كتبت صحيفة «الواشنطن» بوست الأمريكية يوم الأحد 9 مارس 2009: ليس هناك شيء اسمه حرب رخيصة، مغامرة الولاياتالمتحدة في العراق أضعفت الاقتصاد الأمريكي بشكل خطير. لا يمكنك أن تنفق 3000 مليار دولار على حرب فاشلة ولا تشعر بالألم في بيتك. وحتى 3000 مليار دولار تقدير متحفظ جدا. الكثير من المفكرين والخبراء في المجال العسكري ليس في عصرنا الحاضر فقط بل منذ أبعاد تاريخية سحيقة، ينطلقون من أنه لا يمكن لدولة أو لشعب تحقيق نصر عسكري حقيقي مستدام لفترة تاريخية معقولة من دون الانطلاق من مبدأ ضرورة إيمان المقاتل بالقضية التي يحارب من أجلها، مقابل مبدأ القوة الذي غالبا ما يستند إليه الجندي المحتل، وهنا يبرز بون شاسع بين هذا وذاك، لهذا فإن المفكرين يوصون بأن على الجندي الماهر أن يحارب وفقا لشروطه، أو لا يحارب على الإطلاق، وان يفرض المقاتل الماهر رغباته على العدو، لكنه لا يدع العدو يفرض رغباته هو عليه. وبدون أدنى شك فإن الشجاعة لا تتفوق إلا بوجود فكر يحمل الشجاعة على أكف ثابتة، وهذا شرط لا تتوفر عليه جيوش المرتزقة أو ما يدعى غربيا بشركات الأمن الخاصة التي ازدهرت في القرنين الماضي والحالي في نطاق خوصصة الحرب. النصر ذكر الجنرال جيان جينتل الذي قاد قوات مقاتلة أمريكية في العراق في مقال نشرته صحيفة «إنترناشيونال هيرالد تريبيون» في شهر أكتوبر 2009: اذا كان التاريخ دليلا مرشدا، فإن التفجيرات الأخيرة في بغداد تظهِر أن التمرد أو الحركة المسلحة في العراق أبعد ما تكون عن الانتهاء. فعلى العكس من كثير مما يكتب أو يقال، فإن النصر ليس قريبا وفكرة أن «زيادة» القوات كانت عملا عسكريا عظيما وحاسما إلى حد ما، وهو ما مهد السبيل لمصالحة سياسية، هي من قبيل الوهم والسراب. كان من قبيل الوهم بالنسبة للفرنسيين في الجزائر أن محاربتهم الدموية للتمرد هناك قد هزمت القوميين الجزائريين. وبعد الحرب، والتي دامت من عام 1956 إلى عام 1961، بدأت أسطورة في التعزز في الجيش الفرنسي ثم وجدت طريقها إلى تفكير الجيش الأمريكي، حيث عاشت حتى اليوم، وهي أن العمليات العسكرية الفرنسية هزمت المتمردين. ليس صحيحا.. في الواقع، اختار الثوار الجزائريون تخفيض وتيرة القتال بينما شغل الجيش الفرنسي والشعب الفرنسي نفسه بالمشاكل السياسية للحكم الاستعماري. وفي النهاية، أمر الرئيس شارل ديغول الجيش الفرنسي بالخروج من الجزائر في عام 1961 وحصلت الجزائر على استقلالها. وبعدها بحوالي عشرين عاما، بدأ بعض مؤرخي حرب فيتنام في الكتابة أن الجيش الأمريكي كان يمكنه أن يخضع فيتنام للهدوء ويهزم المتمردين ويضع نهاية مظفرة للحرب بفضل الأساليب التي قدمها الجنرال كرايغتون آبرامز. ووفقا لهذه الأسطورة، فإنه لولا تقلب وضعف الشعب الأمريكي والساسة الأمريكيين، لأمكن الفوز بالحرب. هذه الفكرة، والتي تهيمن على تفكير الجيش الأمريكي الحالي فيما يتعلق بالعراق وأفغانستان، هي وهم أيضا. فالتمرد الشيوعي في فيتنام لم يهزم في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ولكنه عدل وكيف أوضاعه وأفعاله تأسيسا على الظروف السائدة في فيتنام في