توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات        مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفصل الأول من رواية «أرجوحة النفس» للكاتبة العالمية هارتا مولر .. حزم حقيبة السفر
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 23 - 10 - 2009

شكل فوز الكاتبة الألمانية هيرتا موللر بجائزة نوبل للآداب لهذه السنة الحدث الأبرز للمعرض الدولي للكتاب بفرانكفوت . ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه تتويج روايتها «أرجوحة النفس» للكاتبة لنيل جائزة الكتاب الألماني، أحد أرفع الجوائز الألمانية والتي تُمنح عشية معرض فرانكفورت للكتاب لتتويج «أهم رواية» صدرت خلال العام، فاجأت الأكاديمية السويدية لجنة نوبل باختيار الكاتبة الألمانية لتمنحها جائزة نوبل للآداب. وكانت المفاجأة كبيرة في معرض فرانكفورت عندما شاهد الزوار هيرتا مولر وهي تمسك باحدى نسخ الترجمة العربية لأحدث رواياتها التي صدرت قبل ثلاثة شهور فقط، وهي رواية «أرجوحة النفس»، لتكون بذلك أول ترجمة لهذه الرواية. هذا السبق حققه مشروع «كلمة» في أبو ظبي بتعاقده على ترجمة الرواية وهي على شكل مخطوط، على حد تعبير مصطفى السليمان منسق مشروع «كلمة» في ألمانيا والتي تشرف عليه جامعة يوحانس غوتنبيرغ بماينس. وهي الرواية التي ترجمها الشاعر السوري وحيد نادر المقيم في ألمانيا.
وتتناول «أرجوحة النفس» قضية قمع الرومانيين الألمان إبان فترة الحكم الستاليني في أوروبا الشرقية . . فبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية واحتلال الجيش الأحمر لرومانيا صدرت الأوامر بإيداع جميع الرومانيين من أصل ألماني بين سن السابعة عشرة والخامسة والأربعين معسكرات العمل القسري فقد رأى الاتحاد السوفييتي حينها أن على هؤلاء الألمان المشاركة في إعادة بناء ما دمرته ألمانيا النازية .
أحمل معي كل ما عندي.
أم أحمل معي كل ما أملك.
هاقد أخذت كل ماعندي، رغم أنه لم يكن ملكي، وكان هذا الذي حملته غير ضروريّ أو أنه كان ملكاً لشخص آخر. فحقيبة جلد الخنزير كانت تستخدم صندوقاً للجراموفون والمعطف الواقي من الغبرة كان للوالد. أما المعطف المدنيّ بشرائطه الكثيرة على العنق فقد حصلت عليه من جدّي وأعطاني عمي إدوين السروال وأهداني جارنا السيد كارب مشدّات السّاق الجلديّة. كانت أشيائي التي أملكها حقاً لا تتجاوز الشال ذي اللون الخمريّ وصندوق الأغراض الضرورية، وهي بدورها هدايا من عيد الميلاد الأخير.
كانت رحى الحرب مازالت دائرة في كانون ثان 1945. على إيقاع ذلك الهلع وفي منتصف الشتاء، إذ لم يكن أحد يدري إلى أين سيؤل به الطريق إلى الروس، أراد كلّ واحد من معارفي أن يعطيني غرضاً قد ينفعني، حين لا ينفع شيء، فمتى عادت أشياء هذا العالم بالنفع علينا؟ ولأنّ اسمي كان على قائمة الروس، ولا أحد يستطيع تغيير ذلك، فقد قدم كلٌّ مساهمته التي يستطيع تقديمها وربما فكّر أيضاً بمأساتي القادمة على طريقته.
وأنا أخذت كلّ ما أُعطيت، ورغم أن سني يومذاك كان لم يتجاوز السابعة عشرة بعد، فقد فكرت بأن هذه الرحلة جاءت في وقتها. حتى لوكان سبب الرحيل أمراً آخر غير قائمة الروس، فهو إن لم يُمتْني فسوف ينفعني. كنت أريد الخروج بأيّة طريقة من عقلة الإصبع هذه، من ضيق مدينتي الصغيرة، حيث للأحجار عيون. لقد انتابني قلق خفيّ وانتابني بدل الخوف تأنيبُ ضمير، لأن القائمة التي شكّت بها عائلتي، كانت أمراً مقبولاً بالنسبة لي.
