لطالما اعتقد البعض أن الاتحاد السوفيتي سابقا و روسيا حاليا الأقرب لدعم القضايا العربية تاريخيا فاعتقد العديد من العرب أن الاتحاد السوفيتي حين تدخل مثلا لوقف العدوان الثلاثي على مصر سنة 56 كان موقفا بطوليا أخلاقيا لا مصلحيا . و لكن الأمر لم يكن كذلك فتحرك الاتحاد السوفيتي كان مبعثه الخوف على مصالحه في المنطقة و إبراز قوته على انه اللاعب الثاني في المسرح الدولي بعد الولاياتالمتحدة آنذاك. و لكن تبقى القاعدة العامة أن العلاقات بين الأمم علاقات مصالح و ليست علاقات مبنية على مبادئ أخلاقية . فقد أشعلت نار الحروب و قتل الملايين و طورت الأسلحة الفتاكة لهدف واحد و هو تحقيق مصلحة هذا الطرف أو ذاك و من السخف انتظار نصرة روسيا أو غيرها لتقف إلى جانب الحق و في وجه الظلم . روسيا نفسها لا تقل إجراما عن الولاياتالمتحدة و ربما تتعداها و ما يحصل في الشيشان اليوم خير دليل على هذا الإجرام . لكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هذه الأيام و هو هل تستطيع روسيا فعلا وقف الحرب على العراق ؟ روسيا و النفط العراقي لا شك أن حربا على العراق ستؤثر على روسيا على اعتبار أن لها مصالح في العراق و أن شركاتها كانت المستفيد الأول من النفط العراقي طوال الفترة السابقة حتى في ظل الحصار و أيضا لان روسيا دولة نفطية و النفط يشكل إحدى الدعامات الأساسية للاقتصاد الروسي . و هناك اكثر من 300 شركة روسية تتعامل مع العراق تجاريا و عشرة من الشركات النفطية الروسية التي وقع بعضها عقودا رسمية مع العراق كشركتي لوكويل و تافنفت تستفيد من حوالي 40% من نفط العراق و هي النسبة التي سمح بها برنامج النفط مقابل الغذاء منذ 1996 . و العراق اليوم كما هو معروف اصبح الثاني عالميا بعد السعودية في الاحتياطي النفطي العالمي , هذا إضافة إلى القنبلة التي سبق و فجرتها شركة زاروبيجنفت zarubezhneft العاملة في العراق منذ الستينات حين أعلنت قبل أسابيع أن هناك حقولا نفطية عراقية غير مستغلة تصل قيمتها إلى حوالي 70 بليون برميل من النفط و هذا تقريبا يعادل نصف الاحتياطي النفطي العراقي الحالي . هذا الخبر أسال لعاب الأمريكان رغم تحفظهم عليه و زاد من قلق الروس حول مستقبل مصالحهم في العراق . يقول نيكولاي توكاريف المدير العام لهذه الشركة و عضو اللجنة الحكومية الروسية التي زارت العراق مؤخرا : " هذه احتياطات ضخمة جدا و لابد من استغلالها " . و هناك أيضا ديون على العراق لصالح روسيا تبلغ قيمتها 7.6 بليون دولار تعود للعهد السوفيتي , هذا إضافة إلى الدور الذي تلعبه الشركات الروسية في التحكم في الصادرات النفطية العراقية حتى تحافظ على توازن أسعار النفط في الأسواق العالمية . و تخشى روسيا من أن حربا على العراق تتبعها سيطرة أمريكية كاملة على النفط العراقي مع قيادة عراقية جديدة موالية للبيت الأبيض ستفقدها كل الامتيازات التجارية التي تتمتع بها حاليا مع العراق رغم قراره الأخير بفسخ العقد مع شركة النفط الروسية لوكويل . تقول سابرينا تافيرنيز الصحفية الأمريكية في النيويورك تايمز : " الشركات الروسية قلقلة إلى أبعد مدى من العمل العسكري المتوقع أن تشنه أمريكا على العراق لان هذا لن ينهي سيطرة صدام وحده بل سيطرة الشركات النفطية الروسية على حقول النفط العراقية المربحة جدا " . و يشدد نيكولاي توكاريف على هذا الأمر قائلا في حوار أجرته معه صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا :" إذا حصل هناك عمل عسكري في العراق فسنخسر كل شيء و الأمريكيون لن يحتاجوا لنا هناك و ستفقد شركاتنا النفط العراقي للأبد ". و لعل هذا التخوف الروسي من تأثير الحرب على مصالحهم دفع بفاجيث أليكبيروف الرئيس التنفيذي لشركة لوكويل إلى طلب ضمانات من الرئيس بوتين تحفظ امتيازات شركته في عراق ما بعد الحرب . لكن الرئيس بوتين نفسه لا يستطيع التعهد بشيء خصوصا و أن روسيا تعلم جيدا أن دخول القوات الأمريكية العراق و تنصيب قيادة بديلة عميلة لأمريكا معناه عقود نفطية جديدة لكبرى الشركات النفطية الأمريكية و بدرجة اقل الشركات البريطانية . و نذكر هنا بالتصريح الذي أدلى به أحمد شلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي المعارض للواشنطن بوست في سبتمبر الأخير قائلا : " سوف تحصل الشركات الأمريكية على نصيب الأسد من النفط العراقي " . و لعل ما يزيد من قلق الروس هو أن ميزانيتهم للسنة القادمة ستعتمد بشكل رئيسي على أسعار النفط و أي خلل في هذه الأسعار قد يزيد من أزمات الاقتصاد الروسي المتهالك أصلا منذ عقود رغم سياسة الإصلاحات التي فشلت في إخراجه من أزماته المتكررة . و تخشى روسيا من قيام أمريكا بفسخ عقودها النفطية الأخيرة معها إذا ما سيطرت بشكل تام على نفط العراق فحينها ستغذي اقتصادها بكل حاجياته النفطية دون أن تعبأ بأسعار النفط سواء ارتفعت أو انخفضت . و هذا سيلقي بظلاله على التزامات روسيا الخارجية المتمثلة في ديون بعشرات الملايير من الدولارات المستحقة الدفع و أيضا سيؤثر على الوضع الداخلي و ميزانية الدولة العسكرية الخاصة بالحرب في الشيشان . و يتوقع الخبراء الاقتصاديون الروس أنه من المتوقع أن تنخفض أسعار النفط و تنزل إلى 12 دولار للبرميل الواحد إذا ما سيطرت أمريكا على العراق و هذا كاف حسب ميخائيل خودوروفسكي رئيس شركة يوكوس النفطية الروسية للتسبب في كارثة اقتصادية روسية تدخل الصناعة الروسية في نفق مظلم قد لا تخرج منه أبدا . و رغم التطمينات الأمريكية المتكررة بضمان المصالح الروسية في العراق لكن روسيا لا تتق كثيرا في أمريكا خصوصا و أن مسألة النفط قضية حساسة بالنسبة للاقتصاد الأمريكي الذي تلقى ضربة قوية بعد 11 سبتمبر و اصبح في أمس الحاجة لدفعة قوية تنعشه من جديد و هذا هو الدور المرتقب أن يعلبه نفط العراق إذا ما نجحت أمريكا في احتلال العراق و السيطرة على منابع النفط . ثمن موافقة روسيا على الحرب تختلف كثيرا قضية العراق عن قضايا كثيرة تنازلت عليها موسكو سابقا كقضية كوسوفو حين قبلت بثمن بسيط في مقابل سماحها بضرب صربيا حليفتها في البلقان و الذي تمثل في بعض القروض الدولية و علاقات تجارية متميزة مع الولاياتالمتحدة و غطاء دولي و خصوصا أمريكي لحربها على الشيشان . و حتى التقارب الأمريكي الروسي الأخير بعد 11 سبتمبر لم يؤتي أكله و لم يجلب المساعدات الأمريكية التي كانت متوقعة . أما في الحالة العراقية فروسيا تريد ثمنا مناسبا يعوضها عن الخسائر الهائلة التي ستتعرض لها الشركات النفطية الروسية و الاقتصاد الروسي بصفة عامة . و كان الكرملين قد صرح حسب ما جاء في صحيفة ديلي تلغراف البريطانية يوم 9 أكتوبر الأخير بأنه مستعد للسماح بعمل عسكري في العراق لكنه طلب ثمنا مناسبا لذلك . و جاء في خبر نقلته صحيفة البرافدا الروسية بتاريخ 10 أكتوبر الأخير أن الكرملين عرض مطالب محددة لأي موافقة روسية