنفى سنة 1946
6- صورة لقدماء تلاميذ مدرسة محمد جسوس يتوسطهم الأستاذ بلافريج 1946


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.