ذلك الحين. وهجوم «تيت» في عام 1968 قلل جدا من قدرة «فيتكونغ» (وهي الجماعات المسلحة ذات التوجه الإشتراكي في فيتنام والتي حاربت القوات الحكومية الفيتنامية الجنوبية وعارضت حكومة سيغون والقوات الأمريكية) بحيث أن المتمردين كان عليهم أن يأخذوا متنفسا أو يلتقطوا أنفاسهم، في ظرف سنتين، بينما استعدت فيتنام الشمالية للهجوم العسكري النهائي في الجنوب في عام 1975. وهكذا أيضا الأمر مع العراق اليوم. فالمشكلة الأساسية السياسية والاجتماعية المتعلقة بمن سيتقلد السلطة في العراق لم تحل بعد، والحساب النهائي ما زال يتعين تحديده من خلال القتال. فالقدرة الحالية والاستعداد والإرادة الخاصة بالجماعات المتمردة والمسلحة في العراق في تنفيذ هجمات تقوض فكرة أن زيادة القوات أجدت نفعا، وأنه من خلال القوة العسكرية، توضع نهاية للعنف. هذا الماضي يجب أيضا أن يلهم تفكيرنا فيما يتعلق بأفغانستان. يظهر التاريخ أن الاحتلال للبلدان من قبل الجيوش الأجنبية بنية تغيير المجتمعات المحتلة لا يجدي نفعا وينتهي إلى تكلفة معتبرة وقاسية جدا من الدم والمال. والفكرة القائلة أنه فقط لو أن جيشا حصل على عدد أكثر بقليل من القوات الموجودة، مع جنرالات أفضل ومختلفين، فإنه يمكنه وفي غضون سنوات قليلة أن يهزم تمردا متعدد الأوجه في خضم حرب داخلية، لا تدعمها أو تؤيدها قراءة أمينة للتاريخ. إن الجزائر وفيتنام والعراق تظهر وتوضح هذه الحالة. وللأسف، لا يبدو أننا نتعلم أي شيء من التاريخ فيما يتعلق بأفغانستان، نحن نصنع نفس الأخطاء والتخبطات، نرسل مزيدا من القوات ونصرف ملايير إضافية من الدولارات، ونحاول تدمير وتجاهل القوى التي تقاتلنا وتحظى بدعم غالبية الأفغان. حرب بدون سند تحدث الأمريكيون في سنة 2008 و 2009 عن نجاح خطة الرئيس السابق بوش في تخفيض أعمال المقاومة في العراق بفضل التعزيزات العسكرية التي أرسل وبمساعدة من بعض العشائر العراقية التي كونت ما يسمى بوحدات الصحوة، غير أن هذا التقدير لم يدم طويلا، فحتى وان كانت خطط المقاومة التي وضعت في البداية قد تعرضت لبعض النكسات أو بالأصح العثرات فإنها وحتى الآن حققت جزأ هاما من أهدافها. غالبية جنود الجيش الأمريكي لا يرغبون ولا يتحمسون للحرب، وكل استطلاعات الرأي ومنذ سنوات تفيد أن السند الشعبي للحربين تنهار، وتكاد تنعدم الثقة في إمكانية تحقيق النصر. ومع ذلك وبكل بساطة حاولوا ويحاولون ان ينكروا على شعب تمتد حضارته على مدى 60 قرنا من تاريخ الإنسانية المعروف، بطولته ونجاحه بمقاومته في وقف مسار مخطط الشرق الأوسط الكبير وما كان يتضمنه من مشاريع تقسيم الأقطار العربية إلى 54 كيانا. خلال الثلث الأخير من شهر مايو 2008 طرح في المكتبات الغربية الأوروبية كتاب «ليورغن تودن هيغر» عن دار النشر س. بيرتلس مان في ميونخ صدر في 306 صفحة حول حرب العراق. فقد قام «هيغر» بزيارة العراق وسكن في بيت تابع لأفراد من المقاومة العراقية وقابل العديد من عناصر المقاومة دون أي رقابة من أي جانب. وذكر المؤلف ان المقاومة العراقية ليست مقصورة على العراقيين السنة، بل تشمل جميع الطوائف والمذاهب