*** حدد الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011 تصورا مستقيما لدولة مغربية جديدة ذات هوية ديموقراطية غير مشوبة بأي التباس أو سوء فهم، و إن كنا نؤكد على أن قراءة هذا الخطاب ينبغي أن تتخطى كلماته و مصطلحاته و إشاراته إلى ما هو أبعد من ذلك، أي إلى الاجتهاد في استنباط كل المفاهيم الأخرى و الاقتراحات التي من شأنها أن تعزز من التوجه نحو الخيار الديموقراطي كما يفهمه الديموقراطيون و يعملون من أجل تكريسه، باعتبار أن الخطاب قد سلط أضواء كاشفة على أهم المداخل التي يمكن ولوجها من أجل الانتقال إلى مرحلة تنوير مغربية أساسها الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية. قد لا يختلف معنا أحد – و لو كان من أشد الناس تشاؤما أو عدمية – أن خطاب أول أمس حسم الجدل بين الثابت و المتحول في مسألة عقيدة المطالبة و الاحتجاج و التظاهر، و تجاوز " عقدة " إقرار الهوية المؤسساتية للدولة المغربية بالتأكيد على وجود نية عازمة على إنهاء المطالبة بضرورة الإصلاح و التغيير، بالدعوة إلى فتح نقاش عمومي حول ما ينبغي تغييره و تأسيسه من مفاهيم و آليات و طرق تفكير و سلوكيات و معادلات للإعلان عن دولة الحق و القانون. إن التنصيص على انتخاب المجالس الجهوية بالاقتراع العام المباشر و على التدبير الديموقراطي لشؤونها، و تخويل رؤساء هذه المجالس سلطة تنفيذ " مقرراتها " بدل العمال و الولاة، يشكل ثورة في مفهوم السلطة، و نقلة جيوسياسية تمنح لآليات تدبير الشأن العام المغربي حركية منتجة، و تبعده بالتالي عن أي مغالطة سكونية لا تطرح أسئلة جوهرية تتعلق بالاقتصاد و الاجتماع و اللغة و الثقافة.. كما أن هذا التنصيص يحمل في بعده السوسيو تاريخي تصديا للعلاقة الدرامية الملتبسة بين عدد من الفاعلين الحقيقيين و الوهميين في صناعة القرار الجهوي و تبديدا لإفرازاتها التي لم تكن أبدا لصالح التنمية و المردودية الديموقراطية. لكن اليوم و بعد هذا الخطاب الملكي بات مطلوبا منا أن لا نتحرج في بناء مستقبل جهوي لبلد غني بتياراته المواطنة و بروافده الحضارية المتنوعة، و أن لا نتردد في الاقتراح و الإبداع و الاقتباس من الآخرين.. مع استحضار الخصوصية المغربية الضاربة في عمق التراث المغربي التليد و المتنور. إن العناوين الكبرى التي كشف عنها الخطاب الملكي للشروع في إصلاحات دستورية عميقة، كانت تعبيرا عن وعي متقدم بخصوصية المرحلة التي تقتضي خلق روح جديد من التفاعل و المبادرة و المشاركة في بناء الوطن. و قد لا نخطئ إذا أكدنا على أن المغرب اليوم يدخل عهد الملكية الثانية أو الموجة الثانية – على غرار المراحل التي تخضع لها سياسيا الأنظمة الجمهورية في تطورها البنيوي الزمني – بوضعها لمعالم انقلابية تجديدية للواقع السياسي و المؤسساتي المغربي.. متجاوزة لكل ما هو تقليدي، بدء من البنية الذهنية أو السلوكية لأدوات الاشتغال على صعيد التدبير المحلي أو العام، و مرورا بالتطبيق السلطوي الحرفي و المنحرف عن الحس الوطني، و انتهاء بالعجز عن الانخراط التلقائي في منظومة الحداثة و الديموقراطية. إن إعادة تشكيل مجلس المستشارين وفق رؤية مغايرة للعمل الذي يقوم به مجلس النواب، و توطيد مبدأ فصل السلط على نحو ما هو معمول به في المجتمعات الحرة مع الارتقاء بسلطة القضاء إلى سلطة كاملة مستقلة فاعلة و