إن العلم هو معرفة حقيقة واقعية معينة،ولاشك أن السعي لهذه الحقيقة ينبغي أن يكون وفق خطوات وإدراكات صادقة وهو مايسمى بالمنهج العلمي – وليس كل مايطلق عليه منهج علمي هو منهج علمي- وهو علم أيضا يتولد عنه علم آخر،أما الظن فلايصلح سبيلا إلى الحقائق العلمية الواقعية وإلا لأمكن لمقدمة ظنية أن تأتي بنتيجة يقينية وهو أمر مستحيل.ومتى شاب منهجا ما وهم أو حدس فلايعقل أن يطلق عليه منهج علمي ولا منهج موضوعي.. "" شتان بين المنهج العلمي والمنهج الغوغائي الذي يتبعه كثيرون،فالموضوعية مثلا وهي قيمة "عقلانية " - حسب المفهوم الغربي للعقلانية- اشتهر لدى هؤلاء أنها تختص ببحوث الغربيين دون غيرها ! بيد أن الشهرة أو الإشتهار لم تكن أبدا من آليات المنهج العلمي الذي يروم الحقيقة ! هذا الإنخداع ب"موضوعية" المناهج الغربية قاد هؤلاء المقلدة إلى استيراد تلك المناهج والعمل بها في مجال تداولي مختلف ! واستوردت معها الحلول ! واستنبات حلول في بيئة مغايرة ستكون عواقبه كارثية ووخيمة، فما يصلح في بلد بالتأكيد لن يصلح في أخرى كما قال (فرانسيس فوكوياما)! والمناهج حسب (دلبوس) مترتبطة بنظرياتها،و المعنى أن المنهج هو وليد المذهب الذي أفرزه وهو لذلك حامل لخصائصه،مايعني أن القول باستقلال المنهج استقلالا تاما هو محض افتراء ! وأقول أن المعنى المتوهم ل"الموضوعية" عند الباحثين الغربيين لا وجود له على الحقيقة أو لنقل إن تحصيل ذلك المعنى مستحيل! لأن الممارسة العقلانية الغربية التي أوهمتنا به لم تقم سوى باستبدال قيم أخلاقية – بدعوى الموضوعية- بأخرى غير أخلاقية بما فيها الموضوعية نفسها! صحيح أن الغرب تقدم في مجال المنهجيات أو المناهج ( méthodologies) ونحن حيالها بين أمرين : الإعراض الكلي عنها ، والأخذ بها دون تمحيص أو نقد وإنما باستسلام ناتج عن الإستلاب والإنبهار الحضاريين بالغرب ! هذا كله قاد إلى أن يصطبغ المقلد بنفسية الغربي الذي أنتج تلك المناهج من مرجعية الصراع بين العلم والكنيسة-وأقول الكنيسة وليس الدين - تلك المناهج التي لاتخلوا من عقد نفسية بسبب الظروف التاريخية التي يجليها هذا الصراع ! فقيل "إن العالم ملحد بصورة منهجية" (فلاديمير كرغانوف) و(جرمان) قال :"إن الميتفافيزيقا لايمكن أن تتدخل في مناهج البحث دون أن تفسدها" !! هي مقولات فرضتها ضرورة المواجهة لرجال الكنيسة الذين يحتكرون الفهم للدين ويتواضعون على ماليس من الدين ويوظفونه لحساباتهم الشخصية ضد العلم والعلماء الذين كان منهم متدينون! هذه روح علمانية سرت إلى المقلدين فأرادوا توظيفها تجاه الإسلام ! ولايخفى ما في ذلك من تعميم غير منهجي وغير علمي ! فلا يخفى على أحد مدى سخف أن نقرأ الذات من منظور الآخر ! أن ندرس التراث والتاريخ والإسلام والأنماط المجتمعية الإسلامية ومختلف ظواهرها من خلال "المنهج العلمي" القائم على الموضوعات والمواضعات والنماذج المستمدة من النمط الحضاري الأوربي! فلا يعقل أن نقرأ أنماطنا المجتمعية من خلال نظرة الغرب لنفسه وللعالم ! لابد من تعديل المعايير الدخيلة إلى معاير ذاتية. إن المناهج العلمية في الغرب تبلورت ابتداء في إطار العلوم الطبيعية التي تقوم على المنهج التجريبي في البحث وحققت نتائج مبهرة ما جعل علماء الإنسان يطمعون في نقل هذه المنهجية إلى العلوم الإنسانية وإخضاع الظاهرة الإنسانية إلى التجربة والمختبر! وقد كانت المدرسة السلوكية في علم النفس والمدرسة الوضعية في علم الإجتماع والمدرسة التوثيقية في علم التاريخ أبرز تجليات هذا الإتجاه. لكن بعض العلماء عارضوا ذلك مبينين استحالة تطبيق المنهج العلمي في العلوم الإنسانية،واستحالة الوصول إلى نتائج موضوعية ! فالمفاهيم والمصطلحات في العلوم الإجتماعية فضفاضة ومطاطة، والحقائق الإجتماعية تخضع لتفسيرات ذاتية ولتدخل الهوى الشخصي والسياسي..