من سنة وشيعة ومسيحيين وغيرهم كما يشارك فيها بعثيون واسلاميون ومن كافة الاتجاهات. وقال «هيغر» ان هدف المقاومة هو طرد الاحتلال الأمريكي واستقلال العراق ووحدة أراضيه. وأكد المؤلف ان الصورة التي يرسمها المحتل الأمريكي عن الوضع في العراق زائفة، وان المقاومة العراقية لا تتعمد قتل المدنيين كما يدعي الامريكان، وانها تركز قتالها ضد قوات الاحتلال وعملائه، أما الجثث المجهولة فهي جثث مواطنين عراقيين قامت قوات الاحتلال وشركات الأمن الخاصة ك «بلاك ووترز» وغيرها بقتلهم أو إعتقالهم وسلمتهم الى المليشيات الطائفية وهي التي تقوم كذلك بدورها بقتلهم ورمي جثثهم في الشوارع. تحديات قبل ان يغادر الرئيس بوش البيت الأبيض بأشهر أشار الجنرال بروس رايت، قائد القوات الأمريكية في اليابان إن العراق وحده قد استنزف الموارد المخصصة لاستبدال أو تحديث سلاح الجو، وأوضح أن العمليات العسكرية هناك تستهلك الطاقة العملياتية القصوى للأسراب المقاتلة. ووفق ذلك فقد حذر عسكريون أمريكيون من أن سيادة سلاح الجو الأمريكي على الأجواء فوق أغلب مناطق الكرة الأرضية في خطر، ما لم يعمل البنتاغون سريعاعلى زيادة موازنة القوة لتجديد أساطيلها المتهالكة. وقال عسكريون في سلاح الجو إن حرب العراق وعلى مدى أعوام، أنهكت على نحو خطير، الأسراب الجوية من طائرات مقاتلة وقاذفات وناقلات ووحدات شحن وتلك الهجومية، وطالبوا ببدائل حديثة ومكلفة على وجه السرعة. يوم 5 اكتوبر حذر أنتوني كوردسمان المحلل السياسي والإستراتيجي، والأستاذ بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن، ومحلل شئون الأمن القومي في شبكة «ابي سي نيوز» من أن تواجه الولاياتالمتحدةالأمريكية أزمة فيما يتعلق بالحربين التي تخوضهما، فهي تخسر الحرب في أفغانستان، وفي نفس الوقت تخاطر بفقدان المكاسب التي حققتها في العراق، مشيرا الى أن الولاياتالمتحدة ما تزال بعد ثماني سنوات من الحرب تسعى لمعرفة كيفية التعامل مع مشكلات بناء الدولة. ويعد النقاش الدائر حاليا حول الإستراتيجية الأمريكية في أفغانستان المؤشر الأكثر وضوحا للتحديات التي تواجه أمريكا. ويضيف كوردسمان في تدخل آخر نشر في صحيفة «الواشنطن بوست» خلال شهر سبتمبر 2009، لن تتمكن الولاياتالمتحدة من تحقيق النصر في الحرب الدائرة في أفغانستان خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، إن تحقيق أي شكل من أشكال النصر المحدود سوف يحتاج إلى سنوات من الجهود الحثيثة. ولكنها يمكن أن تخسر الحرب ببساطة، ومن خلال عملي في مجموعة التقييم التي تقدم الاستشارات المتعلقة بالاستراتيجية للقائد الأمريكي الجديد ستانلي إيه ماكريستال، لم أر أي مسارات بسيطة لتحقيق النصر، ولكنني رأيت بوضوح الأسباب التي يمكن أن تجعلنا نخسر تلك الحرب. الصحفي الأمريكي مايك ويتني كتب: خطة الإدارة الأمريكية للعراق محكوم عليها بالفشل، لأنها مستندة على منطق خاطئ، القوة الساحقة والعنف المتطرف لا ينتجان حلولا سياسية، مجرد الكثير من إراقة الدماء. العراق ليس قطاع غزة. إن الطريق الوحيدة نحو الأمام الآن هو أن على الولاياتالمتحدة