طرح الخطاب الملكي لافتتاح السنة التشريعية الثالثة سلسلة من التحديات الكبرى، بما يجعل البلاد على أعتاب مرحلة سياسية جديدة، يتم فيها العمل على استعادة مصداقية الحياة السياسية، والاشتغال بفعالية لمواجهة الاستهدافات الموجهة لهوية المغرب ووحدته الترابية وبناءه السياسي، وهي الاستهدافات التي تعاظمت في السنوات الماضية، وجعلت مستقبل المغرب رهينا بمعالجتها. أولوية التأهيل الحزبي يمكن اعتبار التركيز على أزمة العمل الحزبي ببلادنا في الخطاب الملكي، مؤشرا على حجم هذا الملف ضمن الأولويات الوطنية، فرغم القناعة المتنامية بهذه الأزمة إلا أن واقع الممارسة يقدم مؤشرات سلبية ومعكوسة، تزيد من استفحال هذه الأزمة وبلوغها مستوسات قد تهدد مستقبل العملية الانتخابية والديمقراطية ككل بالبلاد، خاصة في ظل المعطيات التي أبانت عنها المحطات الانتخابية الجزئية الأخيرة، والمستويات التي بلغتها المساجلات الحزبية والسياسية في الساحة الإعلامية، وقبل ذلك اختلالات العمل الحكومي والبرلماني، مما كانت له انعكاسات جسيمة على صدقية العمل السياسي وفعالية المؤسسات. يقتضي تجاوز الأزمة الحزبية الراهنة، سلسلة من الخطوات والمبادرات، أعلن الخطاب الملكي عن عدد منها، خاصة على المستويات التشريعية والرقابية والتأهيلية، إلا أن هذه الخطوات تبقى قاصرة عن إحداث التحول المطلوب في البنية الحزبية، ما لم ترتكز على تحولات جذرية في المنهج والخطاب الذي يؤطر العمل العمل الحزبي، وهي التحولات التي تقتضي من المشتغلين في الفضاء الحزبي القيام بمراجعة دقيقة لمجمل الفكر والممارسة الحزبيين منذ حوالي العقد من الزمن، أي منذ الانخراط في مسلسل التناوب السياسي، والسعي لنقل بلادنا لمرحلة جديدة في التدافع السياسي. المراجعة المطلوبة من الفاعلين الحزبيين، تمثل الخطوة الأولى في عملية التأسيس للمرحلة المقبلة من المسار السياسي، والذي تعد الانتخابات التشريعية لسنة 2007 بمثابة تتويج له، ويمكن تركيز محاورها في مسارين، من ناحية أولى على تجاوز منطق المقاطعة والرفض والمزايدة في الممارسة السياسية مما أدى لتحويل العمل الحزبي إلى فضاء للعمل الاحتجاجي مع ضمور دوره التأطيري وقدراته في الاقتراح والتدبير السياسي للشأن العام، ومن ناحية ثانية ترتكز هذه المرحلة أيضا على نبذ منطق العلاقات المصلحية والفئوية والولاءات السلطوية كضمانة لتحقيق المنافع الشخصية وحيازة المناصب السياسية، وهو المنطق الذي أدى هو الآخر لضمور المؤسسات السياسية وانحسار فعاليتها وتدهور مصداقيتها، ونعتبر أن سيادة كلا المنطقين لسنوات إن لم نقل عقود أورث معوقات بنيوية في المشهد الحزبي، نجم عنها تعثر عدد من المبادرات والبرامج المعلنة، حتى أن تراكم تلك التعثرات جعل من غير الممكن الاستمرار بدون حسم هذا الملف. لقد كان من المفروض ان تقع عملية التأهيل الحزبي في خضم التحولات السياسية التي عرفها المغرب منذ ,1996 إلا أن عوامل عدة تدخلت لتحول دون ذلك، إن على صعيد بعض أجهزة السلطة ونوعية تعاملها مع الفاعلين في الحياة الحزبية واستمراراها في تغذية السلوكات القديمة القائمة على الولاء المباشر كشرط لحيازة الثقة والدعم الميداني والانتخابي، أو على صعيد