لا يمكننا الحديث عن علم قائم بذاته بدون منهج يفصح عنه ويجلي صورته. هذا لأن العلوم لا تأخذ مصداقيتها إلا من تماسك مناهجها، ومن قدرة هذه المناهج على استخلاص المعارف وتقنين الأنساق المنتجة لها . إن مسألة المنهج هي عماد البحث وأساسه في كل المجالات المعرفية والعلمية ، واختيار المنهج يرتبط أولا وأخيرا بطبيعة الموضوع محل البحث. فإذا كان موضوع البحث مثلا يحتاج إلى تجميع المعلومات ثم المقارنة بينها والعمل على تفسيرها وتحليلها لأجل الوصول إلى نتائج مقبولة، فهذا يتطلب اعتماد المنهج الوصفي. وإذا كان الموضوع محل الدراسة يحتاج إلى دراسة النصوص من الداخل لفك رموزها واستقرائها، تعتمد خطوات المنهج البنيوي ، وإذا كان الموضوع يتطلب العودة إلى الوثائق القديمة لأجل الإفصاح والبيان عنه، فهذا يتطلب الاستناد إلى المنهجية المتبعة في المنهج التاريخي . واختيار المنهج حسب الدكتور أحمد أوزي ليس متروكا للباحث وإنما يتم هذا الاختيار على أساس موافقته لموضوع البحث ( ) . وقد يستند الباحث على أكثر من منهج في تحليل ظاهرة من الظواهر كما هو الحال في العلوم الإنسانية .ونؤكد على أن لكل منهج أدوات بحثية يستخدمها في التحليل أو المقابلة أو التفسير ... وكلما تعددت الأدوات البحثية كلما كانت النتائج المحصل عليها فعالة .وهكذا استحق المنهج أن يعرف بأنه " الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد الهامة التي تهيمن على سير العمل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة "( ). وربما هو ما جعل الدكتور فريد الأنصاري يعتبره :" نسق من القواعد والضوابط التي تركب البحث العلمي وتنظمه ". ( ) ومنه فالمنهج المنهج هو مجموعة العمليات العقلية الاستدلالية تستخدم لحل مشكلة العلم وبناء العلم نفسه في مرحلة من تاريخه. ونشير هنا إلى أنه قد اختلف في تصنيف المناهج بين الدارسين وذلك حسب الحقول المعرفية التي درست فيها . وكذلك بسبب كون بعض الدارسين قد نظروا إلى بعض المناهج على أنها أساسية نموذجية واعتبروا أخرى جزئية متفرعة عن الأولى ،مما قلص من أهميتها مقارنة مع الرئيسية . فقد اقترح فريد الأنصاري أربعة مناهج للبحث في مجال العلوم الشرعية ، مراعيا في ذلك طبيعة الدراسات الإسلامية، وخصوصياتها وهي : المنهج الوصفي والمنهج الحواري والمنهج التوفيقي والمنهج التحليلي. ( ) وحينما كانت الدراسات اللسانية حقلا من الحقول المعرفية المندرجة ضمن ما يسمى بالعلوم الإنسانية، فهي لتفصح في نظرتها عن هذا الأمر وتؤكده. فاللسانيات لم تتعدد مذهبا ونظرية إلا لأنها تعددت منهجا . وهو ما سنحاول توضيحه من خلال هذه الدراسة بحول الله وقوته . إلا أنه سنبدأ من اللسانيات التاريخية وذلك استجابة لمطلب التأصيل الذي يستدعي الانطلاق من الأسس الأولى التي تنبني عليها المعرفة . فكان علينا بذلك أن ننطلق من المناهج المعتمدة في اللسانيات التاريخية التي مهدت الطريق للسانيات الحديثة ، وجعلتها علما قائما بذاته على الصورة التي هي عليها اليوم . فما هي إذا المناهج في كل من اللسانيات التاريخية والحديثة على حد سواء؟. 1- مناهج اللسانيات التاريخية: historical linguistics تطلق تسمية اللسانيات التاريخية على الدراسات اللغوية التي ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر الميلادي ، وتختلف الدراسات التاريخية على الدراسات النحوية التقليدية القديمة ، وكذلك عن اللسانيات الحديثة التي ظهرت مع مطلع القرن العشرين من حيث المنهج والتصور.( )وتعمل هذه اللسانيات على دراسة اللغة الواحدة في تطورها عبر المراحل المختلفة منذ نشأتها إلى يوم الدراسة قصد تبين تاريخها ، مع رصد ما وقع فيها من تغيرات صوتية ومعجمية ونحوية ودلالية ، وبيان الأسباب الكامنة وراء ذلك.وقد سماها سوسير باللسانيات التطورية (linguistique diachronique ) . و الدراسات التاريخية للغة كانت مرفوضة وغير مرغوب فيها بتاتا عند اللسانيين. إذ لم يتقبلوها إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي . وذلك راجع إلى كون التاريخ في نظرهم لا يدرس الأشياء والظواهر اللغوية ، وإنما يدرس حياة الأمم السالفة ( ). وتتطلب هذه اللسانيات جهدا أكبر إذ يتعين على اللساني معرفة اللغة الأم، وجميع اللغات المتفرعة عنها قديمة كانت أم حديثة .إنه حسب ماريو باي عمل شبيه بعمل الشرطة السرية المتمثل في التقاط المفاتيح وجمع الجزئيات وربط بعضها ببعض.( ) أما فيما يخص المناهج المعتمدة في هذه اللسانيات، فقد أقصرها معظم الباحثين على منهجين هما : المنهج المقارن ، ومنهج إعادة التركيب اللغوي (منهج إعادة التركيب الداخلي ). ورأى بعضهم أنها ثلاث مناهج ، ومن هؤلاء ميلوسكي الذي أضاف إلى المنهجين السابقين المنهج الفيلولوجي، يقول : " إن اللسانيات التاريخية استعملت ثلات مناهج لاعادة بناء اللغات ، المنهج الفيلولوجي ، و منهج إعادة التركيب الداخلي ، والمنهج المقارن ( ). وفيما يلي تفصيلها:
1_1_ المنهج المقارن : the comparalive méthode ويهدف إلى الكشف عن القرابة الموجودة بين اللغات وتحديد الأصل الذي تنحدر منه ، أو كما قال أحمد مومن : يكشف " عن القرابة الموجودة بين اللغات ومعرفة نسبها الجيني بصورة دقيقة للغاية."( ) واللساني المتوسل بهذا المنهج يأخذ عينات لغوية من اللغة موضع البحث ثم يقارنها بلغة أخرى ليتوصل بذلك إلى العلاقة والصلة التي تجمع بينهما . فإذا وجد العينات اللغوية المأخوذة من اللغتين متماثلتين بشكل جلي ، يتأكد حينها أن اللغتين تنحدران من أصل واحد ؛ أي أنهما تنتميان إلى لغة أم واحدة . وفي هذه المرحلة بالذات من الضروري توخي الحيطة و الحذر من مسألة ما يسمى بالاقتراض اللغوي إذ لا يسمح للغوي مثلا أن يقيم مقارنة بين كلمة internent في اللغة الفرنسية وكلمة " إنترنيت " في اللغة العربية فيحكم عليهما بناء على التشابه القائم بينهما بالانتماء إلى أصل واحد أو لغة أم واحدة . لأن هذا التشابه راجع إلى قضية الاقتراض ، إذ ثم اقتراض كلمة Internet من اللغة الفرنسية من طرف اللغة العربية بالشكل الذي هي عليه من دون أدنى تعديل لانعدام وجود مقابل لها في اللغة العربية . إن اللساني في هذا الصدد يقوم بمقارنة صيغ لغوية للغتين أو أكثر ويحدد العلاقة التي تجمع بينهما . وبعد أن ينتهي من جمع المعطيات الخاصة بتلك الصيغ اللغوية يحاول أن يفترض صيغة أولية لها ويتخذها كصيغة أصل تفرعت عنها مختلف الصيغ الأخرى ، وقد تكون هذه الصيغة الأولية مستنبطة من لغة غير موجودة على أرض الواقع ؛كاللغة الهندوأوروبية مثلا. ( ) ولتوضيح هذه المسألة نقدم المثال الذي قدمه لاهمان (Lehmann) في هذا الصدد حيث قال : " إذا أردنا أن نعرف صيغة فعل الكينونة (tobe) في الطراز البدئي الهندوأوروبي ، فيمكن أن نقارنها في بعض اللغات كالسنسكريتية asti ، واللثوانية esti، والإغريقية ésti، وبعد هذا يمكن التوصل إلى وضع الصيغة الأصلية التالية : ésti"( ). وحتى يصل اللساني المقارن إلى الصيغة الأصلية يتوجب عليه الانطلاق من أمثلة وصيغ عديدة كي تتم عملية المقارنة بكيفية منطقية وسليمة، وللتوضيح أكثر نقدم جدولا يرصد أوجه الاختلاف والإتلاف بين اللغة العربية وبعض اللغات الأوروبية الأخرى كالفرنسية والإيطالية والإسبانية ، والإنجليزية والألمانية : جدول يبين الفرق بين اللغة العربية وبعض اللغات الأوروبية ( ) إن مجرد ملاحظة بسيطة في هذا الجدول من شأنها أن تبين لنا أن اللغة العربية تختلف بشكل كبير عن باقي اللغات الأخرى، وذلك راجع إلى كونها تنحدر من الأصل السامي ( ) في حين أن باقي اللغات تعود إلى الأصل الهندوأوروبي ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ثمة تماثل واضح بين اللغة الإنجليزية واللغة الألمانية أكثر مما هو موجود بينهما وبين اللغة الإسبانية والإيطالية والفرنسية ، ذلك أنهما تعودان إلى أصل واحد ، هو الأصل الجرماني، في حين أن الإسبانية والإيطالية والفرنسية تنحدر من الفرع الرومانسي . 1_2_منهج إعادة التركيب للغوي أو الداخلي : themethod of internal reconstruction إن هذا المنهج حسب أحمد مومن يهدف إلى " إعادة البناء دون اللجوء إلى المقارنة. إذ أنه يستعمل عندما تتعذر المقارنة بسبب انعدام اللغات المدونة .ويركز على العناصر المختلفة داخل اللغة الواحدة ، ويرمي إلى تمييز العناصر اللغوية العتيقة أو المهجورة من العناصر اللغوية الجديدة "( ) وفي هذا تأكيد على أن هذا المنهج يرمي إلى تحديد الاختلافات الداخلية للغة من اللغات بغية تمييز العناصر القديمة من الحديثة . إنه يعيد بناء اللغات بعيدا عن المقارنة لأنها غير مدونة . وهو حسب ميلوسكي يتخذ ثلاث أشكال : أ- يستخلص الاستنتاجات على أساس التغيرات الفيلولوجية . ب_ إنه في حالة كون صيغتان تمتلكان نفس الدلالة ، على سبيل المثال ؛ إحداهما مطابقة للنظام المورفولوجي العام ، والأخرى استثنائية ، ينظر إلى الصيغة الاستثنائية منها على أنها الأقدم لأنها تنتمي إلى نظام لغوي قديم وهو ما أطلق عليه ميلوسكي منهج الاستثنائية. ج_ وفي شكله الثالث يتناول الصيغ السائرة في طريق الانقراض ، ويعتبرها الأقدم إذا وجدت صحبة أخرى في طريق التطور . وفي هذه النقطة قدم لنا مثالا مؤداه (thou) و(you)أولهما سائرة في طريق الانقراض ، والأخرى في طريق الحيوية ، ومنه فالصيغة الأولى (thou) هي الأقدم. ( ) وعلى العموم فهذا المنهج قد قدم نتائج جيدة ومقنعة للغاية ، ما يبرر ذلك ما قدمه من فرضيات تأكدت من طرف الحفريات الحديثة فيما بعد.