إعلان وقف إطلاق نار فوري، أن تدعوا إلى المفاوضات مع زعماء المقاومة الوطنية العراقية، أن تدعوا إلى عقد اجتماع بين المجموعات الرئيسية، وأن توافق من حيث المبدأ على الانسحاب الكامل لكل القوات الأمريكية. حتى في هذا التأريخ المتأخر، هناك تردد بين المثقفين المحافظين والليبراليين على حد سواء، للاعتراف بأنه يجب التعامل مع المقاومة، المدعومة سنيا، المقادة بعثيا وجلبها إلى منضدة المساومة. المفاوضات مع المقاومة العراقية هي «الخطوة الأولى» على الطريق إلى حل سياسي. «البقاء والصمود»، «الانسحاب على مراحل» أو حتى الاجتماع مع القوى الإقليمية، (مثل سوريا وإيران) هي مجرد علاجات سطحية لا تمس القضية المركزية. تحتاج الولاياتالمتحدة أن تعقد صفقة أو اتفاق مع الرجال الذين «يحملون الأسلحة ويحزمون المتفجرات»، هم الوحيدين الذين يحاربون هذه الحرب وهم الوحيدين الذين سيقررون شروط تسوية سياسية. سواء تجري المفاوضات الآن أَو بعد 5 سنوات من الآن تعتمد كليا على حاكم البيت الأبيض، لكن نتيجة الحرب مؤكدة الآن، طموحات بوش الإمبراطورية حطمت من قبل عدد من الوطنيين العراقيين الملتزمين. أغلقوا الطريق إلى طهران ودمشق ومهدوا الطريق لتحرير بلادهم. مواصلة الهجوم رغم النزيف خلال شهر يونيو 2009 صوت مجلس النواب الأمريكي على ميزانية إضافية لتمويل الحرب في أفغانستان والعراق بقيمة 106 مليار دولار. وخلال تلك الفترة لبى الرئيس الأمريكي أوباما طلب القادة العسكريين والمتمسكين بأمل كسب حرب أفغانستان، وأرسل قوات إضافية بقوام 17 ألف رجل بعضها سحب من العراق. بل ولعل الأهم من ذلك أنه ترك البنتاغون يرسل المزيد من قوات الأمن الخاصة ليس إلى أفغانستان وحدها بل إلى منطقة التماس مع باكستان لتقوم بعمليات داخل هذا البلد المحسوب كحليف لواشنطن في حربها على ما تسميه الإرهاب.غير أنه قبل أن تمضي اربعة أشهر على ذلك عاد العسكريون ليطلبوا من واشنطن المزيد من الأموال والجنود. وهكذا طلب قائد القوات الامريكيةوالغربية في أفغانستان الجنرال ستانلي ماكريستال شهر أكتوبر نحو 44 ألف جندي أمريكي إضافي مقرا أن ال 68 ألف جندي أمريكي الموجودين حاليا في أفغانستان غير قادرين على تسيير الحرب ضد طالبان لمصلحة الولاياتالمتحدة. وقد نسي الجنرال انه كان قد طلب في بداية شهر سبتمبر 15 ألف جندي فقط. ولكن رغم كل ذلك فإن الجنرال غاضب، وهو مع العديد من كبار القادة العسكريين وصقور في البيت الأبيض يرتجفون أمام تصور خسارة الحرب في العراق وأفغانستان كما حدث في سبعينات القرن الماضي في الفيتنام. والواضح أنهم يدركون ان مثل هذه الخسارة ستكون مؤشرا حاسما على نهاية القدرة الأمريكية الواسعة للتدخل عسكريا بعيدا عن حدودها، بكل ما يعنيه ذلك من إسقاطات سياسية وإقتصادية، ولذلك فإنهم يسبحون ضد التيار ويصرون كالثور الهائج في حلبة المصارعة على مواصلة الهجوم رغم النزيف والموت المحدق. فن الحرب الواقع أن مسيري الحرب في بلاد الرافدين وأفغانستان يتجاهلون حتى الأسس العامة لكسب الحرب ومن ضمنها المبادئ التي وضعها الحكيم الصيني «صن تزو» في القرن الرابع قبل