على الحرب القادمة على العراق , تقول الصحيفة : " حددت السلطات الروسية مطالبها كآلاتي : حصص تجارية للشركات الروسية في عراق ما بعد الحرب تتجاوز قيمتها 10 بليون دولار و عضوية كاملة لروسيا داخل منظمة التجارة العالمية و منافذ أوسع للمنتجات الروسية داخل السوق الأمريكية و ليس فقط الغاز و النفط و أيضا شرعية دولية للحرب الروسية على الثوار الشيشانيين ". روسيا تعلم علم اليقين أن الحرب لاشك قادمة و مسألة الوقوف في وجه أمريكا ليست واردة بتاتا اليوم كما أن الفيتو الروسي قد أصابه الشلل منذ أمد بعيد شأنه في ذلك شأن بقية الدول الدائمة العضوية باستثناء طبعا الولاياتالمتحدة . لذلك فجل الاهتمام الروسي الحالي منصب على الحصول على ثمن مناسب حتى لا تفوز أمريكا بكل "الكعكة "و تبقى روسيا متفرجة . و يتخوف الصحفي الروسي ديمتري سلوبودانيك من انه حتى في حالة موافقة أمريكا على المطالب الروسية و هذا غير متوقع فإن هذا لن ينقذ الاقتصاد الروسي إذا ما حصل هبوط حاد في أسعار النفط العالمية , يقول :" حتى لو وافقت الولاياتالمتحدة على كل مطالب روسيا فهذا سيحسن من وضع الاقتصاد بعد سنتين أو ثلاثة و لكننا أمام كارثة آنية , آثارها ستكون مباشرة و ستؤدي إلى انهيار الاقتصاد الروسي إذا ما نزل سعر النفط إلى أرقام قياسية ". و ما يزيد أيضا من قلق القيادة الروسية هو التأثير المتوقع لهذه الأزمة على المستقبل السياسي للرئيس بوتين الذي قد يفقد كرسيه إذا ما تأزمت وضعية المواطن الروسي أكثر مما هي عليه الآن . و تبقى الورقة الوحيدة بيد روسيا و التي تقلق أمريكا بالفعل هي الترسانة النووية الضخمة التي خلفها الاتحاد السوفيتي السابق لروسيا . فأمريكا تخشى من تسرب هذه الأسلحة إلى دول معادية لها كإيران مثلا . و قد يدفع هذا الأمر بالأمريكيين إلى إرضاء الروس بشكل أو بآخر قبل خوض حربها المتوقعة . لكن الأهم من هذا كله انه من المستبعد جدا أن تستخدم روسيا مثلا حق الفيتو ضد أي قرار دولي بشن الحرب . فروسيا اليوم في وضعية مزرية على كافة الأصعدة و هي كغيرها من الدول في حاجة لعلاقات متميزة مع الولاياتالمتحدة و أي استخدام لحق الفيتو معناه نسف كل العلاقات مع أمريكا و أوروبا و العودة إلى حقبة الحرب الباردة . لكن ما يشغل بالها الآن هو فقط ثمن مناسب لأي موافقة روسية على الحرب أو على أقل تقدير عدم مشاركة و لعل هذا ما لمح إليه وزير الخارجية إيفانوف مؤخرا حين صرح بأن بلاده لن تشارك في أي حرب مستقبلية على العراق لكنه لم يجب على مسألة إن كانت بلاده ستستخدم حق الفيتو لمنع أي قرار يجيز شن الحرب على العراق . و مما يؤسف له أن بعض الأوساط العربية مازالت تستنجد بروسيا و تنتظر منها الفرج و النصرة و هي تعلم أن روسيا عاجزة عن فعل أي شيء و أنها دولة ذات مصالح تسعى كغيرها من الدول لضمان مصالحها و لا يهمها أن يباد العراق عن بكرة أبيه . أما المعضلة الحقيقية فهي أن الدول العربية عاجزة عن الدفاع على مصالحها و مصالح شعوبها بل و عن أرضها . النصرة الحقيقية تأتي من الشعوب العربية التواقة لإصلاحات جذرية في النظام العربي, إصلاحات توفر لهم عيشا كريما و ديمقراطية حقيقية و ليست ديمقراطية 99% و الحزب الوطني الأوحد. أما أن يطحن المواطن العادي و يجرد من إنسانيته و يدعى للحرب و يستثنى في السلم فلن يتقدم العرب خطوة واحدة بل سيتراجعون و يتراجعون إلى أن يفرج الله هذه الغمة . حميد نعمان