( ) 1--3المنهج الفيلولوجي :the philological method يعمل هذا المنهج على مقارنة النصوص المكتوبة داخل لغة من اللغات ، وذلك عبر مراحل زمنية مختلفة، فهو يهدف إلى : " مقارنة النصوص المكتوبة داخل اللغة الواحدة عبر مراحلها التاريخية المختلفة ."( ) وفي هذا المنهج يعمل اللساني على مقارنة العناصر اللغوية التي تقوم بنفس الوظيفة اللغوية في جميع مراحل هذه اللغة ( قديمة ، متوسطة ،أم حديثة )، ويسجل بدقة كل التغيرات الواقعة بطريقة تدريجية .ونمثل لذلك بمثال من اللغة البولونية ، مفاده أن مقارنة تصريف الأسماء في نصوص هذه اللغة في القرن الرابع عشر الميلادي ، والخامس عشر الميلادي ، مكنت من إرساء التطور العام للأشكال البولونية خلال القرون الستة الأخيرة. ( ) وخلاصة الكلام فعلى الرغم من أننا قد تعهدنا بالحديث عن مناهج اللسانيات الحديثة فمسألة التأصيل فرضت علينا الرجوع إلى هذه المناهج لأنه لولاها لما قامت للسانيات الحديثة قائمة أصلا، وعموما فهي مناهج علمية أثبتت جدارتها في المجال اللساني . إذ لقيت قبولا حتى من لدن اللسانيات الحديثة لأنها تنسجم مع العلوم التجريبية . 2_مناهج اللسانيات الحديثة : يطلق لفظ اللسانيات الحديثة على المدارس اللسانية الحديثة التي ظهرت في أوروبا مع بداية القرن العشرين ، منذ فجر البنيوية مع فيردنان دي سوسير المعروفة بمدرسة جونيف والتي وضعت قطيعة مع اللسانيات التاريخية .والمدرسة الوظيفية أو ما يسمى بمدرسة براغ مع ياكبصون وأندري مارتنيه. فقد عملت هذه المدرسة على تطوير أعمال سوسير البنيوية. وكان من اتجاهات هذه المدرسة نظام التقابلات الصواتية لمؤسس علم الصواتة الأمريكي نيكولا تروبوتسكوي ." وتعتبر نظرية الملامح المميزة من إنتاجاتها البارزة. وبعدها المدرسة النسقية المعروفة بمدرسة كوبنهاغن أو مدرسة هيلمسليف ثم المدرسة الاجتماعية أو السياقية بلندن ، وتضم اللسانيات الحديثة كذلك المدارس التي ظهرت في أمريكا كمدرسة سابير والمدرسة التوزيعية مع بلومفيلد ثم المدرسة التوليدية التحويلية مع تشومسكي وتلاميذته كاتز وفودور وبوستال ...إلخ وتجدر الإشارة إلى أن نشوء هذه المدارس قد شكل ثورة على سابقتها التاريخية. ويمكن التمييز بين اتجاهين في اللسانيات يختلفان من حيث المنهج ، الأول : مادي مرتبط بالمنهج التجريبي. والثاني عقلاني تبنى المنهج العقلاني ينضاف إليهما اتجاه ثالث حاول التوفيق بين المنهجين معا اصطلح عليه الاتجاه التوفيقي ، وهو ما سنحاول تفصيله. 2_1_ الاتجاه المادي والمنهج التجريبي : ويرى أصحاب هذا الاتجاه أنه ما من سبيل لإدراك حقائق المعرفة سوى التجربة المرتبطة ارتباطا وثيقا بالملاحظة ، واعتقدوا أن العقل البشري ينطبع بشكل مباشر بآثار الأحاسيس والتجربة وهو ما يسمى بمسلمة العقل البعدي postèrioriste ، وهو ما جعل هذا المنهج يتأسس على التجربة ولا شيء غير التجربة، وهذا ما أشار إليه مارابو في قاموسه" الفلسفة " حيث قال : "إن التجربية بوصفها منهجا ، تقتضي إتباع تعاليم التجربة من غير أفكار مسبقة ولا فرضيات معدة سلفا ." ( ) وفي تعريفه هذا رفض للموقف العقلاني الذي يحكم على الظواهر بكيفية مسبقة من خلال وضع فرضيات تكون بمثابة أفكار مسبقة ثم يعمل على اثباتها فيما بعد . وفي ارتباط التجريبية بالتجربية لأجل الكشف عن اواقع يقول فولكيه في قاموسه اللغة الفلسفية: " التجربة هي المصدر الوحيد لما نستطيع أن نعرفه عن الواقع "( ) ومنه فللوصول إلى حقيقة المعارف كيفما كان نوعها من منظور تجربي يتعين التوسل بالتجربة الواقعية .