الميلاد والتي ضمنها في كتابه «فن الحرب». ومنها «إذا أردت أن تكسب نصف الحرب، عليك أن تعرف قوة عدوك، وإذا أردت أن تكسب النصف الآخر، عليك أن تعرف نفسك. وعن العمليات الحربية يخلص «صن تزو» إلى حكمة مفادها: «إذا سمعنا عن التهور الغبي في الحرب، فإننا لا نرى من البراعة في شيء. فلم يحدث أن استفاد بلد من حرب مطولة، والقائد الذي يعرف كيف يوظف الجند هو المتحكم في مصائر الناس والفاصل بين استقرار أمن الدولة وتعرضها للخطر». أثناء الحرب الطويلة في الهند الصينية، سعى القادة الفرنسيون والأمريكيون دون جدوى لاستدراج خصومهم من جيوش (فيت منه)، و (فيت كونغ)، وجنود فيتنام الشمالية للاشتباك معهم في ظروف مواتية، بحيث تحسم قوة النيران، والمناورة، والإمداد، والتموين، نتيجة المعركة مسبقا. وقد حدث ذلك مع الفرنسيين في معركة (ديين بين فو)، ومع الأمريكيين في (كيه سان)، ولم تكن هزيمة الفرنسيين كبيرة بالمفهوم العسكري، ولكن كان لها وقع كبير من الناحية النفسية، مما أدى لانسحابهم بسرعة من الهند الصينية. وفي معركة (كيه سان)، تم استدراج القوات المسلحة الأمريكية لمنطقة حدودية ذات تضاريس أفضل قليلا من تضاريس (ديين بين فو)، بينما شنت قوات (الفيت كونغ) هجوما في المناطق الحضرية، وكسبت قوات (الفيت كونغ) حرب المدن. وكان لهجوم قوات (الفيت كونغ) تأثير نفسي سلبي على الرأي العام الأمريكي، لا يقل عما أحدثته معركة (ديين بين فو) من تأثير على الفرنسيين، فقد يمكن للبعض القول أن الولاياتالمتحدة كسبت المعارك، ولكنها خسرت الحرب، لأنها لم تدرك الاختلاف بين خوضها للحرب وخوض خصمها لها، فقد حذر (صن تزو) من أن معرفتنا لأنفسنا، وجهلنا لعدونا يجعل فرصتنا في النصر تشكل حوالي النصف تقريبا. وهذا الاختلاف في فهم طبيعة الحرب، هو السمة الغالبة لمنهج خوض الحرب الذي تتبعه معظم الدول والشعوب الضعيفة حاليا، فهو منهج يولي أهمية للخدعة، والمناورة أكثر من اهتمامه بقوة النيران، ويسعى لوضع طريقة الحرب حتى قبل أن يعلم الخصم ببدايتها، والأهم من ذلك، أن من ينتهج هذا النهج يدرك أن ميدان المعركة الحاسم نادرا ما يكون هو الذي تنتشر عليه القوات حاليا، وإنما يكمن ميدان المعركة في الإرادة السياسية التي يتمتع بها الخصم، وفي قلوب وعقول المواطنين. شركات الأمن الخاصة في كل من العراق وأفغانستان يردد أصحاب القرار من الأمريكيين ومن يحاربون الى جانبهم أن شعبي البلدين يرحبون بوجودهم العسكري، وأن من يقاومهم فريق مارق قليل العدد مساند ومدفوع من الخارج، وفي كل مرة تقع فيها عملية دامية تمس المدنيين بشكل أساسي، يعيدون تشغيل الإسطوانة المشروخة عن تنظيم القاعدة. وهم يتجاهلون حتى تقارير مراكز أبحاثهم التي يتسرب البعض منها رغم أنوفهم إلى وسائل الإعلام والتي تؤكد كذب أساطيرهم، وتجزم بأن غالبية العراقيين والأفغان لا يريدون سوى رحيل المحتل الذي جلب الدمار والخراب والصراع الطائفي والذي حول بلادهم الى مرتع للمرتزقة ويتطلع الى نهب ثرواتهم ووضعها تحت تصرف احتكاراتهم. يوم 3 نوفمبر 2009 كشفت لجنة برلمانية أمريكية مدى تورط شركات المرتزقة