حاولت في المقدمات التي مرت، أن ألم بأحداث شهر أكتوبر 1937 والتي أدت إلى اعتقال قادة الحزب الوطني وعلى رأسهم رئيس الحزب الزعيم علال الفاسي وكيف تطور الاعتقال إلى نفيه إلى الكابون، مع الاعتماد على ما كتبه هو بنفسه في كتاب الحركات الاستقلالية، وأود أن أشير إلى أن هذا الكتاب يعد بحق كتاب توثيق للأحداث الوطنية الكبرى منذ الإرهاصات الأولى لتأسيس الحركة إلى حين وضعه ما بين عامي 1937 _ 1948، والذي تحمل مقدمته تاريخ أكتوبر 1948- ومعنى ذلك أنه مر على وضع الكتاب ستون سنة وكان الكتاب جديرا أن يحتفى به باعتباره أول كتاب يؤرخ للحركة ويبين للناس في كل العالم حقيقة الصراع الدائر بين الوطنيين المغاربة أي بين الشعب المغربي بقيادة جلالة الملك محمد الخامس وحزب الاستقلال وبين الإدارة الاستعمارية الفرنسية ولعل الوقت لم يفت بعد لإبراز هذا العمل الفكري والنضالي للمرحوم الزعيم علال الفاسي، وأيا ما كان فإن العمل الذي أقدمت عليه الإدارة الاستعمارية أدى إلى ثورة كبرى عمت سائر المناطق المغربية ليس المناطق التي تحتلها فرنسا وحدها، ولكن كانت الثورة التضامنية كذلك في المنطقة الشمالية للمملكة، ولم تكن الإدارة عندما أقدمت على ما أقدمت عليه تتصور أن الأمر سيؤول إلى ما آل إليه من الثورة والإقدام على العمل المباشر في مواجهة القمع الوحشي الذي مارسته هذه الإدارة. وقد تتأول هذه الأحداث بعد الزعيم علال بعض الوطنيين الذين عاشوا هذه المرحلة وكتبوا واصفين ما عاشوه وما شاهدوه بأنفسهم كما تناوله كتاب آخرون تاريخا وتحليلا. وليس قصدي في هذه الإشارات أو المقدمات التي كتبتها أن نؤرخ بمعنى التاريخ للمرحلة، ولكن فقط هي مجرد ارتسامات وانطباعات في قراءة أحداث المرحلة من خلال ما ورد في كتاب الحركات الاستقلالية. والواقع أن المؤلف في هذا الكتاب لم يغمط أحد حقه، فقد أشاد بتضامن المرحوم الأستاذ محمد بن الحسن الوزاني والحركة القومية المغربية كما أشاد بما قام به قادة الحركة في الشمال وعلى أي حال فإن قراءة ما كتبه المرحوم علال الفاسي وقراءة ما كتبه المرحوم محمد بن الحسن الوزاني في مذكراته توضح الفرق بين الكتابة الموضوعية والكتابة التي تتسم بكثير من الذاتية. الثورة الوطنية وعن ردود الفعل القومية التي تلت أحداث الاعتقال والنفي يقول الزعيم علال الفاسي: وقد كان لهذا العمل الظالم رد فعل قوي في نفوس المغاربة جميعا، فما علم الناس بخبر اعتقالنا حتى قامت مظاهرات كبيرة في سائر المدن والقرى المغربية من مراكش إلى وجدة، وكان المتظاهرون يعربون بكل ما يستطيعون من قوة وحماس عن تضامنهم مع قادة الحزب المعتقلين، ويطالبون بالحقوق التي اعتقلوا من أجلها، وقد اعتقلت السلطة في كل الجهات مئات المتظاهرون، ووقع اصطدام عنيف في (القنيطرة ) يوم 27 أكتوبر أثناء التظاهر بين الوطنيين والبوليس أدى إلى موت 14 شخصا وجرح عشرات من المغاربة، وقد اعتقل إثر ذلك رئيس مكتب الفرع بالقنيطرة صديقنا السيد محمد الديوري وحكم عليه بالسجن سنتين، ووقع بعد ذلك إضراب عنيف وتظاهر مستمر، كما وقع نسف لم يعرف أصحابه لمستودع السلاح بالمدينة قدر بخسائر فادحة. وفي فاس عاصمة المغرب الفكرية ومقر المركز العام للحزب الوطني كان التظاهر على أشد ما يتصور، فصدرت أوامر القيادة العليا العسكرية للجنرال بلان حاكم الناحية باحتلال المدينة والدفاع عنها، فكان التصادم قويا بين الجيش والمتظاهرين استمر أياما كان يعلن فيها الجنرال بلان ببلاغات عسكرية مراحل احتلاله لمراكز التجمع الوطني بفاس، وبعد صراع شديد وسقوط عدة موتى وجرحى توصل الجنرال لاحتلال مقر المركز العام للحزب بحي النواعريين، ولا يزال محتلا بعسكر ( القوم) إلى الآن أي بعد عشر سنين من هذه الواقعة. وبعد محاصرة المدينة واحتلال الجند لسائر إحيائها لم يبق للمتظاهرين مركز الا جامع القرويين الذي اخذوا يحتشدون به بالآلاف للتظاهر وإعلان التضامن من الزعماء، فصدر أمر من الحكومة بإقفال جميع المساجد في المغرب ولكن الوطنيين استطاعوا أن يستمروا في التجمع بجامع القرويين مستعملين جميع الوسائل للوصول إليه، وتدخل الجيش وأخرجهم من الجامع بطريق القوة إلى الشارع، حيث كان عسكر (القوم) ينتظرونهم، ووقعت معارك دامية اعتقل فيها 1150 وطنيا سيقوا للسجن كلهم، كما اعتقل الأستاذان عبد العزيز ابن إدريس والهاشمي الفيلالي وغيرهما من رجال الحركة البارزين. وفي مساء 29 أكتوبر استدعت الإدارة الأستاذ محمد حسن الوزاني لتعرف موقفه مما جرى، فأعلن تضامنه مع الحزب الوطني وسيق هو للسجن أيضا، وفي الوقت نفسه وقع اعتقال الأستاذ الحاج الحسن أبي عياد عضو المجلس الوطني بحزبنا والأستاذ إبراهيم الكتاني، واستمرت المظاهرات بمختلف جهات المغرب عدة أسابيع كانت الإدارة فيها مثال الشدة في القمع والوحشية في الزجر، وأعقب المظاهرات عمل إرهابي لم يعرف أصحابه كان من مظاهره مهاجمة إدارات بعض الصحف الأجنبية ومستودع البترول بمكناس، وغير ذلك من علامات الهياج الشعبي غير المحدود. ولقد عومل المعتقلون الذين سيقوا لمختلف السجون العسكرية والمدينة بمعاملة المجرمين العاديين، ونقل قسم كبير من مثقفيهم وقادتهم إلى ( بوذنيب) وغيرها من مراكز الصحراء النائية حيث كلفوا بأشغال شاقة قضت على صحتهم وأفقدت الكثيرين منهم حياتهم، ونحن لا نريد أن نسجل هنا ما عاناه إخواننا رجال الحركة المغربية في هذه المرحلة من اجل التضامن معنا، فإن ذلك ليس من متناول هذا الكتاب، وقد خصص بعض أصدقائنا من المعتقلين في هذه الموقعة كتابا خاصا حكى فيه بالتفصيل في اكثر من مائة وخمسين صحيفة كل ما عومل به الوطنيون في أكتوبر عام 1937 . (ص257-258) وسنخصص الحلقة المقبلة للحديث عن الكتاب الذي يشير إليه المرحوم الزعيم علال.