في وجهة نظر أمس وعدنا بالحديث عن الكتاب الذي أشار إليه الزعيم علال والذي دون فيه احد المعتقلين ما عاناه أولائك في كَلميمة من أصناف التعذيب والإهانة والأشغال الشاقة، والكتاب الذي أشار إليه هو من وضع المرحوم الأستاذ المجاهد الشريف محمد إبراهيم الكتاني والمعنون ب (من ذكريات سجين مكافح ... أو أيام كَلميما) والذي سجل فيه أصنافا و ألوانا من التعذيب الذي تعرض له المعتقلون هناك والمرحوم الكتاني من المناضلين الأولين في الحركة الوطنية المغربية والذي بقي وفيا لمبادئ الحركة وقيمها إلى ان لقي الله، ولا حاجة إلى الإشارة إلى ما كان يمتاز به من أخلاق عالية وعلم غزير، وقد فاز كتابه هذا بجائزة المغرب لسنة 1972م ونشر الكتاب سنة 1977 . والمؤلف في كتابه هذا يذكر بالدقة والوصف المتناهيين ما كان من محنة الاعتقال بدء من الانطلاقة من مدينة فاس إلى الوصول إلى كَلميمة إلى الانتقال من كَلميمة إلى السجون الأخرى في مختلف المدن المغربية كما ذكر في الكتاب الأسماء التي لا تزال عالقة بذهنه من المعتقلين أثناء تدوين الكتاب بعد الاعتقال بأربع سنوات. وقد كان من ابرز الشهداء في هذا المعتقل الفقيه محمد القُرِّي الوطني الأديب الشاعر المسرحي ولا بأس من استعادة حالة الفقيه القُرّي في المعتقل وبالأخص الأيام الأخيرة من حياته نموذجا لأصناف المحنة والتعذيب. يقول المرحوم الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني عودة المعطوبين وتقتيل القرى: وقبل انتهائنا من العمل بأكثر من نصف ساعة جمع المعطوبون المشرفون على الهلاك، وأرسلوا مع طائفة من (القوم) من طريق قريبة غير التي كنا نسلكها، فلما كنا راجعين رأي (الولد) _الحارس- وكان راكبا فرسه على عادته أشباحا عن بعد، فسأل عنها فقيل له: انهم المعطوبون، فتعجب لطول ما بين الوقت الذي انطلقوا فيه وهذا الوقت، حتى انه كان يقدر أنهم وصلوا إلى المعتقل: ثم أسرع نحوهم ثم رجع يسب وبلعن ذلك القرى الذي أبى أن يسير على قدميه زيادة في التظاهر بعجزه وضعفه. ثم اختار أربعة منا أمرهم أن يسيروا معه ليحملوه من يديه ورجليه وقال لهم: لا عليكم إذا انفكت أوصاله، أو انخلعت عظامه. منتهى الوحشية: وقد حدثنا (المعطوبون) الذين كانوا مرافقين له: انه رحمه الله كان عاجزا عن الوقوف وعن السير وان (القوم) تفننوا في تعذيبه والتمثيل به، بدعوى إرغامه على الوقوف والسير. فمن ذلك أنهم كانوا يوقفونه بين شخصين ويجعلون الهراوة (المانقو) تحت ذقنه، ثم يزيلون الشخصين ويتركونه واقفا معتمدا على الهراوة ثم يزيلون الهراوة من تحت ذقنه فيهوى رحمه الله بقوة لوجهه فيجتمعون عليه بهراويهم بكل قوة لرأسه وظهره، ثم يقفون على ظهره بأحذيتهم يرفسون ويركلون بكل قوة صائحين سابين لاعنين. وقد تكررت هذه العملية منهم هذه العشية أكثر من عشرين مرة، قبل أن يراهم (الولد) -حارس- ويأتي إليهم. فلما جاءهم ضاعفوا وحشيتهم أضعافا مضاعفة. وجعل هو يهدد بوطئه بسنابك فرسه ويقفز من فوقه به عدة مرات. ولا أستحضر الآن إذ كان قد أصابته قوائمه في إحداها أو لا؟ فقد مضى على الحكاية أربع سنوات ومنذ حمله الأربعة الذين ذهب بهم منا كما أمرهم و(القوم) يتبارون في ضربه على رأسه وظهره، بهراويهم الغليظة حتى وصلوا به للمعتقل رحمه الله. اليوم الثلاثون (استشهاد القرى) يوم الأربعاء 4 شوال 8 ديسمبر: يغلب على ظني أن (الكورسيكى) هو الذي ظل معنا اليوم، ولا أستحضر عن معاملة اليوم شيئا. وفي هذا اليوم أسلم الروح الشهيد محمد القرى رحمه الله، بعدما غاب خمس ليلي وأربعة أيام، لا نعلم ماذا جرى له فيها،زيادة على ما وقع بمرأى منا، مما حدثتك عما لا يزال عالقا منه بالذاكرة بعد أربعة أعوام. فكان موته رحمه الله خسارة لا تعوض، ورزية وطنية عظمى ، إذا كان مؤمنا سلفيا صادق الإيمان، وشاعرا مكثرا،وكاتبا وخطيبا مؤثرا،وعلامة لغويا مطلعا متبحرا، ومكافحا متفانيا وكان إلى ذلك ذا أخلاق دمثة لين الجانب متواضعا محبوبا، منكرا لذاته، مخلصا لأصدقائه ورفقائه. رحمه الله رحمة واسعة وأسبل عليه شئابيب المغفرة والرضوان، اللهم أجرنا في مصيبتنا فيه، واخلفنا خيرا منها. على أما لم نتحقق خبر استشهاده إلا بعد رجوعنا من قولميما إلى سجن عين على مومن الفلاحي وأما مدة مقامنا ( بقولميما) فإنما كنا نظن ذلك ظنا قويا استنادا إلى كثير من القرائن. إنها ضريبة الحرية والاستقلال التي أداها هؤلاء المناضلون أثناء هذا الاعتقال وقبله وبعده لينعم الوطن بالحرية والكرامة. ولنا عودة للموضوع.