ولما كانت اللسانيات إحدى هذه المعارف لزم الخوض فيها بإتباع تعاليم التجربة اللسانية ، وذلك لأن التجربة حدث في واقع تخبر عنه تجربة المتكلم والمتجسدة في ما يتلفظ به من كلام. وجدير بالإشارة إلى أن اللسانيات البنيوية قد وظفت الفلسفة التجريبية ، والوضعية المنطقية لرودولف كارناب، منطلقة بدالك من الواقع اللغوي لتصل إلى النظرية اللسانية فقد " اعتبرت الوضعية المنطقية السيميوطيقا فلسفة عامة للغة ، وقسمها كارناب إلى التركيب syntaxe الذي يدرس بناء الجمل ، وتنظيم الكلمات و السيمانتيك semantique أو الدلالة التي تدرس معاني الكلمات ، ثم البراغماتيك paragmatique الذي يدرس البناء والمعاني والأشخاص الذين يتحدثون هذه الكلمات "( ) وما دام اللسان حسب منذر عياشي حدث في واقع في تجربة فمن هو أولى بالإخبار عن هذا الحدث ، هل هو المتكلم صاحب الحدث ؟ ، أم هو اللساني مراقب هذا الحدث ؟ ، أم يستويان تعاملا وممارسة مع اللسان ؟. والإجابة أن كل التساؤلات ذات صبغة تجريبية لأن اللسانيات تعتمد على التجربة سواء كانت لسانيات تاريخية أم بنيوية . فالبنيوية قد عملت في انتهاجها للمنهج التجريبي على إقصاء المتكلم ، وهمشه تماما لتولي اهتمامها في مقابل ذلك بالمعرفة اللسانية ، لأن ما يُهمها هو الحدث الكلامي المسموع والمنطوق وليس صاحب هذا الكلام من جهة . ولعل الذي دفع سوسير إلى القول بأن " اللسانيات هي دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها مع إقصاء قائلها كان تماشيا مع ما كان سائدا في القرن العشرين ، وهو محاولة الزيغ عن النص القرآني ."( ) وربما عن التراث اللغوي العربي بصفة عامة .ومن جهة أخرى فالطريقة التي يتعامل بها كل من المتكلم واللساني مع اللسان لا يمكن أن تكون متشابهة ، لأن المتكلم يتكلم بطريقة عفوية من دون أن يعير الاهتمام إلى مراحل الحدث الكلامي .أو إلى الكيفية التي بها يؤدى هذا الكلام. في حين أن اللساني يستخدم الكلام مع مراعاة مكوناته ومراقبة أصوله،ويعتمد في ذلك على التجربة ليذوق و يلامس واقعه اللساني ، والمراقبة بالنسبة للخبير اللساني هي الأداة التجريبية التي تتم بها عملية اختبار الحدث الكلامي من أجل بناء وتكوين المعرفة اللسانية . ( ) إن اعتماد المنهج التجريبي يقتضي الاتكاء على التجربة ، وتجنب الأفكار والفرضيات المعدة سابقا ، لأنها عبارة عن سديم وعماء ضبابي بعيدة كل البعد عن الواقع . وفي ذلك زيغ عن النحو التقليدي ، لأنه يشكل منظومة قواعدية معدة سلفا ، إنه بمثابة حدث سابق عن الحدث الكلامي هذه إذن قطيعة إبستيمولوجية مع النحو التقليدي من حيث المعرفة والمنهج . فإذا كانت مختلف العلوم التجريبية تعتمد التجربة فهذا لا يسعفنا في مجال اللسانيات لهذا تنوب عنها المراقبة في حقل الممارسة ، لأن التجربة اللسانية في واقع حدوثها تختلف عن باقي المواد الأخرى ، فتكرار التجربة في مختلف الحقول ( غير اللسانيات) يؤدي دائما إلى نفس النتائج دون أن يؤثر ذلك على تلك المادة أو على واقعها المعرفي. أما تكرار التجربة في الحقل اللغوي فسيؤثر بلا شك على المادة اللغوية وعلى واقعها المعرفي، مما يجعلها غير مطابقة لسابقتها بل قد تختلف عنها بصورة واضحة ، وحتى تكرار المراقبة اللسانية لأكثر من مرة يعد أمرا غير ميسور وغير متاح في كل الظروف، وهذا الإشكال حسب الأستاذ منذر عياشي " عقبة كانت اللسانيات التاريخية والقواعد المقارنة قد واجهتها أثناء مراقبتها للحدث اللساني في أزمنة تاريخية غابرة ، وبين لغات تاريخية قديمة ومختلفة، ولذا فقد جعلت الوثيقة ، خلاصا من المأزق ، تنوب عن المراقبة ، وتحل محلها ، تماما كما نابت المراقبة عن التجربة وحلت محلها "( ) ويتبع المنهج التجريبي في اللسانيات الخطوات المنهجية والعلمية الآتية : يسعى اللساني إلى جمع الوقائع اللغوية من وثائق وكلمات وعبارات، ثم يعمل على تصنيفها وتبويبها كي يضعها في المدونة ، والمدونة هي :" مفهوما مركزيا في كل بحث تجريبي. "( ) إن اللساني يعتمد على الاستقراء ؛ وهو الانطلاق من الخاص إلى العام ، أو من الجزء إلى الكل ، أو من المحسوس إلى المجرد ( ) من أجل وضع المدونات . وإشارة في نقطة أخيرة نلفت النظر إلى أن المنهج التجريبي في اللسانيات قد تم استخدامه من طرف اللسانيات البنيوية واللسانيات التاريخية ، وحتى لا يظن أنهما متشابهتان لاعتمادهما نفس المنهج ، لابد من توضيح الفرق بينهما ، ويتمثل في أن اللسانيات التاريخية والمقارنة كانتا تنظر في الوقائع اللغوية بوصفها مستقلة عن بعضها البعض ، وتنظر في تطورها عبر الزمن وهو ما جعلها تطورية تجريبية ؛ وكونها تطورية معناه أنها تتتبع الوقائع اللغوية سواء كانت ألفاظا أو أصواتا أو دلالات بطريقة تطورية؛ أي أنها تدرس تطورها عبر التاريخ ، وهذا ما دفع سوسير إلى أن يعتبرها دياكرونية تعاقبية فكان بذلك محور ظهورها وتصنيفها محورا استبداليا .