مؤثرة في حماية القانون، و تكريس المساواة في التقاضي، و في تخليق المتابعة و المحاسبة و العقاب، و تقوية دور مجلس النواب في الرقابة و التشريع و التمثيل للأمة هموما و تطلعات. و تسمية الوزير الأول – و ليس تعيينه تفاديا لأي نقاش مفاهيمي أفقي أو عمودي – و تقوية مكانته التنفيذية مع دسترة مجلس الحكومة، و تعزيز دور الأحزاب في التوعية و التأطير للمواطنين، و تخليق الحياة العامة، و ربط ممارسة السلطة و المسؤولية العمومية بالمراقبة و المحاسبة، و توسيع مجال الحريات و حقوق الإنسان - كل هذه المفردات و التعابير السياسية و الأوراش المستقبلية الكبرى، تدفع بنا شعبا و أحزابا و فاعلين سياسيين و مدنيين و جمعويين إلى تهييء أنفسنا و عقولنا لخوض معركة البناء الجماعي، بهدف الانعتاق من مرحلة قاصرة عن استيعاب شروط النهضة، و إنجاز التحرر الكامل من رواسبها و شوائبها، و الشروع بالتالي في توفير فرص إعادة الاعتبار للقانون و الدولة و المواطنة. لكن مما لا شك فيه، أن هذا الخطاب يبقى محط تقدير و تنويه و تثمين نظريا، و لن يأخذ بالتالي دورته الكاملة في إحداث التغيير المنشود و الاستجابة الفورية لمطالب الجيل الجديد من أبناء هذا البلد العزيز، إلا حين يتحول من الدعوة إلى الفعل، و من التنظير إلى التطبيق، و من الحلم إلى الحقيقة، و من الفكرة إلى الواقع.. نحن لا نشك في صدقية الخطاب، و لا في سلامة مقاصده، و لا في جدية طروحاته، و لا في قوة أبعاده.. بقدر ما نبدي تخوفنا من الإرادات " غير " الخيرة التي قد ترى في ما دعا إليه الخطاب تجريدا لها من امتيازات و أوضاع و متع، إذ أن التجربة التاريخية علمتنا بأن كل تغيير لا يستوي عوده و لا يبلور خططه، إلا بعد أن يقاوم - باستماتة و جلد – الحروب و الدسائس المتتالية التي يشنها الحرس القديم عليه و على رجاله. إن المعركة صعبة لتحقيق المراد الوطني، فهي تتطلب رجالا أقوياء في الوطنية و قول الحق و إقراره، و أفكارا جريئة، و تخطيطا متقدما نحو شكل مقبول لدولة ديموقراطية.. كما تحتاج إلى سلوكات متقدة مبدعة خلاقة ترد الاعتبار إلى المواطن الذي تم احتقاره و إقصاؤه من عمليات البناء الوطني منذ عقود طويلة من الزمن، و تعيد الثقة إلى الكفاءة المغربية التي استبعدتها جماعات ضغط مالية أو سياسية أو عائلية، و تمكينها من ممارسة حقها في المشاركة و الحكم.. و إن كنا مبدئيا لا نخفي تفاؤلنا من قدرة الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011 على منح المغاربة طاقة نقدية لمظاهر الاختلال المؤسساتي الموجود اليوم في واقعنا السياسي، و قوة اقتراحية لتجاوز ماضي التدبير الضيق للشأن العام بما يحقق ثورة عميقة ضد الاستبداد و القهر و الظلم و الفقر و الجوع و المرض و اللاقانون و اللامساواة. إن الخطاب الملكي يترجم بالفعل ما تم تداوله إعلاميا من كون المغرب يشكل استثناء في المحيط العربي، إذ أفصح لنا - في ظاهره على الأقل - أن المؤسسة الملكية " فهمت " ما يريده المغاربة العاديون منهم و السياسيون، لكننا نتساءل : هل الذين أنيطت بهم مهمة تحضير مشروع تعديل الدستور في مستوى الذهاب بعيدا ( ليس المقصود كفاءتهم العلمية و القانونية فقد اعترف لهم بذلك ) نحو استلهام بنى التغيير المعتمدة في البلدان الديموقراطية ؟ إنها أمانة سيسألون عنها أمام الله عز و جل يوم القيامة.