بعد أربعين سنة من المنفى الاضطراري والحكم بالإعدام الذي كان ينتظره، سقط نظام البعث في العراق الذي كان يصارعه مظفر النواب الشيوعي، لكن مظفر لم يعد إلى بلده سنة 2003 مثلما انتظره البعض، فهو يرفض العودة إلى بلده في ظل الاحتلال الأمريكي، وفضّل البقاء غير بعيد عن بلده في سوريا وقد أنهكه المرض، وأنهكته الأيام. ما زال الشاعر مظفر النواب يصارع المرض، والذي لازمه طويلا، وما زال يتعايش معه، في العاصمة السورية دمشق التي استقر فيها منذ أكثر من سنين، وقيل أنه حصل علي جنسيتها، وما زال صاحب قصيدة «القدس عروس عروبتكم» اللاذعة غير بعيد عن بلده العراق الذي يعيش يوميات الموت الجماعي، وعلى مقربة من «عروس العروبة» التي أخذت موضوع قصيدته الشهيرة، واليوم وبعد حوالي أربعين سنة من كتابة تلك القصيدة التي أرخت «النكبة» كما سميت إعلاميا وسياسيا، لا يكاد يذكر اسم الشاعر مظفر النواب إلا مقرونا، ب»القدس عروس عروبتكم» التي حمّل فيها الحكام العرب المسؤولية الكاملة، بعباراته القوية حد البذاءة، لكن مسيرة مظفر النواب في الحقيقة لم تبدأ مع تلك القصيدة ولم تنته عندها، واسم الشاعر الكامل هو مظفر بن عبد المجيد النواب، ولعله ورث حياة التشرد من عائلته التي ارتحلت من العراق إلى الهند لمدة أجيال كثيرة، لتعود مرة أخرى إلى العراق، ومع مولد مظفر تكون حياته عبارة عن رحلة طويلة من التشرد بين مختلف أنحاء العالم ليستقر أخيرا في الشام غير بعيد عن العراق الذي يعيش محنته الدموية القاتلة، وتنسب عائلته إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم، الذي مات مقتولا زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد، ومنها اضطر أهله للذهاب إلى شبه القارة الهندية، حيث استقروا في المقاطعات الشمالية لشبه القارة، وحكموا بعضها، لكن الأمور ساءت معهم مرة أخرى مع الاحتلال البريطاني للهند، وانخراط عائلة مظفر في المقاومة، وعند تعرض الثورة الهندية للقمع اضطرت العائلة لاختيار منفاها، فاختاروا العراق وطن أجدادهم الأولين، وبعد الاستقرار في بغداد ولد مظفر سنة 1934 وسط تلك العائلة العريقة التي تعشق الشعر والموسيقى، فنشأ فنانا بفطرته، وبدأ ينظم الشعر وهو طفلا، ثم أكمل دراسته في كلية الأدب وتمرس على الكتابة الشعرية إلى أن أصبح صوتا مهما، وعند انقلاب عبد الكريم قاسم على الملكية وسقوطها، عين مظفر مفتشا في وزارة التربية، لكن الأمر لم يدم طويلا، وفي سنة 1963 نشأ صراع دموي بين القوميين والشيوعيين، وخوفا من القتل المؤكد هرب الشاعر وكان في صفوف الشيوعيين العراقيين إلى إيران مرورا بالبصرة، لكن جهاز المخابرات الإيراني «السافاك» تمكن من إلقاء القبض عليه، عندما كان يهم بالسفر من إيران إلى روسيا، فأعادوه إلى بلده فعذب وحكم عليه بالإعدام لكن بعد مساعي ووساطات كثيرة، خفف حكم الإعدام إلى المؤبد، وفي هربا من المؤبد قام بعض رفاقه بحفر نفق في الزنزانة التي كان فيها، وتمكن من الفرار، ثم توجه إلى الأهواز بإيران، وبقي متخفيا بين الفلاحين، وعندما صدر قرار العفو سنة 1969 عن المعارضين، عاد الشاعر مظفر النواب مرة أخرى إلى بلده، لكنه اعتقل من جديد وتعرض للتعذيب بعد فترة قصيرة من عودته، ثم أطلق سراحه وغادر العراق إلى بيروت وأصبح بعدها مشردا بين مختلف المدن العربية والأوربية إلى أن استقر أخيرا مع معاناة المرض في دمشق، وعينه على بغداد الرشيد والأخرى على «عروس العروبة»، وما يلفت الانتباه في تجربة مظفر الأخيرة أنه تخلى عن الالتزام الحزبي الضيق، لكنه بقي وفيا لقناعاته السياسية التي شرد من أجلها وعذب بوحشية وكاد يفقد حياته في أكثر من مرة. ومع الخيبات المتتالية التي مني بها الشاعر مظفر النواب الذي كان يؤمن بالتغيير عن طريق النشاط الحزبي، وسرعان ما فقد الأمل في ذلك أدرك أن مكمن الداء يكمن في فيما وصفها «الردة» وهو يقول في قصيدته المشهورة: هل عرب أنتم..؟ والله أنا في شك من بغداد إلى جدة هل عرب أنتم..؟! وأراكم تمتهنون الليل على أرصفة الطرقات الموبوءة أيام الشدة! قتلتنا الردة. قتلتنا أن الواحد منا يحمل في الداخل ضده.. وما يميز شعر مظفر النواب هو البساطة والجرأة في الطرح مع حضور الهم السياسي بقوة، فهم من جيل المثقفين الملتزمين بقضاياهم، وكان مستعدا في كل مرة لدفع حياته ثمنا لذلك الالتزام، ولئن لم يفقد حياته فقد طلّق الاستقرار وبقي مشردا في الجغرافيا وحتى في التاريخ وهو يستعيد ذلك التاريخ الطويل من التشرد الذي بدأ مع الدولة العباسية ولم ينته عند لحظته هذه، ولئن استقر نسبيا في دمشق جسديا، وقد أنهكه المرض، فإن روحه المتمردة ما زالت لم تسكن أبدا، وبعيدا عن الالتزام السياسي فإن القيمة الفنية لشعر مظفر النواب كبيرة، ولعل فلسفة مظفر الفنية تظهر في إحدى قصائده من «الوتريات» التي يقول فيها: سيكون خراباً.. سيكون خراباً.. هذي الأمة لا بُدّ لها أن تأخذ درساً في التخريب..