أما اللسانيات البنيوية فتنظر إلى الوقائع اللغوية بوصفها مستقلة عن بعضها البعض ، ولا تدرسها في تطورها عبر التاريخ فكان بحثها يقتصر على البحث في العلاقات التي كانت تجع بين أجزاء اللغة مما جعلها سانكرونية تجريبية أي "آنية " فكان محور ظهورها تركيبيا . 2-2- الاتجاه العقلاني والمنهج العقلاني : العقلانية بوصفها منهجا لم تعرف ميلادها إلا بعد التجريبية، لكنها ومع ذك كانت معروفة منذ أزمنة ضاربة في القدم ، بدليل وجود عدة مصطلحية وإن كانت يسيرة تدل على طبيعة المعرفة العقلانية ، وعن أسبقيتها عن التجربة وذلك من قبيل " الفطرية " l'inneise مع ديكارت ، والأشكال المسبقة les formes a priori والصورية le transcendantalisme عند كانت. وهي تهتم بالمعارف السابقة عن التجربة كما تقوم بتحليل القوانين المتأصلة في العقل البشري . وقبل ذلك كله تحدت أفلاطون منذ العصر اليوناني عن التأبه "reminicsence والتذكر الغامض أو المبهم ؛ والتذكر من هذا المنظور هو عبارة عن " عودة بمناسبة رؤية الأشياء المحسوسة أو أنه تذكر الأفكار المشاهدة في العالم المدرك عقلا وليس حسا ، مع الوهم بأنها تأتينا من العالم المحسوس "( ) وقد كان مينو يقول : ليس التعلم شيئا آخرا سوى التذكر "( ) وفي هذه المصطلحات حسب فولكيه اعتراف بأن التجربة ضرورة لفهم هذا المعطى السابق عن التجربة ( ).وقد قدم مارابو marabout في قاموسه تعريفا للعقلانية ، وضح من خلاله معيارها ومسماها وأسسها ، فهي من حيث التعريف: كل أمر يدرك بطريقة مباشرة أو يستنتج استدلالا ( ). وأن معيارها يكمن في إمكانية تنفيذ مجموعة من العمليات على موضوع ما مع إمكانية أن تكون ذات ميل تعميمي .أما من حيث المسمى ، فهي تطلق على كل نظرية تجعل من العقل أساسا لكل معرفة ممكنة. ( ) وتعتبر في أساسها المعرفي شاملة لأي نظرية استطاعت أن تؤكد في نتائجها أن العقل ، باعتباره ملكة يحمل في ذاته رشيمات المعرفة السابقة عن التجربة. ( ) ويتمثل الاتجاه العقلاني في مجموعة من الأسماء البارزة ، لعل أبرزها :ديكارت ، وليبنز ، وميشيل بريل ، ويمثلها تشومسكي وكاتز وفودور والفاسي الفهري في المجال اللساني. يقول هذا الاتجاه بفطرية وقبلية (aprioriste) العقل البشري (la raison humane) أي أنه يمتلك أفكارا ومعارف سابقة عن الأحاسيس والتجربة . ويرى تشومسكي أن اللغة جزء لا يتجزِِِأ من المعرفة الفطرية في الحقل اللساني ، مما يتطلب الاهتمام بها أثناء الدراسة والتحليل اللغويين ، وهذا ما جعل اللسانيات التوليدية تحلل اللغة عن طريق صياغة الفرضيات التي تمكن من تفسير القضايا الممكن ملاحظتها مع دراسة العلاقات القائمة بينها معتمدا في ذلك على المنهج الاستنباطي. ( ) لأن اللغة فعل عقلاني ، تتجلى ملامحه في كون الإنسان يعبر عن الأشياء برموز لغوية ، إذ يرى الأشياء حينما يتحدث عنها كما أنه لا ينقلها إلى مرآة العين ، بل يعوض عنها برموز لغوية ، ومنه فهو يرى اللغة المعبر بها عن الأشياء والحاضرة في شكل رموز ، وكلمات وحركات ...إلخ. فالفعل الإنساني إذا فعل عقلاني بامتياز ، ولعل كون اللغة خاصية من خصائص الإنسان دون غيره من الحيوان ، -لارتباطها بالفطرة الإنسانية والتي جوهرها العقل- أكبر دليل على ذلك . كل هذه النقط السابقة الذكر تؤكد على أن المعرفة العقلانية سابقة في وجودها عن التجربة، وأن التجربة في هذا الصدد دليل على وجود معرفة قبلية ( هي المعرفة العقلية )، وهي حسب الأستاذ منذر عياشي ليست منتجا معرفيا ، وإنما هي دليل على وجود معارف قبلها . وأن إقرار هذا الأمر في العقلانية ، هو جسر واصل بينها وبين اللسانيات ( ) باعتبارها دراسة علمية للغة حسب سوسير وهو ما دفعنا إلى التساؤل عن العلاقة القائمة بين العقلانية كمنهج ، والظاهرة اللغوية ؟. 2-2-1- اللغة والمنهج العقلاني : بعد أن كانت اللسانيات مرتبطة في دراسة الظاهرة اللغوية بالمنهج التجريبي والوصفي إنتقلت إلى إطار مرجعي آخر صات في ظله متكئة على المنهج العقلاني في تحليل اللغة الإنسانية . واللسانيات المتوسلة بالمنهج العقلاني تقوم على ثلاث أسس هذا بيانها: وتقرر أن العقل هو المصدر الوحيد لإنتاج المعرفة عامة ، والمعرفة اللسانية بشكل خاص. وتقرر فيه أن اللغة تعد من منظور العقلانية تنظيما عقليا ، لأنه إذا كان الفكر اختيارا حرا للإنسان ، فإن اللغة تساهم في تكوينه وتجعله ممكن الوجود ، وتمنحه فرصة التعبير عن نفسه، وبها يكشف عن نفسه ويجليها بوصفه فكرا. وفيه تقرر أن اللغة ترتبط بالفعل الفيزيائي ولكنها تتجاوزه ، وما كانت بتك