الفاعلين الحزبيين، الذين تزايد داخل عددهم عوامل التساقط السياسي والانزلاق نحو إعادة إنتاج منطق الولاءات الفئوية في ظل تجربة التناوب الأولى، كما ارتكس بعضهم في دائرة العقلية الاحتجاجية في ظرفية كانت تحتم تجديدا شاملا في الخطاب الحزبي والسياسي، بل إن التعثر العام الذي تعرضت له تلك التجربة يجد تفسيره في هذا الإخفاق في التأهيل الحزبي، وعدم القدرة على تخصيب عملية الفرز السياسي بين التكتلات الكبرى في الحياة الوطنية للبلادن بين تكتل يرى خياره في نهج خيار تحديث منقطع عن هوية الأمة، وبين تكتل يرابط في موقع الدفاع عن هذه الهوية في الوقت الذي يؤمن فيه بضرورة الإصلاح والتغيير، وبينهما تكتل يفتقد للهوية المرجعية في العمل السياسي، حيث بقيت تلك التكتلات تخترق جل البنيات الحزبية، كما لم تستطع التبلور في برامج وتوجهات واضحة وبالتالي تأسيس تقاطبات سياسية جلية، والارتقاء بالعمليات الانتخابية والأداء الحكومي، والواقع أن مختلف التكتلات لم تبادر إلى مباشرة جهود التوضيح الفكري والسياسي والتنظيمي، بل على العكس من ذلك استمرت عدد من المباردات المدعومة من بعض الجهات المتنفذة أحيانا، مما أدى لتمييع الحياة الحزبية والسياسية من جهة بروز نزوعات استنتاخ النموذج التونسي الاستئصالي في تدبير الشان العام من جهة أخرى. رهانات التأهيل الحزبي ولعل الخطاب الملكي بإشارته المباشرة لضرورة الارتكاز على المشروعية الديمقراطية أي المشروعية القائمة على العمل الميداني المباشر في صفوف المجتمع، ومسؤلية الأحزاب في بلورة الإجابات على المشكلات، عوض أن يكون عمل الأحزاب تعبيرا عن مطامح شخصية أو فئوية ضيقة، والدعوة إلى اعتماد لغة الحقيقة والمعقول، وعدم الاشتغال في المجال السياسي بمنطق الشعبوية والديماغوجية تقدم عناصر في نوعية التوجهات التي ينبغي أن تؤطر الحياة الحزبية، كما أن استعادة مصداقية الحياة الحزبية يتطلب الإقلاع عن الخطاب العدمي، وإعادة الاعتبار لها، والتعاطي بموضوعية مع مكونات المشهد الحزبي، تكشف عن عنصر حيوي فالإشادة باستعداد الأحزاب السياسية في الانخراط في التوجهات التي حددها خطاب العرش، والتأكيد على نبذ التحامل المجاني على الأحزاب، أو التنكر الرخيص لها، سواء من يوجد في موقع الأغلبية أو في موقع المعارضة كما جاء في الخطاب الملكي، مواقف صريحة وواضحة في الدعوة لتدشين مرحلة جديدة في الحياة الوطنية وتنقية الخطاب الإعلامي والحزبي والسياسي من عوامل الانتكاس والإعاقة الآنفة الذكر، خصوصا وأن مسلسل الانتقال الديموقراطي معرض للاستهداف من جهات عدة، لإفشال اكتماله وتطوره، ويمثل التطرق السريع للخطاب الملكي لأعداء الديموقراطية دلالة على الخطر بالمحدق بالتجربة المغربية، خصوصا في ظل ظرفية دولية مشوبة بتوجهات التوتر والإرهاب واللاإستقرار، مما يجعل خيار الانخراط في تحديث المجال الحزبي خيارا لا مفر منه، خاصة في ظرفية تظافرت فيها العناصر المساعدة لذلك، ودون الارتهان لضغط الاستحقاقات الانتخابية القادمة. لقد جرى الإعلان عن اعتبار الحسم في قانون الأحزاب مسألة مستعجلة، وأن تكون الدورة التشريعية الحالية دورة البث فيه، ليكون ذلك مقدمة للانتقال إلى برامج عملية في