أو التي تسميها الإدارة الأمريكية شركات الأمن الخاصة في الحروب بالعراق وأفغانستان. حيث قالت اللجنة إن الإدارة الحالية لا تملك رقما محددا بشأن عدد الشركات المتعاقدة في العراق وأفغانستان، محذرة من أن هذا قد يزيد المخاطر الأمنية وعمليات الفساد المالي. وقال رئيس اللجنة المعنية بالمتعاقدين في زمن الحروب «مايكل تيبولت» إنه وبعد مرور ثماني سنوات على إسقاط نظام طالبان في أفغانستان وست سنوات على التخلص من نظام صدام حسين في العراق، فمن المستغرب عدم تأكد الحكومة حتى الآن من عدد الموظفين المتعاقدين في هذين البلدين. وأشار تيبولت إلى أن اللجنة المستقلة لم تعثر على أي مصدر يوفر صورة واضحة ودقيقة حول أعداد المتعاقدين وأماكنهم وتكاليفهم. وأضاف أن هذا الأمر مثير للقلق والاستغراب. وأوضح تيبولت «فى أبريل 2009 أحصى البنتاغون 160 ألف متعاقد فى المنطقة المسئولة عنها القيادة الأمريكية الوسطى» التى تضم العراق وأفغانستان والكويت فى حين أن العدد بالنسبة للقيادة المكلفة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى يرتفع إلى أكثر من 242 ألفا» أى بفارق يفوق ال80 ألف شخص. وأشار إلى أن هذا الانطباع «هو الباب المفتوح أمام الارتباك والفساد وسوء إنجاز المهمات الأمريكية» على الأرض. رغم أن الجميع يعلم أنها قوات ترتبط وتتكامل كليا مع وزارة الدفاع الأمريكية تحت توصيف «خصخصة الحرب» التي نظر لها وزير الدفاع السابق وأحد مخططي الحرب على العراق دونالد رمسفيلد كأساس لتخفيف وقع الخسائر التي تتكبدها القوات التابعة مباشرة للبنتاغون. وأوضح تيبولت أن هناك خللا على صعيد الأمن «فى حال كان معظم المتعاقدين يقومون بعمل أساسى لهذا البلد، فيكفى أن يدخل موظف محلى واحد متفجرات إلى مطعم للجنود أو إلى مقر قيادة أو مستشفى أو مركز منامة حتى تقع مجزرة». من أهم الشركات الأمنية أو ما يصطلح أحيانا على وصفه بالبنادق المستأجرة، التي تستخدمها الولاياتالمتحدة في العراق وأفغانستان «بلاك ووتر» التي يترأسها اريك برنس والذي أسسها في سنة 1995 لتصبح من أهم المؤسسات التي يعتمد عليها البنتاغون في الخارج، ولابد من التذكير أن اريك برنس كان أحد الممولين لحملة انتخاب جورج بوش ومن أنصار المحافظين الجدد. جرائم حرب رئيس اركان الجيش الباكستاني السابق الجنرال «ميرزا اسل بيك» كشف نهاية صيف 2009، الكثير عن نشاط شركات الأمن الخاصة الأمريكية مثل «كي بي أر»، و»بلاك ووتر»، و»دين كورب» فيما يعتبر جرائم حرب وضد الإنسانية، وكيف أنها تشكل وسيلة غير خاضعة للرقابة تمكن محركيها من إنجاز كل المهام التي لا يجرؤون على تنفيذها عبر أجهزة الدولة. وقد ذهب الى إتهامها أنها وبناء على أوامر من المخابرات المركزية الامريكية تورطت في اغتيال رئيس وزراء لبنان الاسبق رفيق الحريري ورئيسة وزراء باكستان السابقة بنازير بوتو، واردف قائلا ان تفجير الاربعاء الدامي في العراق الذي وقع في 19 أغسطس 2009، تقف وراءه هذه المجموعات هذا وقد عاثت هذه المجموعات فسادا بشكل متوحش مثل قطع رؤوس المواطنيين العراقيين والأفغان وحتى الباكستانيين وعمليات