1 على أبواب القدس: نقطة التفتيش كان علي أن أسافر إلى الأراضي المحتلة، وذلك استجابة لحاجة اقتضتها المهمة الإنسانية التي قمت بها في شتنبر 2002 من أجل منظمة "المساعدة الطبية الدولية" وهي منظمة غير حكومية متفرعة عن حركة أطباء بلا حدود، تخصصت في تكوين مساعدين طبيين. ومحاولة السفر عبر وسائل النقل العمومي معناه مشاركة آلاف الفلسطينيين في عيشهم اليومي، الذي تطبعه مغامرة المرور عبر مختلف نقط التفتيش التي دأبوا دون حرج على تسميته بالعبرية "المهزوم"!! كلمة "مهزوم" هذه يتم ترديدها طيلة اليوم لدرجة أنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من اللغة اليومية المتداولة لكل واحد منهم، والمشهد الذي سوف أحاول فيما يلي نقله تجري أحداثه في مكان ما بين رام اللهوالقدس. وأنا في الطابور الذي دام دقائق لا تنتهي أبدا، وتحت شمس حارقة، تبادلت بعض أطراف الحديث مع فلسطيني كان في الصف عن يميني أزيد من ساعة من أجل التقدم لبضعة أمتار فقط هو زمن كان لربط علاقات. امتزجت في حوارنا السخرية من وضع الاستخفاف فيما يتعلق بوسائل الراحة "المتوفرة" خلال انتظارنا الطويل. سألني مرافقي الفلسطيني، وهو رجل طويل القامة في الأربعين من السن إذا كنت واقفا على رجل واحدة، أو على الإثنتين معا، ذلك لأنه حدث بيننا تدافع غير عمد ونحن ننتقل من طابور ذي أربعة صفوف (ثلاثة للرجال وواحد للنساء والأطفال الصغار) إلى طابور من صف واحد. بل إن صاحبي ارتأى أنه من الأفضل أن يضيف قائلا بأن كون الواحد منا واقفا على رجليه معا ليس امتياز في مثل هذه الظروف، إنه فقط أمر أقل إرهاقا في انتظار الخلاص، ويتقدم الطابور ببطء شديد بحسب هوى ورغبة الجنود "الإسرائيليين" المدججين بالسلاح. كل الحشد الفلسطيني الذي يتقدم إلى نقطة العبور يحافظ على مسافة كبيرة، بينه وبين الجنود، حوالي عشرين مترا تقريبا. هناك بعض الجنود متمركزون خلف أكياس الرمل، ومن هناك يأمرون الفلسطينيين بحركات فاترة بالتقدم، المرشحون للمرور يتقدمون مثنى مثنى وهم يبرزون بطائقهم، والويل للمستعجل، ثم إنه ليس في صالح أحد أن يكون مستعجلا، وفيما يفيد الاستعجال، على كل حال. المستعجلون، وهم موجودون مع ذلك يتأخرون كثيرا ويؤخرون الآخرين، فالجنوب الشباب الذين يمارسون هذا العمل تبعا لضرورة الخدمة العسكرية، لا يسمحون بأي تباعد بين المصطفين. الوقت يمر ببطء شديد، كنت قد تهيأت نفسيا لمثل هذه الظروف وبدأت أشغل وقتي بالتفكير في هؤلاء العسكريين الشباب. كان أغلبهم في حدود سن العشرين، ولكن الخدمة الوطنية أصابت الشباب بالشيخوخة والشابات بالقسوة. لقد فارقوا جميعا براءة مراهقتهم ليرتدوا لباسا عسكريا حتى يتم تثبت الاختلاف والاحتقار في عقولهم. إن مناخ الحرب الذي نشأ فيه كل هؤلاء الشباب يهيئهم للحقد والعداوة. أما فيما يخص الفلسطينيين، فإن المسافر يحتاج مع ذلك إلى الكثير من الخيال حتى يدرك ما هم فيه من شدة ومحن. الفلسطينيون الذين يحملون بطاقات تعريف من القدس يسمح لهم بالمرور نحو المدن الأخرى التي هي تحت إدارة السلطة الفلسطينية، أما الفلسطينيون الآخرون فيحتاجون إلى رخصة خاصة للمرور من منطقة إلى أخرى. وعدد الذين يرفض مرورهم ويتم إرجاعهم من حيث أتوا هو عدد جد مرتفع لأن القواعد المعمول بها تتغير من يوم لآخر، وأحيانا وفقا لمزاج الجندي الشاب ذي الثمانية عشر ربيعا. وخلال هذا المشهد أدركت