الدعم المباشر لاهيل الأحزاب ورفع إمكانتها وقدراتها من جهة، وبرامج المواكبة والرقابة القانونية من لدن القضاء بما يتيح نوعا من التدخل الإيجابي يحد من مسلسل التمييع والاختراق والتساقط والعبث في العمل الحزبي ويرفع من مصداقيته في الحياة الوطنية، ونعتبر أن الإسراع في إخراج القانون واعتماد البرامج العملية المرتبطة به بموازاة إصلاح الجهاز القضائي وتوسيع الحريات سيقدم مؤشرا عن مدى الجدية في ربح رهان التحديث الحزبي والسياسي. الأداء الحكومي والقضية الوطنية وإلى جانب الاستحقاق المرتبط بالتأهيل الحزبي، جرى التركيز في الخطاب على استحقاقين، الأول يهم الارتقاء بأداء العمل الحكومي أما الثاني فيرتبط بقضية الوحدة الترابية، بخصوص الاستحقاق الأول، نجد أن الخطاب الملكي أكد على عدد من التوجهات المطلوبة في المرحلة القادمة كتحفيز الاستثمار المنتج، والتوفيق بين الحفاظ على التوازنات المالية والاجتماعية وبين إكراهات أعباء التسيير الاستهلاكية ومستلزمات تمويل الاستثمار المنتج والتوفيق بين دينامية توسيع الحريات العامة والفردية وبين متطلبات الحفاظ على النظام العام، وهو ما يقتضي الانخراط في مباشرة عدد من اوراش التنمية والتحديث، وما يرتبط بها من قضايا تقوية دور مؤسسات المجتمع المدني وتأهيل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، ومراجعة منهجية اتخاد القرار في مجال تدبير الشأن العام، كما تطرح التوقف عند تقييم حصيلة التعديل الحكومي ومدى الإضافة التي قدمها في تجاوز اختلالاته السابقة. أما الاستحقاق الثاني والمتعلق بقضية الوحدة الترابية، فقد حمل الخطاب الملكي إشارتين دالتين، الأولى وضعت النزاع القائم حول الصحراء المغربية جزءا من عملية استهداف شاملة لكيان المغرب، مما يكشف عن خطورة المرحلة الراهنة، وتطرقت الثانية لتأكيد خيار المغرب في نبذ النهج العسكري في تسوية خلافاته الخارجية، وتبني الحوار كخيار بديل، وحرصه على استقرار محيطه الاستراتيجي والتزامه بعهوده وبمبادئ حسن الجوار، وهي رسالة واضحة لما تردد في الأسابيع الماضية من ردود فعل داخل الجزائر على مذكرة المغرب الموجهة للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، حيث لجأت تلك الردود لتأويل مذكرة المغرب بقرع طبول الحرب وزرع اللاستقرار بل إن بعضها ذهب لحد التهديد بحمل السلاح ، ونعتبر أن الخطاب الملكي بتطرقه المباشر والصريح لهذه المسألة يقدم دليلا إضافيا على التحول العميق والمتدرج في السياسة المغربية تجاه تدبير قضية الصحراء المغربية، كما يطرح في الآن نفسه تحديات جديدة على باقي المكونات السياسية والحزبية من أجل تحمل مسؤوليتها في مواجهة هذه الاستهدافات للكيان المغربي، وتطوير برامج اشتغالها في الساحة الديبولماسية والشعبية الدولية. لقد أسس الخطاب الملكي لعناصر محددة في المرحلة السياسية القادمة، وأبان عن وجود مخاض وطني عميق في الجسم المغربي، أمام مخاطر اليأس والتشاؤم والتخاذل، وهي المفردات التي نجدها غزت مع تفاوت في المستويات عدد من مكونات الفضاء السياسي والحزبي، ومعالجة مخاطرها يقتضي من مختلف الأطراف تحمل مسؤولياتها في هذه الفترة الدقيقة من تاريخ البلاد. مصطفى الخلفي