الصورة إلا لوجود سبب رئيسي وراء حصولها ، وهو العمل العقلي الذي يوجه هذا الفعل الفيزيائي ويعلو عليه . فالعقلانية تحاول التمييز بين ما هو عقلي وما هو فيزيائي ، وهذه هي نقطة الخلاف بين العقلانيين التوليديين والسلوكيين في البنيوية البلومفيلدية . ذلك لكون الإنسان عندهم لا يتعلم اللغة بالتدريب والتعود على سلوك معين كما يتعلم الحيوان ولا عن طريق الحافز أو المثير ، فاللغة تكتسب اكتسابا من غير أن يبذل الإنسان في اكتسابها أي جهد ، ودون أن يخضع في اكتسابها إلى أي منعكس شرطي. فهناك في العقل (...) رشيمات معرفية ، أو هناك عند الإنسان استعدادات فطرية لاكتساب اللغة وجدت مع وجوده مند الإنسانية الأولى . ومادام الإنسان يوجد في مجتمع ، فلا يستطيع فيه إلا أن يكون متكلما. أضف إلى ذلك أن العقلانيين ينظرون إلى الإنسان على أنه قادر على أن يواصل تعليمه للغة وحده، عكس الحيوان لأنه عاجز عن التفكير ، وهو ما وضحه الأستاذ منذر بقوله: " إن العقلانيين يرون أن الإنسان يستطيع أن يواصل تعليمه بمفرده (...) ولكن الحيوان في المقابل يظل عاجزا عن مثل هذا ، وغير قادر على أدائه أو الانتقال بنفسه إلى مثل هذا المستوى ، الذي يتطلب شيء غير الخبرة العملية ألا وهو التفكير فهو يخطو به من التجسيد إلى التجريد ، ومن آلية التكرار في تعود عادة ، إلى عقلنة العادة وإدخالها في المزاولة النظرية وممارسة الفرضيات ( ممايؤدي) إلى التعلم بجهد أقل. "( ) ولعل من أهم النتائج التي توصلت إليها العقلانية في الحقل اللساني هي أن صاغت "كليات لغوية تشترك فيها جميع اللغات على اختلافها من حثيث التركيب والصوت والدلالة ، لقد "كان من النتائج التي توصلت إليها اللسانيات باستخدام العقلانية منهجا .أن وقفت على ما أسمته " الكليات " أو عالمية السيمات اللغوية "( ) لقد اعتمدت العقلانية على صياغة الفرضيات بعدما جرت العادة على أن نطلق على كل أمر عقلاني لفظ التجريد أي أنه غير مجسد . إنه عملية انتقال من الشيء إلى متصوره . وكل أمر مجرد ممثل داخل العقل يبقى عبارة عن نظرية ، وهذا ما جعل النظرية تبقى مرتبطة دائما بالتمثلات العقلية ولعل هذا ما جعل فولكيه ينظر إلى النظرية بوصفا " تمثيل عقلاني ."( ) وكذلك " بناء عقلي يرتبط بواسطة عدد من القوانين التي يمكن أن تستنتج منه مباشرة "( ) وبناء عليه فالنظرية تبقى عبارة عن بناء عقلي يستند إلى قوانين مستمدة من داخل العقل نفسه . والنظرية عند فولكيه : " تقف وسطا بين الفرضية والنسق "( ) مما يجعلنا نستفسر عن المقصود بكل من الفرضية والنسق ؟، وما الذي حمل فولكيه على القول بذلك؟ الفرضية : هي تفسير ناتج عن تفكير مسبق يتم التحقق من صحته باختباره بالتجربة العلمية ، وآنذاك يتم التأكد من صحتها فتتخذ كقاعدة ومبدأ عام أو يتم تخطيئها وبالتالي رفضها . وإذا تم التأكد من صحة الفرضية مرارا وتكرارا بواسطة التجربة تصبح قانونا عاما مما يجعلها تدل على :" التصور الشخصي الذي يحمله الباحث عن الحل أو التفسير أو التعليل أو الصيرورة المتوقعة لمشكلة البحث وتحدد الفرضية المساحة البحثية ، التي سوف تنشط داخل حدودها عمليات التنقيب عن الشيء المطلوب العثور عليه . فهي من هذا المنور إحدى وسائل تجنب الهضر في الجهد والمال "( ) والفرضية هي المحدد للأدوات البحثية الملائمة للتنقيب في المساحة البحثية المختارة والباحثين البنيويين يرتبطون بالفرضية في صورتها الأولى " في العلوم في العلوم الطبيعية و/أو البحثية حيث كانت الفرضية تتنبأ بوجود علاقة ما بين متغيرين ، أحدهما مستقل والأخر تابع "( ) ذلك أن البحوث المتعلقة بالعلوم الإنسانية تختلف عن البحوث في العلوم الطبيعية اختلافا جوهريا خصوصا حينما يتعلق الأمر بطبيعة المادة المبحوثة . فالعلوم الطبيعية تتعامل مع مادة جامدة بيولوجية قابلة للضبط . فيما تتعامل العلوم الإنسانية والتربوية مع الشخصية البشرية المعقدة في أبعادها الجسدية والنفسية والعقلية ، مما يستلزم وجود وحضور مجموعة من الإشكالات لعل أهمها تساؤلنا عما هي شروط صياغة الفرضية ؟ وما هي الفائدة من الفرضية أصلا ؟ . إن أكبر فائدة يمكن استخلاصها من الفرضية بشكل عام هي محاولة اكتشاف الجديد ، ومخالفة المألوف . لكنه إذا كانت الفرضية كما رأينا عبارة عن افتراض مسبق عن الأشياء ، فما الفائدة من الكشف عن شيء أو أمر معروف مسبقا أو على الأقل متوقع أو يمكن استنتاجه ؟ . بكل منطقية فالفضل في ظهور العديد من العلوم التي ننعم بها اليوم راجع إلى ظهور مجموعة من الفرضيات ، نذكر منها نظرية كوبرنيك copernic الذي توصل من خلالها إلى إثبات دوران الأرض حول الشمس وليس العكس ، وقد خالف في رأيه هذا جميع العلماء قبله. ولولا شجاعة بلانك blank الذي تجاهل قوانين الميكانيك التقليدية وصاغ فرضيته الشهيرة القائلة بأن تبادل الطاقة يتم بشكل أمكن الوصول إلى نظرية الغوانتيم qiantum والتي غيرت وجه الفزياء العصرية ، ولولا جرأة إنشطاين enstein لتبنيه لفرضية التشكيك في صحة المفاهيم الفيزيائية السائدة ، المتعلقة بالزمن والمكان ، لما أمكن الوصول إلى نظرية النسبية التي طبعت العلوم الحديثة بطابعها ( ) والأمر لا يتعلق بالمجال العلمي فحسب بل بكل المجالات ،. فهذا بلوم BLOM في المجال التربوي يتحدي المعرفة السائدة في مجال التعلم ، والمتعلقة بمعطيات غوس GOS واتبع فرضية قابلية التعلم عند جميع الأطفال ، وأجرى البحوث حولها ( ) ويواكب تحقيق الفرضية مجموعة من الصعوبات. وهي راجعة في معظمها إلى الفكرة الخاطئة التي يحملها الكثير من الباحثين حول قيمة نتائج البحث وارتباطها بالفرضية المعتمدة فيه . ويمكن توضيح هذا الأمر في نقطتين : إن مفهوم التحقق ليس عنصرا ملازما لاستخدام الفرضية، وليس احد مستلزمات وظيفتها كمحرك أساسي للبحث . ولا يلتصق ذلك بالفرضية غلا عندما تكون من الصنف المخصص للمعالجة الإحصائية . أما إدا كانت المعالجة من الصنف الذي هو للإجراءات النوعية ن فهي أصلا ذات طبيعة منفلتة من حدية التحقق أو عدمه ( ) أنه غالبا ما يخلط الباحثون بين الإعلام والعلم ؛ أي أن هدفهم ليس هو الاقتراب من حقيقة الأمور ، وإنما الإعلان عن نتائج بحوثهم عبر وسائل الإعلام لعلهم يحققون من وراء ذلك شهرة كبيرة . فالعلم الحقيقي يضع عدم تحقق الفرضية على قدم المساواة مع تحققها ، لأن العلم الذي لم تتحقق فرضيته قد أتى هو أيضا من وجهة نظر العلم ، وهذا يعد نتيجة إيجابية، كونه تقدم بالعلم خطوة إلى الأمام حينما أعلن أنه من غير المفيد الرهان على المنطق الذي اتبعته الفرضية غير المحققة ، أضف إلى ذلك أن غايته في البداية كانت هي التوصل إلى نتائج في صالح البشرية . وعموما فالفرضية هي تفسير معقول ناتج عن عقل وتفكير ولا يتم اتخاذه كأمر حقيقي حتى يختبر بالتجربة والملاحظة على أرض الواقع .واختبار ما ينتج عنه مرارا وتكرارا ، وإذا تم ذلك ولم يثبت شيء يتعارض معها تتخذ كمبدأ وقانون يتبع حتى تفندها فرضية أخرى، إذا وجدت في زمن من الأزمنة اللاحقة كدوران الشمس حول الأرض ونظرية الاحتراق وغيرها . النسق : إذا كان المنهج هو نسق من القواعد والضوابط التي تركب البحث العلمي وتنظمه بهدف حل مشكلة معرفية باستقراء جميع مكوناتها التي يظن أنها أساس الإشكال .فإن النسق من هذا المنظور فيه إشارة إلى المضمون الفلسفي الساكن في كلمة منهج يعني أنه منظومة معرفية ، أو رؤية فلسفي صدرت عن تصور مذهبي ما ( ) والنسق يتألف من نظريات فلسفية متعددة تحتوي كل واحدة منها على موقف معين لمشكلة معينة ، فتكون بذلك كل النظريات مبنية بناء نسقيا ، وتكون مترابطة ومتناسقة ومتماسكة ( ). وقد زادت حاجتنا إلى النسق والمقاربة النسقية بشكل عام بسبب ما يحيط بنا من ظواهر ذات طابع معقد ، والإشكال المطروح هو غلبة النزعة الاختزالية في دراسة الظواهر ، في حين أن الدراسة النسقية تدعو إلى عكس هذه النظرة الكلية المختزلة وقد اعتبر ديمينغ النسق عبارة عن شبكة من المكونات المتبادلة التأثير والتأثر، والتي تشتغل مجتمعة من أجل الوصول إلى هدف ( ) ويترتب عن الترابط القائم بين مكونات النسق أن أي تغيير يلحق مكونا من مكوناته يلحق بالضرورة باقي المكونات الأخرى أو على الأقل مجموعة مهمة منها . ويؤكد دومينغ كما هو واضح في تعريفه للنسق على ضرورة وجود هدف واضح لكل مكون من مكونات النسق ، وكل جزء من أجزائه لأنه بدون هدف لا يوجد نسق ، ويؤكد أيضا على أنه كلما كان الارتباط المتبادل كبير بين تلك المكونات ، تزداد أهمية التواصل والتكامل بينها ( ) ويتميز النسق بمجموعة من الخصائص منها : أن له حدود وهي الخط الفاصل بين ما هو ضمن النسق وما هو خارجه ، وهذا الأخير هو الذي يشكل محيطا للنسق أنه منفتح على محيطه . ينظر إليه بوصفه نموذجا لتحويل مدخلات input إلى مخرجات output ، ولضمان تحويل المدخلات إلى مخرجات بشكل جيد يجب أن يتوفر النسق على تغذية راجعة feedbact تضمن نقل المعلومات التي هي عبارة نتائج تحويل عينة واستخدامها كمدخلات جديدة لتحويل جديد ( ). أن كل مكون من مكونات النسق يمكن تقسيمه إلى أنساق فرعية لها هي الأخرى نفس خصائص النسق الكلي . أما بالنسبة للذي حمل فولكيه على القول بكون النظرية تقف وسطا بين الفرضية و النسق ؛فيرجع إلى سببين : أولهما راجع إلك كون الفرضية عبارة عن : " اقتراح ومعطى أولي مقبول مؤقتا لكي يستخدم قاعدة للاستدلال والبرهنة ، والتفسير وتبرر هذا الاقتراح أو هذا المعطى باستخلاص النتائج بالتجربة. "( ) أما السبب الثاني فيرجع إلى كون النسق يمثل : " مجموعة من الأفكار والمبادئ المترابطة على نحو تشكل فيه كلا علميا أو نظريا".