وصعوبة التحكم في المواقف الإجتماعية والسلوكية..وعلوم الإنسان تهتم بالجانب الذاتي من الحياة فلا موضوعية إذن ! والظواهر الطبيعية يخضع كيفها لمقاييس كمية أي يعبر عنها بلغة الأرقام كالحرارة والبرودة والثقل والخفة وغير ذلك،أما الكيف في الظواهر الإنسانية فلا يخضع لمقاييس كمية كالتقلبات الإجتماعية والنفسية. يقول عالمان أمريكيان : (جورج ن ستانسيو وروبيرن م أغروس):"وأحرز القرن العشرون بالفعل فتوحات باهرة ولكنها لم تكن بأي حال من النوع المتوقع،فالإكتشافات الجديدة لم تكمل فيزياء نيوتن بل أطاحت بها". مما شكل ضربة لما أسمياه "المادية المنهجية" (كتابهما:العلم في منظره الجديد:21).ويقولان" ذلك أن النظرة القديمة لاتتضمن إلا المادة،والقوانين الطبيعية،أما النظرة العلمية الجديدة فمن الحتم عليها أن تضمن المادة والقوانين الطبيعية والعقل" لأن الثورة العلمية التي حدثت في فيزياء الجسيمات قدمت من المادة العلمية،مالا يمكن إخضاعه للتجربة فبعدما أثبت (إرنست رذرفورد) عام 1911 أن الذرة تكون من مواد متناهية الصغر يحيط بها حشد من الإلكترونات " بدأت الصعوبة في تفسير تركيب الذرة ،استنادا إلى فيزياء نيوتن،تتجلى بشكل جدي خاصة وأن الإلكترون تصعب ملاحظته حتى بالمجهر الذري! فكيف إذن يتم إخضاع مثل هذا الموضوع للتجربة ؟ وعليه،فقد أعلن العالم الفيزيائي إينشتاين أحد رواد (النظرة العلمية الجديدة) :"أنه لاسبيل للوصول من التجربة إلى نظرية" !!! وهكذا بدأت العلوم الطبيعية تستلهم المنهج الرياضي القائم على الإستدلال العقلي،وهو مايفتح الباب أمام تدخل الذات في الموضوع. إن موضوع المنهج العلمي لايعدو إما أن يكون خبرا أو دعوى. فأما الخبر فيتعلق بالرواية والنقل وواقع منهج البحث عند الغربيين خال من أي ميزان موضوعي لتحقيق الخبر.هناك مايسمونه بالمنهج الإستردادي أو منهج التوسم عمدته الملاحظة والوجدان والخيال ! وكل ما يقع بين يديه من آثار ووثائق وأحداث والتي يقدح فيها بالملاحظة والوجدان والخيال ليستنتج من وراء ذلك ماقد يطمئن إليه من مبادئ وأحكام ووقائع ( أنظر في هذا الصدد:مناهج البحث العلمي/عبد الرحمان بدوي).كيف يمكن تحقيق خبر تاريخي بمحض الإستنتاج والخيال؟! اللهم إذا اسنثنينا الوثائق التاريخية التي تحمل في طياتها دلائل اليقين نظرا للعلاقة بينها وبين مصدرها.لم يكن ثمة دافع للغربيين من أجل إيجاد منهج لتحقيق الروايات والأخبار..أما المسلمون فقد قادهم إيمانهم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى إيجاد منهج دقيق لتمحيص الروايات..فقد يسهل على المرء اليوم أن يقرأ إسناد حديث في البخاري مثلا لكن المهم هو أن نقف عند ذلك الجهد العجيب الذي بذل في سبيل سطر الإسناد ذاك ! وحتى نفهم الفرق بين منهج المسلمين في تحقيق الخبر التاريخي وتمحيصه وبين الغربيين نأخذ مثال "ظاهرة الوحي " في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونلاحظ أن الغربيين اتفقوا مع المسلمين في وقوع هذه الظاهرة فلا إنكار منهم لكن اختلفوا معهم في تفسيرها بمحض الإستنتاج لاغير كما سيتضح.. يتلخص منهج المسلمين حيال ظاهرة الوحي في :أولا: تحقيق الرواية وضبط اللفظ والسند،وانتهوا إلى أن حديث الوحي صحيح ورد بطرق مختلفة تجاوزت حد التواتر المعنوي..ثانيا: الإستقراء التام الذي وضعهم أمام كل من دليلي الإلتزام وقياس الأولى وكانت النتيجة أن الوحي هو استقبال النبي صلى الله عليه وسلم لحقيقة ذاتية مستقلة خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العلمي.أما منهج الغربيين فيتلخص في أخذهم كلمة وحي على اعتبارها حادثة واقعة مبهمة خلفها التاريخ،ثم إعمال الحدس والتخمين في استنتاج ماقد يدركه التوسم والوجدان والخيال من هذه الكلمة. ولم تكن نتيجتهم واحدة ! بل تفرقوا مذاهب مختلفة.