ربما ولى ذلك الزمن البسيط، الذي يسير وفق خطى بطيئة تعطي لحياة الجماعة أهمية قصوى. ولو على حساب ميولات الفرد التي قد تموت أو تدفن لتنتصر قيم التماسك الاجتماعي والتجمع حول شخصية أساسية تشكل المرجعية لأجيال متوالية. فهي منبع الحكمة وهي الكتاب الشفوي المفتوح للجميع والمليء بالتجارب. إنه اعتراف مطلق لدور الجد داخل الأسرة ودور المسن في المجتمع.. بمعنى شعور تام بالانتماء وعدم الشعور بالعزلة. فالأدوار المناطة به كثيرة والاندماج أمام كل ذلك متوفر. فكيف إذن سيشعر المسن بأزمة نفسية؟ أو أنه لم يعد له دور في الحياة؟ مادام يتميز بالسلطة داخل قرارات الأسرة ومادام العمود الفقري لتدبير الحياة. أما اليوم. فالمجتمع تغير ومتجه بخطاه نحو ذلك بشكل أكبر وربما أحيانا بصورة سريعة تدهشنا. والمجتمعات عموما كلما اتجهت نحو التقدم كلما عرفت تغيرات اجتماعية سريعة. وكل ذلك له بالتأكيد نتائج مهمة على البنيات المختلفة للمجتمع وإن كانت البنيات الذهنية هي الأقل تغيرا ضمن هذه السيرورة. وضمن كل متغيرات الحداثة وبروز التفرد ولو داخل الأسرة. وكل ذلك أدى الى تقلص مساحة الجد، لأن الابن أو الحفيد صار قادرا على اتخاذ قراراته بنفسه وصار قادرا على تزويج نفسه ضمن اختياراته بل أحيانا يعتقد الحفيد أن أفكار المسن جد تقليدية وقيمه أكثر رجعية وبالتالي فهي تشكل عائقا أمام طموحاته فيعبر بذلك شاب اليوم ومسن الغد عن هذه الفجوة بتعابيره الخاصة «غير سكت أنت ما عرف والو.. عشت زمانك خلي غيرك يعيش» أو عندما يتدخل الجد ليعطي قرارا لمن حوله ويسمعه «هدرتك ما بقاتش توكل هذاك زمان وهذا زمان آخر». كل ذلك يجعل المسن بحكم الطبيعة البيولوجية. يشعر أنه لم تعد له مكانة داخل المجتمع وأنه ينتظر الموت حتى يريح ويستريح. فالمجتمع جعل المسن يقول عن نفسه «كنكلو القوت وكنتسناو الموت». وعندما يتعزز شعور العزلة لديه وضمن أحّب اقربائه. عندها يدرك أن تغيرات الزمن افضت به الى سن كانت موقع سلطة واليوم صارت حالة مرضية تنعت بابشع الصور... «العكايز»، بمفهوم ثقافي يحمل بين طياته معاني «لهدرا الخاوية اللي مافيها غير الصداع» بالاضافة إلى «مقولة النكير بلا فايدة».. عندها يبرز مفهوم «الشيخوخة» كحالة مرضية لم تكن مطروحة مع المجتمع التقليدي. فماذا يقدم المجتمع اليوم كبديل لهذه الفئة؟ إعداد: هاجر لمفضلي ثقافيا لازلنا نرفض أن المغرب بدأت تظهر فيه بوادر «الشيخوخة». وبأنه متجه نحو هرم سكاني يتسم بذلك. وعدم الاعتراف هذا يفرض تعاملا خاصا مع هذه الفئة ومع تغييب أدوار المسن داخل الأسرة يجعل هذه المرحلة العمرية حرجة تفضي بالمسن مطرودا من الحياة وهو فيها. فيشعر أنه يعيش حالة مرضية وجودية بالأساس. فجسديا تظهر عنده أمراض مرحلته العمرية، وعقليا يتهم بتراجع قدراته الفكرية وتظهر عنده ازمات على المستوى النفسي. فما البديل له امام هذا الوضع الجديد لينتزع ممن حوله بعض الاهتمام والشعور بالانتماء.؟ هنا يحاول المسن إعادة انتاج حياته بالشكل الذي يفرضه عليه المحيط الذي يعيشه لكي يلفت الانتباه حوله وبالتالي الاهتمام به. كأن يدعي المرض أو أن يدخل حقا في حالة مرضية يوهم نفسه فيها أنه مريض. ليمارس هذا الدور الذي يعطي حق التدلل والتجمع حول المريض. كما قد يكثر الحديث عن الماضي كمرجعية للشعور بالانتماء والهوية؛ فيعبر عن ذلك في لغته ويدافع عن هذا الماضي ويعتبره أفضل من هذا المستقبل وبأن أبناء جيله أناس أخيار. أما هذا الزمن فهو زمان الانحلال الخلقي «جيل قمش ما يحشم مايرمش». كل ذلك نتيجة لانفصاله عن هذا المجتمع الذي يقصيه. أو يهون من تاريخه الاجتماعي فتظهر لدى المسن اضطرابات نفسية وفوضى داخلية. بالإضافة إلى أن هذه السن قد تجعله ينتقل من سكن لاخر. فمرة مع ابنه ومرة مع ابنته ومرة أخرى مع أحد اقربائه. ممايجعله يشعر بعدم الاستقرار وعدم الحصول على سكن قار. بالاضافة إلى ثقافة المجتمع المغربي التي تنتزع من المسن انشطة متنوعة وتمنحه فقط حق الممارسات الدينية فعليه أن يكثر من الصلاة ومن التعبد لان «رجل هنا ورجل لهيه» أما إذا ما فكر في الزواج مرة أخرى بعد أن ترمل. فإنه بذلك يرتكب أكبر الدنوب واشد الخطايا لاسيما إذا كانت امرأة. وكأن المسن ليس إنسانا له اختياراته وشخصيته. وبذلك فان مجتمعنا يفرض قيودا متى شاء وينزعها ممن يشاء ويحدد بذلك متى تكون «الشيخوخة» حالة مرضية ومتى تكون سنا يجب ان تعاش ولاتدفن في الاعماق،، وضعيات متنوعة تتأسس انطلاقا من ظروف متنوعة اما اقتصادية واما ثقافية او معرفية او على مستوى سياسة الدولة ودرجة التقدم داخل المجتمع. كل هذه التغيرات الاجتماعية التي يعرفها المجتمع المغربي اليوم. تجعلنا نعيد تصورنا في وضعية المواطن المسن ضمن سياسة تعترف بخصوصيات هذه المرحلة العمرية وتعد لها المرافق الخاصة كي لانساهم في تمزقات عديدة وفصام مجتمعي. وكلنا نعلم ان سن التقاعد تصير عند الكثير حياة جلوس على الارصفة وتحت لهيب الشمس وتصير ادمانا على الجلوس في المقاهي والفراغ القاتم الذي قد ينتج سلوكات منحرفة. ففي تصور المسن وضمن الظروف التي يعيشها ليس له سوى... أن يبني عالما خاصا به. حتى وان كان متيقنا انه ضد شخصيته وضد سلم القيم داخل مجتمعه. لانه يشعر أن هذا الاخير تخلى عليه عندما لم يعد قوة إنتاجية. بل حتى داخل الاسرة قد تتراجع سلطته بعد سن التقاعد لاسيما إذا كانت أجرته غير كافية لمتطلبات البيت.. وثقافتنا الشعبية تعبر عن ذلك باسلوب عجيب «الرجل فالدار كالحدبة فالظهر». أما المرأة فتصير تلك العجوز الغير مرغوب فيها والتي يكثر فيها الضجيج وجلب «الصداعات» خصوصا مع زوجة ابنها. فيصير الكل يتصور أم الابن على انها امرأة يجب أن تعامل معاملة خاصة. لأنها لايمكن ان تحب زوجة ابنها. افكار جاهزة قبل حتى معرفة أم الزوج كيف ستكون. وهو تقلص مطلق لهذه المرأة ولسنها وتقسيم منحط للرجل وللمرأة بعد سن التقاعد، هكذا صورت لنا الثقافة الشعبية المرأة التي ليس لها سوى المراقبة والمطبخ والتجول في الأسواق ومصاحبة نساء في نفس سنها. ليس لهن من شغل سوى «التبركيك» والتحدث عن الناس. أما الرجل فلا شغل له سوى المقاهي ومجالسة من هم في سن، وكلها مؤشرات تدل على الفراغ والشعور بالعجز والعزلة ، فأمام اعتبار