كلامنا لفظ مفيد كاستقم اسم وفعل وحرف الكلم كتب المكتوب على الكاتبين والمبدعين فن الكتابة والإبداع، فكانوا هم الكتاب والمكتوبون. في البدء كانت الكلمة يقول الإنجيل ... كن كلمة الخلق، ومع الإنسان بدأ الكلام وقد خلق الله آدم وعلمه الأسماء كلها ... وما المسيح عيسى إلا كلمة الله ألقاها إلى مريم فكان بشرا سويا. كما كلم الله من قبل موسى تكليما – فهل تكون النهاية كلمة أم نفخة؟ ومن الكلام انبثق الشعر فهو ابن القدامة وخطابها، ولما هيمن الشعر على الحياة كان لسان العرب وترجمانها. ومن هنا سمى الأسلاف الشعر ديوان العرب ... ومن الشعر انبثق النثر فهو ابن الحداثة وخطابها ... ولما صار الواقع نثريا نشأ السرد فكانت الرواية والمقالة وعصيدة النثر -العين- فسمى الزمن زمن الرواية، لكونها سردا بل شعرا منتورا، غير مقفى وليس موزونا. فإذا كان الشعر في المتعارف لغة الوجدان فإن النثر لغة العقل. وإذا كانت الرواية بنت المدينة بزعمهم فإن أغلب الشعراء والمبدعين ريفيون بطبعهم وطباعهم، لأنهم منحدرون من مساقط الماء ومنابع النور، وقد تسربلوا بموسيقى الكون، ليحلقوا مع الغمام والحمام، ويهيموا في البراري والنهايات البعيدة ... فيستحضروا الأرواح والأشباح والحكايات. فلما هبطوا إلى المدينة تمدنوا ثم استباحوا المدينة على موائد النصوص وشهواتها نظما وشعرا، لونا ولحنا ... تدخل الكلمة في الوعي لتخرج منه نارا ونورا، فعلا وانفعالا، وعدا ووعيدا، رأس مالا وسيفا بتارا، قال المتنبي: "أنا الغني وأموالي المواعيد..." يخوض الخائضون في دنيا الكلام خوضا، فيلغون لغوا فنيا، جميلا أو قبيحا، مباحا أو غير مباح. فالمرأة في السائد محدثة بارعة كولادة ومي ... وفي الأسطورة ثرثارة مهذار ثرثرة تحت النيل أو فوقه، أو تحت سد الليل، عابرون وعابرات في كلام عابر ... احك يا شهرزاد احك لشهريار ألف ليلة وليلة، حتى أنسته ذكرها، وألهته عن غيه، فانضوى وانطوى تحتها، تاه وساح وراح في العمر السريع الرَّواح ... يحكي لها ... فتحكي له أشياء تدوخها تنسيها المرقص والخطوات، كلمات تقلب تاريخها، تجعلها امرأة في لحظات. فلما أعياها وأعيته قال لها شاعرها، عابدها، ومعبودها. كفى عن الكلام يا ثرثارة/ كفي عن المشي على أعصابي المنهارة ... أحرقت روما كلها لتشعل سيجارة/. ولما تتعطل لغة الكلام تفيض لغة العيون، وما بين لغة الصمت ولغة الكلام أبحر وجبال، لغة لخصت تاريخ العشاق والمحبوبين، لغة جمعت ليلى العامرية بقيس بن الملوح. أنفقا الساعات في الشاطئ تشكو وهو يشرح/ كلما حدّث أصغت وإذا قالت ترنح أحفيف الموج سر ضيعاه؟ يوصف عرب الزمان بأنهم -ظاهرة كلامية- انفعالية لا فعلية. لأن الفكر الإغريقي عقلاني، والفكر الإفريقي انفعالي -سنغور- فعندما كان الحلفاء يقصفون العراق بلا هوادة برا وبحرا وجوا، كان القائد يخطب ويخطب ويخطب: يا أبطالنا النشامى ... وإن العراق سينتصر، سينتصر... أراد أن يحرر القدس، فذهب إلى الكويت؟! لماذا؟ ليكوِّتَ نفسه تشديد الواو، وذهب آخرون إلى السعودية ليسعدوا أنفسهم، وآخر ذهب إلى ليبيا ليلبي طلبات زوجته ... وهكذا، ساد الصمت والكدر، الهرج والمرج، في بلاد تخزِّن النفط في الخصيتين وربك الوهّاب... ولما قال القومجيون العرب سنرمي إسرائيل في البحر ... ! ضربهم موشي ديان -بعين واحدة-، ضربة رجل واحد فتفككت أوصالهم، وتفرقت دماؤهم بين القبائل... دك عروشهم في ست أيام خاطفة أو ساعات من نهار ... ثم استوى على أراضيهم 40 ألف كيلومتر مربع – الجولان، أرض سيناء، غزة، الضفة ... حتى هربت القيادة القطرية والحكومة السورية من دمشق العاصمة إلى اللاذقية ... !! ثم دخل ديان القدس عازفا بمزمار دواود فاتحا يغني –محمد مات، خلف بنات-. وفي الوقت ذاته -كان المذيع المصري المرموق أحمد سعيد- ظاهرة صوتية، تلعلع عبر إذاعة صوت القاهرة ... "يا أيها السادة والسيدات وجيوشنا على مشارف تل أبيب... ومدافعنا تتحدى القدر...! فترتج الأرض تحت أقدام اليهود... ! ولكن تبين بعد ذلك أنها كانت فقط قنابل ورقية، وانتصارات على أمواج الأثير، ثير ثير ثير ... فماذا فعل أصحاب العيون الزرقاء والسوداء ؟ -أبو العيون الوقاح- يا مول الشاش يا حناني؟ حمدوا الله لأن أنظمتهم القومجية التقدمية لم تسقط؟؟ حضارات تفعل وأخرى تقول، حضارات تنمو لتحيا، وأخرى تحيا لتموت... هزيمة سموها نكسة، نكسة حزيران، يأتي ويذهب ودار لقمان على حالها. ففي زمن الصمت العربي الرسمي، كان من يتكلم يلجم بميسم، لا يفتح الفم إلا عند طبيب الأسنان. فلما جاء زمن الكلام المباح كان من لا يتكلم يلقم بحجر. حتى حدّث أبو الوزير عن شيخ العافية محمد ولد خونا، عن الجنرال، عن القبطان، عن السرحان عن الزهلول عن السلاطين عن إخوان الشياطين قال: من أحدث في مجلسنا هذا أو تحدث وجب عليه الغسل، ومن قال للمتكلمين اسكتوا فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له –يقول المفسرون- لقد اخترع الناس قديما الجدل البيزنطي وخاضوا في أسبقية من خلق من؟ البيضة أم الدجاجة؟ كما اخترع القوم الآخرون علما سموه علم الكلام، وخاضوا فيه خوضا ولا يزالون مختلفين حتى داهمهم الخطر ... ولأمر ما ألف الإمام الغزالي أوابن تيمية لا أذكر كتابه إلجام العوام عن علم الكلام.هذا يشحذ لسانه وذاك يشحذ سيفه. فيا قوم: يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم وتأخر عن كل ما يقضي أن تتقدموا ودعوا التفهم جانبا فالخير أن لا تفهموا ناموا ولا تستيقظوا فما فاز إلا النُُوَّم وهنا أدرك شهريار الصباح فأحجم عن الكلام المباح.