( ) ولأنه يعد أيضا " توليفة من عناصر تنتمي إلى النوع نفسه، وأنها لتجتمع كي تشكل جمعا حول مركز"( ) وهكذا نكتشف أنه بإمكاننا النظر إلى النظرية من ناحيتين : من ناحية أنها عبارة عن مقترح أو معطى أولي يستخدم لأجل التفسير والبرهنة والاستدلال ، وتبقي النتائج المحصل عليها ذات الأحقية في إثباتها أو نفيها. ومن الناحية الثانية أنها عبارة عن نسق لأنها تجمع وتولف بين مجموعة مبادئ وعناصر لتقدمها ككل متناسقا ومتماسكا يدور حول بؤرة أو مركز واحد يضمه إليه. وتبقى اللسانيات عقلانية المنهج كلما انطلقت من الوقائع والمعطيات اللغوية ، فعملت على وصفها وصاغت بعد ذلك الفرضيات، مما يمكننا من استنباط النظام أو النسق الذي يجمع بين تلك العينات اللغوية . ولم تسمى العقلانية عقلانية إلا حينما بدأت تنتقل من الوقائع اللغوية إلى القوانين المنتجة لهذه الوقائع (وهي قوانين عقلية طبعا )، مشكلة بذلك بناء عقلاني يدعى ب" النظرية اللسانية " وهو الهدف الرئيسي لكل تنظير عقلاي ، فكانت اللسانيات من هذه الزاوية تسعى جاهدة إلى تجاوز ما هو مادي عيني، وتمثله في تصورات داخل العقل منتقلة من الكلام كبناء ونسق ذهني . 3- علامات فارقة بين التجريبية والعقلانية في الحقل اللساني : لا ننكر أن كل من المنهج التجريبي والعقلاني يهدفان معا إلى إثبات نتائج معينة ، وربما كان هدفهما واحد ، إلا أن الطرق التي يسلكها كل واحد منهما تختلف عن الأخرى، وهو ما سنبينه على هذا الشكل : التجريبية: تنبني المعرفة اللسانية في المنهج التجريبي أساسا على التجربة أي ؛ على واقع لغوي ملموس كالوثائق والألفاظ والكلمات ، كما أنها تعتمد الاستقراء وتستثمر نتائج التجربة ، وتحاول تكوين مدونة لغوية وتعمل على تبويبها وتصنيفها بألفاظها وعباراتها وجملها، لتكون نموذجا تمثيليا للغة وتفسيريا لها، وكذلك وثيقة دالة على أداء المتكلم ، وتهتم باللغة مع إقصاء قائلها (المتكلم )، وتقصي الجانب الدلالي لصالح ميكانيزمات شكلانية تظهر في الأشكال المختلفة لأداء اللغة تركيبا وصرفا . العقلانية : تعتمد على العقل في إنتاج المعرفة اللسانية، وكذا على الكفاءة اللغوية للمتكلم وحدسه، وتعتمد كذلك على الاستنباط كإجراء للكشف عن جملة القوانين التي تنتج الوقائع اللغوية. وتنهل من النماذج المجردة كأساس يستند إليه الأداء الكلامي بدلا من المدونة التي تعتمدها التجريبية . وتولي الأهمية للمتكلم، وأعادت الاعتبار للدلالة بعد أن همشتها في مرحلتها الأولى . والعقلانية لها صلة بحقول معرفية أخرى غير اللسانيات ، كعلم النفس وعلم الاجتماع . وزبدة الكلام إذا كانت التجريبية منهجا له أثر بالغ في بزوغ فجر اللسانيات التاريخية ( التطورية والتعاقبية ) وكذلك فجر اللسانيات البنيوية (التركيبية والآنية ) . فقد كان للعقلانية أيضا بالغ الأثر ى في ظهور الثورة اللسانية العقلانية الأخيرة، والمتمثلة في مجموعة النظريات التي أنتجها اللساني الأمريكي نعوم تشومسكي وتلاميذه مع نهاية الخمسينات من القرن الماضي . 4- الاتجاه التوفيقي والمنهج التوفيقي : جاءت تسمية هذا المنهج والاتجاه من كونه حاول هدم الفروق بين التجريبية والعقلانية وذلك في محاولة المزج بينهما من دون تهميش إحداهما ، متخذا في ذلك موقفا وسطا . وقد كان من أقطابه أوغوست كانط (1727-1801)، وهو أحد فلاسفة عصر الأنوار العقلانيين وهو ممن خالفوا التوجه الديكارتي في ثنائيته . وعمل على تأسيس المعرفة الإنسانية على عنصرين أساسيين ومتكاملين، هما: الحساسية la sonsibilite وهي المرتبطة بالأحاسيس وفي ذلك إشارة إلى التجريبية . والفهم l'entenlement وفي ذلك تلميح للعقلانية لأن الفهم خاصية من خصائص العقل، فكان بذلك قد أقام مزاوجة بين التجربة والعقل وبين أن " العلوم الاجتماعية التي تعد واحدة منها لا تصل إلى معرفة الأشياء والمواضيع التي تبغي دراستها وإنما تصل فقط إلى تمثلات حول هذه الأشياء ."( )