وقف زيد وسط ساحة امتلأت بسيارات أجرة كبيرة ... كان ينتظر تحت أشعة الشمس الحارقة انطلاق أول سيارة في اتجاه قريته النائية . انتظر طويلا ... واقفا تارة وأخرى جالسا القرفصاء على عتبة الكوخ الوحيد الذي يبتلع فضول أغلب المسافرين ... يبدو أن انتظاره قد يطول لبعض الوقت ... هذه سنة أناس فقدوا متعة السفر ! بصر الجميع شاخص في اتجاه الكوخ ... جميعهم يلونون جسد المرأة بتعابير وجوههم الشاحبة ... وفي تودد معلن تستعطف هذه السيدة هؤلاء بابتسامة غامضة تتوزع بين الفرح والألم ... وهي تبحث خلف نظراتهم عن جوعهم اليومي والعرق الصيفي ينبعث من أعلى عنقها كحبات الندى لا يلبث أن يسقط واهنا على معجون البطاطس المعد للقلي . كم يبدو المنظر أليفا في صباحات صفينا ونحن نشاهد الحشرات الطائرة تحط رحالها على صحن البطاطس وتنأى في حركات دائبة ... لا أحد قادر على أن يغير مجرى ما يحدث ... فحتى الكلبة الوحيدة التي تحرس الكوخ ليلا لم يعد بإمكانها أن تفعل نفس الشيء الذي اعتادت عليه بالفطرة : أن تنبح في وجه الغرباء ! ! هي الأخرى تسير الآن بين جموع الناس برأس إلى أسفل وفم يتقاطر لعابه لزجا ... وجراؤها الخمسة ، في عبث الصبايا يناوشون بعضهم البعض دون أن تغفل أعينهم عن ذيل الأم المعقوف. ضل زيد يتمعن هذه الصورة القاتمة لأناس يفضلون الحياة بشكلها الأدنى ... وعيناه لا تفارق سيارة الأجرة التي أدار سائقها المحرك إيهاما بانطلاق الرحلة و... المرأة بين الفينة والأخرى يعاودها الحنين لمفاتن جسدها كلما داعبها غزل مستتر ، أو إشارة رمش تنغرس بين مغاليق شهوتها النائمة منذ أن سافر الزوج ولم يعد . - أخس ... استفاقت الكلبة من سهوها أمام هذا الأمر بالابتعاد ، وهرولت بعيدا عن الناس وهي ترمق جراءها من لحظة لأخرى . الزيت الحار ما أن يلامس قطعة بطاطس أو حبة عرق مالح إلا ويبدأ في الطنين مكونا على سطح الإناء رغوة بيضاء مائلة إلى الصفرة تغذي شهوة الواقفين ، وتزيد من شدة جوعهم ! ... ما زال عدد الركاب لم يكتمل بعد ، الشمس تزداد اقترابا من رؤوس الناس والمكان امتلأ برائحة الأجساد الباحثة عن ظل ولو في جحيم امرأة ورائحة معجون البطاطس تتعالى بين الفينة والأخرى ما أن تهب ريح الصيف من إحدى زوايا الكوخ . - كأس شاي وقطعة بطاطس وخبزا ... ولا تنسي مرقا ! - في الحال ... اجلس هنا ! انحنت المرأة وهي تشير للرجل الذي توقف نفسه ما أن رأى الصدر العاري . - شكرا ... جزيلا ! الجميع يلتهم الآن أكلته ما بين الواقف والجالس ... وزيد لا زال يتأمل سر هذا الإقبال الشديد على قطع البطاطس في اندهاش غريب ... ها هو يتقدم صوب المرأة ، ليفك قيود دهشته : - من فضلك ، قطعة بطاطس ! - وخبزا ! أليس كذلك ؟! - لا ! فقط بطاطس بحبات الندى ! !