فمن رأى أن الوحي إلهام نفسي ومن زعم أنه إشراق روحي ومن قرر دون غضاضة أنه نوبات صرع تنتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بين الحين والآخر . وهؤلاء سقطوا في تناقض واضح وهو أنهم حين أسقطوا الرواية والخبر وقيمتهما العلمية اخترعوا تفسيرا لايدعمه أي خبر أو رواية صحيحة ولايدعمه عقل سليم صريح ! إضافة أنهم لم يلتزموا منهج الإستقراء ومايثبته قانون الإلتزام وقياس الأولى. ولذلك جاز لهم أن يصوروا محمدا عليه الصلاة والسلام منذ أن أوحي إليه شخصية متناقضة مع شخصيته السابقة ومع وقائع حياته المستمرة،وجعلوا منه أعظم كذاب بعد أن كان أعظم أمين وصادق حتى عرف بالصادق الأمين !وجعلوا منه ممثلا عبقريا ومخاتلا يصطنع الخوف وصفرة الوجه أمام خديجة مع أنه لم يكن يمارس سوى إلهاما داخليا كما قالوا وصاحب الإلهام الداخلي لا تنتابه هذه الأعراض! أما فيما يخص منهج تمحيص الدعاوى العلمية فقد أشرت إلى أن أوربا أبدعت المنهج التجريبي الذي يصلح في العلوم الطبيعية أي الدعاوى المحسوسة-وإن كان المسلمون هم السباقون لهذا المنهج في فترة إشعاعهم العلمي غير أنه نسلم مجازا أن أوربا أبدعته لأن التاريخ لايورث إلا الإعتبار-على أنه لا يصلح في العلوم الإنسانية كما رأينا ثمة فرق بين طبائع العلوم..والملحدون إنما أنكروا وجود الله لأن وجوده لم يثبت بالمنهج التجريبي ! فإذن كل حقائق الوجود و الكون والتاريخ ينبغي أن تنقلب علوما طبيعية لنؤمن بها !! ودعوى وجود الله مثلا دعوى غير محسوسة بل دعوى تجرديدية غيبية فتعين إلتماس منهج آخر غير المنهج التجريبي.. لقد قرر علماء المسلمين قاعدة تلخص المنهج العلمي للبحث عندهم وهي : "إذا كنت مدعيا فالدليل وإذا كنت ناقلا فالصحة". إن موضوع البحث العلمي كما سلف ، خبر منقول أو دعوى مزعومة.فأما الخبر فإن البحث يكون فيه محصورا بين تحقيق النسبة بينه وبين مصدره،إذ هي التي تكون مثارا للإحتمال والدخيلة والريب،فإن زال ذلك صار الخبر حقيقة علمية بشرط أن تكون دلالته قطعية . أما ما يكون ادعاء فالبحث فيه يكون بالأدلة المنسجمة معه والتي من شأنها أن تكشف عن مدى صدق هذا الإدعاء. فالدعاوى المادية أدلة البحث في صدقها هي البراهين العلمية والتجريبية المحسوسة، والدعاوى المتعلقة بالمجردات تبحث بمسلماتها كالأرقام والمنطق. والدعاوى الحقوقية والمدنية تبحث بالبينات والحجاج.. بالنسبة لمنهج تحقيق نسبة الخبر إلى مصدره عند علماء المسلمين تنهض به فنون لاتوجد عند غيرهم وهي : علم مصطلح الحديث وما ينضوي تحته من فنون، وعلم الجرح والتعديل وعلم الرجال،هذه العلوم تعتبر ميزانا دقيقا مبدعا ومنهجا نقديا صارما فريدا -باعتراف بعض الغربيين أنفسهم حتى قال أحدهم لو طبقناه على تاريخ العالم لكن جله مشكوكا في صحته – يميز به الخبر الصحيح من غيره والفرق بين الخبر الصحيح الذي يورث الظن والخبر الصحيح الذي يورث اليقين. وتفصيل ذلك في كتب مصطلح الحديث. أما عن السبيل المتخذة لتحقيق الإدعاء فيختلف حسب نوع الإدعاء كما أشرت،فما يتعلق بالعلوم الطبيعية فمنهج التحقيق فيها هو التجربة والمشاهدة، وترك للعقل البشري المجال لبحث البراهين المنسجمة معها،ولذلك فالقرآن لم يفصل في القوانين العلمية المتعلقة بالمشاهدات وإنما دعا البشر للتأمل والتفكر،لكنه في المقابل فصل في الحقائق والإخبارات الغيبية لأنه لامطمع في تحقيقها بالتجربة والمشاهدة ! بل السبيل إلى اليقين بها هو خبر الله تعالى أو خبرالسنة المتواترة.وفي هذه المسألة تفصيلات يرجى العودة إليها في كتب مصطلح الحديث.. [email protected] تنبيه هام من الناشر : -لأسباب تقنية سيتمرفض جميع التعليقات المطولة دون إخبار أصحابها. -يرجى تحرير ردود مختصرة وأصلية دون وضع روابط لمواقع أخرى. - يرجى إرسال التعليق مرة واحدة ، فإرسالكم نفس التعليق أكثر من مرة لن يجبرنا على نشره .