لا أخلاقية اخرى مثل التحرش الجنسي والاغتصاب وتهريب الاموال والمخدرات والسلاح. وتقول جريدة الخليج التي تصدر في الإمارات العربية المتحدة ان «ايريك برنس» لديه مجموعات شركات أمنية أخرى ويديرها جاري جاكسون من أجل التضليل والتغطية على جرائم مجموعته «بلاك ووتر». وتضيف أن العديد من أعضاء الكونغرس الأمريكي يحذرون من خطر الشركات الأمنية على مخططات واشنطن لأن أفراد هذه الشركات لا يحركهم سوى المال حيث يتقاضون يوميا ما بين 500 و 1500 دولار، ولا يهمهم أمن بلدهم. اسطورة الإنسحاب جاء أوباما الى البيت الأبيض وقد صدق البعض كلامه حول الأنسحاب من العراق، وإن كان بعد سنوات. ولكن مقاربة بسيطة لخطب بوش مع خطب أوباما تظهر ودون عناء تشابها في السرد التسويقي للإحتلال دون التنازل عن مشروع استعمار بلاد الرافدين لمائة عام وبناء القواعد العسكرية الدائمة على أرضه. وقد تعزز هذا التوجس بعد أن بينت عدة أبحاث أن أرض العراق تحتوي على مخزون نفطي هو الأكبر في العالم بما يتعدى 520 مليار برميل. من هنا يمكن ان يدرك الذين تصوروا ان قرار الانسحاب الأمريكي من المدن العراقية الى قواعد موزعة هو بداية للانسحاب الكامل، انهم سقطوا في وهم كبير. خطة أوباما للانسحاب عبارات أطلقت لتمويه الصيغة الجديدة لتواجد القوات العسكرية الأمريكية في العراق، فمن المعروف أن مسك العقد العسكرية الخارجية والإحاطة بالمدن والقصبات من خلال شبكة مترابطة من القواعد العسكرية الكبرى، يوفر حماية ومرونة عالية واختصارا في الجهد والكلفة، فالقواعد الأمريكية الرئيسية التي تقع في مناطق صحراوية ونائية والقواعد الثانوية التي لا تبعد في بعض المدن والمناطق المهمة سوى كيلومترات -حيث انتقلت القوات الأميركية من مراكز المدن إلى ضواحيها- توفر ما هو مطلوب منها ولكن بجهد وتكلفة أقل. إن بقاء قوات النخبة الأمريكية وبأعداد تصل إلى حدود خمسين ألف جندي كقوات تدخل سريع مدعومة بقوة جوية ضاربة في القواعد الأمريكية المنتشرة في أرجاء العراق، لا يغير من صفة الاحتلال شيئا، خاصة وأن هناك ما بين 100 _ 160 ألف من مرتزقة الشركات الأمنية حسب المصادر الأمريكية المستقلة يقومون بمختلف الأعمال العسكرية، ولم تتطرق خطة الرئيس أوباما إلى انسحابها أو مستقبلها أو طبيعة واجباتها. أحكام التاريخ للتاريخ احكام تتكرر، والمؤرخون يخبروننا كم من الإمبراطوريات سقطت في الحروب على العراق وأفغانستان. الرهان الأمريكي على الوقت لتحقيق مكاسب ثابتة وقادرة على الصمود لعقود ولو قليلة محكوم بالفشل، كما هو واضح في العراق وافغانستان، الوقت يلعب لصالح المقاومة وليس لصالح الاحتلال. فالموارد التي كانت تبدو غير محدودة للغزاة، بدأت تنحسر، ليس لأنها قليلة، بل لأنها تضيع وتتبدد في مستنقع لا قرار له. في حين تزيد المقاومة مواردها، من هذا الفشل بالذات، إن لم يكن من قدراتها الخاصة أيضا. وهذا وضع لا يبشر الولاياتالمتحدة بالفوز ولا بتحقيق «تقدم» ولا بكسب أي رهان. فالولاياتالمتحدة تدور في دوامة عجز يبدو انه هو العنصر الثابت، بينما «التقدم» المزعوم هو العنصر المتغير في المعادلة.