الشيخوخة مرحلة يهمش فيها الشخص ولا يتوفر فيها على نفس الوضعية الاجتماعية التي كان عليها قبل سن التقاعد، بمعنى منذ توقفه على العمل فلن يكون قوة انتاجية. لايبقى لهذا المسن خيار آخر الا ان يبني علاقات جديدة غير أسرية تجعله يتبادل الحديث والنقاش مع من يعيش نفس حالته الاجتماعية ليشعر بالانتماء وبمكانته كفرد مازال يعيش فيالحياة ومازال له صوت يسمع لعله يرد الاعتبار لنفسيته المدمرة، لاسيما إذا تعرض لأشد صور الاقصاء والتهميش. فقد يتم عزله من طرف الابناء على طاولة الاكل نظرا لاضطرابات في حواسه أو لمرض، اصابه أو لان الابناء يعملون. ويصير هذا المسن يشعر بحساسية مفرطة، فكل كلام يقال يشعر أنه يعنيه. يمكن إذن أن نتجاوز أن المسن في المغرب، يعرف تغيرات أساسية في الحياة الاجتماعية سواء منها المهنية (التقاعد ومتغيراته) أو انهيار العلاقة الزوجية (الترمل) أو تدهور المواد الاقتصادية. خصوصا من هم أكثر عرضة للهشاشة والفقر، كما قد يشعر المسن أن أبناءه قد تخلوا عنه بسبب العمل أو تأسيس أسرة أو بسبب الهجرة مما يؤدي به مع تأزم وضعيته النفسية الى التسول أو الى ظهور بعض الامراض العقلية أو النفسية. انها مرحلة صارت تستدعي التهيؤ المسبق سواء النفسي أو الاجتماعي أو على مستوى سياسة الدولة، فالظاهرة لن تقف عند هذا الحد بل لابد ان تزداد حدتها عبر السنين. وقد أعلنت بالفعل المندوبية السامية للتخطيط سنة 2008 عبر نتائج البحث الوطني الذي انجزته سنة 2006 حول الاشخاص المسنين في المغرب والذي شمل 3010 منهم يقيمون في 2500 عائلة. أن نسبتهم هي 8 في المائة ويُتوقع أن تناهز نسبتهم 15 في المائة سنة 2030 إن هذه التغيرات في النمو الديموغرافي تواكبها تغيرات على مستوى بنيات المجتمع المغربي، فلسنا في قرية منعزلة ولسنا خارج السياق الدولي. لكن ثقافيا يجب أن ندرك أن الانسان كائن ينمو، ليس جامدا ولا ثابتا وهو وجود تتكامل فيه مكوناته. فكيف بعد التجارب وبعد مسيرة الحياة عنده أن نقصي بكل سهولة عمره النفسي والاجتاعي وندخله في حالة مرضية، نسجنه فيها ونحكم عليه بالشيخوخة أو ما نتداوله في لغتنا اليومية «شرف وخرف وما بقالو عقل مسكين . قربت ساعتو..» ولكي يعيش المسن حياة بعيدة عن الصراعات الحادة وان تكون له القدرة على ادماج الحاضر وفق تمثلاته ونمط عيشه يجب أن يشعر بالاندماج داخل المحيط الاسري وداخل المجتمع وكذا عدم الاقصاء النفسي وبالتالي الشعور «بالانا» كقيمة تتحقق بتوفر ارضية لذلك. أما أن يعيش المسن حالة فصام فلا الاسرة تدمجه داخل مخططاتها ولا المجتمع يفكر في متطلباته. فالامر حتما سيؤدي الى أمراض الشيخوخة. إلا أنه رغم كل ذلك ورغم كل ما قلناه فلازال التضامن الاسري المغربي بتواجد هذه الفئة يحظى لمكانة داخل الأسر وهي قراءة مستمدة من الارقام التي صدرت عن «المندوبية السامية للتخطيط إذ رغم التوجه نحو العائلة النووية الذي صار في المغرب بنسبة 63 في المائة، فان 58 في المائة من المسنين يعيشون في عائلات ممتدة تتعايش فيها عدة أجيال و 35 في المائة يعيشون في اسر نووية مقابل 7 في المائة يعيشون وحدهم.