وفهمت جيدا أن جميع الأوصاف وجميع الكلمات هي عاجزة عن وصف المعيش اليومي للفلسطينيين. يستطيع المتغربون عبر العالم أن يفكروا أحيانا عندما تكون هناك مجزرة أو عندما يكون الرئيس عرفات محاصرا بالدبابات، يفكرون وينسون!! صباح كل يوم، هناك نساء ورجال فلسطينيون يستيقظون ويغتسلون إذا وجدوا ما يكفي من الماء، ويستمعون إلى الأخبار لمعرفة ما لم يكن هناك منع للتجوال فيلبسون ملابسهم، ويركبون سيارة أجرة مفردين أو في سيارة أجرة جماعية ليصلوا بأمل مرتاب إلى نقطة التفتيش. وهم يأملون في المرور إلى الجانب الآخر من بلادهم. بعض النساء عندما رأين هذا الطابور البشري الذي لا ينتهي، شرعن مصحوبات بأطفالهن الصغار في المرور عبر الطريق المخصصة للسيارات، إلا أن الجندي الذي يبدو أنه لا يتجاوز العشرين سنة كان صارما جدا في الرفض. هل هي الأوامر أو الحماس الزائد والاندفاع؟ لا يهم، الأمهات اللواتي قمن بالمحاولة رجعن عن طواعية ودون أدنى محاولة في الإلحاح إلى الطابور الذي حافظن به على موقعهن. أن يكون هناك أطفال صغار جدا معرضون لضربة شمس أو للجفاف من الماء لا يبدو أمرا يثير أدنى رأفة لدى هؤلاء الشباب حاملي الأسلحة. رجل عجوز وكذلك امرأة حامل وهما يلوحان بشهادتين طبيتين أن يسلكا نفس الطريق ولكن دون جدوى. ثم ظهر رجل ضخم الجثة، تبدو عليه الثقة الكاملة في نفسه، وهو يتقدم على نفس طريق السيارات، إنه فلسطيني يلوح بافتخار واعتزاز بجواز سفره الأمريكي مطالبا بأن يفسح له بمعبر متميز، نفس الجندي الشاب أشار إليه دون أن ينظر إلىه فعلا بأن يعود من حيث أتى أو أن يدخل في الصف مثل الآخرين. ولكن الأمريكي ألح، فأمر بأن يبقى على مسافة بعيدة ليفسر ما يريد قوله بما أنه مصر على قول شيء ما. كان يريد معاملة امتيازية، تمنح أحيانا للأجانب الدوليين، وكان يطالب بأن لا يضطر إلى السير داخل الطابور مثل الآخرين. لم يكن يريد أن يعامل مثل أي فلسطيني، ومع ذلك فقد حاول أن يقنعهم ولكن دون جدوى. لقد استمر الجنود الشباب صارمين في أوامرهم متمسكين بها. لقد أصبح الأمر عبارة عن مشهد "سوريالي" متكرر مثل مشاهد أفلام جاك تاتي. التوتر أخذ يتصاعد ويحتد، فقدان السيطرة، سباب، حجز جوازات سفر، وها هو صاحبنا الفلسطيني "الأمريكي" وسط هذا الجو المشحون، والذي لا يستحق في الواقع إلا أن يمضي في هذا المكان الجهنمي وقتا أطول منا جميعا نحن الذين نصطف في الطابور ونحن وقوف على رجل واحدة أو رجلين. أما المشهد الأكثر إيلاما الذي شاهدته بكل أسف فهو توقيف سيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني لأزيد من نصف ساعة، حيث أنزل الجنود المريضة ومرافقتها، ثم شرعوا في تفتيش سيارة الإسعاف بشكل مستفز وصل إلى درجة تفتيش أغطية وملابس المريضة، كل هذا تم تحت الأنظار الممزقة والعاجزة للفلسطينيين المصطفين في الطابور. سائق سيارة الإسعاف لم يستطع أن يمنع نفسه من الاحتجاج والذهاب لرؤية من يبدو أنه رئيس هؤلاء الجنود لمجرد أنه أكبر منهم سنا بقليل، ولكن حركاته وصراخه لم يكن لها إلا أثر عكسي، بزيادة تأخيره أكثر. وبعد مدة سمح له أخيرا بمواصلة الطريق بعد أن عادت المريضة إلى مكانها وأرجعت له أوراقه. انطلق بقوة كالإعصار مضيفا طبقة غبار أخرى على الجو المغبر الذي كنا نسبح فيه جميعا منذ بدء مغامرة نقطة التفتيش. زهير لهنا.. نائب رئيس منظمة "مساعدات طبية دولية" باريس