كانوا خائفين من أن يحدث لي شيء في الغربة، أما أنا فقد أردت الرحيل إلى مكانٍ لايعرفني فيه أحد. فقد تغيّر فيّ شيء ما، شيء كان حصوله ممنوعاً، لأنّه شيء رذيل ووسخ وفاحش، لكنه جميل. ماحصل كان على الطرف الخلفي لحديقة أشجار البتولا في الجهة الأخرى لهضبةٍ من حصيد العشب، يومها مررت وأنا في طريقي إلى البيت في الساحة الدائرية وسط الحديقة، حيث تعزف الأوركسترا موسيقاها أيام الأعياد. هناك بقيت جالساً لفترة وجيزة أنظر إلى الضوء المتسلل عبر فوضى الأغصان المشغولة بدقة وأرقب خوف الظلال الدائرية والمربعة والظلال التي لها شكل المعيّن الفارغة والمربوطة بمخالبِ زخرفٍ أبيض. كانت تلك الظلال صورةً لضياعي ونموذجاً للخوف الذي يعلو وجه أمي عليّ. في تلك الساحة أقسمت أن لا أعود ثانية إلى هذه الحديقة.
كنت كلما تشددتُ في منع نفسي، ألحّ عليّ الذهاب أكثر - أعني أني عدتُ بعد يومين فقط إلى الراندي فو، هكذا كان يسمى الموعد في الحديقة.
ذهبت إلى موعدي الثاني مع نفس الرجل الأوّل. كان اسمه السنونوة. أما الرجل الثاني فلم أكن أعرفه من قبل وكان يسمى الصنوبرة. الثالث فيهم كان اسمه الأُذن، بعد ذلك جاء الخيط ثم الشحرورة الذهبية وبعده القلنسوة.
فيما بعد جاء دور الأرنب والقطة والنورس، ومن ثمّ اللؤلؤة. لم يكن يدري أحد غيرنا، أيّ اسم ينتمي لأيّ شخص. لقد كانت المبادلة بهيميّةً في الحديقة، فقد سمحت لهم أن يتبادلوني فيما بينهم. وكان صيفاً وكانت أشجار البتولا مازالت ترتدي لحاءها الأبيض، في ذلك الدغل من الياسمين والبيلسان نما الجدار الأخضر من غصن كثيف مانع، وكان للحب أوقاته خلال السنة. فالخريف ينهي مهمة الحديقة، لأنه يعرّي الأغصان ويرسلنا بمواعيدنا العاشقة إلى حمّام نيبتون.
وهناك عُلِّق إلى جانب الباب الحديدي رمزٌ بيضويّ يحمل صورة إوزة، هناك حيث كنت ألتقي كلّ أسبوع الرجل الذي كان يكبرني بالعمر مرتين. كان رومانيّ الجنسية ومتزوجاً. لن أقول اسمه لأحد. كنا نجيء بوقتين مختلفين كي لانسمح، لا للمحاسبة في غرفتها الزجاجية ذات اللون الرّصاصيّ ولا للأرضية الحجرية العاكسة كالمرآة ولا للأعمدة التي تتوسط القاعة ولا لأحجار السيراميك المزهوّة بنموذجها المزهر باللوتس على الحائط ولا للأدراج الخشبية أن تشعر أننا على موعد. ذهبنا لحوض السباحة نسبح مع الآخرين، ولم نلتقِ وحيدَين إلا في حجرات الساونا.
أيام زمان، أي قبل ذهابي إلى المعسكر بقليل، ثم بعد عودتي منه وحتى العام 1968، حيث غادرت بلادي بشكلٍ نهائي، كان يمكن أن تؤدي مثل هذه المواعيد إلى سجن لا تقل مدته عن خمس سنوات، طبعاً لو مسكوني متلبساً. وقد قبضوا على البعض، وقادوهم من الحديقة أو من حمام المدينة بعد تحقيق وحشيٍّ إلى السجن ومن هناك أخذوهم إلى معسكر تأديب. والآن أعرف، أنهم لم يكونوا يعودون من تلك القناة. والذي عاد منهم، كان جثةً تمشي، عاجزاً ومخرَّباً وغير قادر على ممارسة أي شكلٍ من أشكال الحب في هذه الدنيا.
أما لو ضبطوني في مثل تلك المواعيد أيام معسكر الرّوس، لكنت الآن في عداد الأموات.
كنت بعد إخلاء سبيلي من المعسكر أجوب صخب الشوارع كلّ يوم وأتدرب على أفضل الجمل التي يمكن أن أقولها في حال اعتقالي، فعلى تهمة مثل: ضُبطتَ متلبساً بالجرم المشهود، حضّرت ألف إجابة وادّعاء بغيابي عن المكان. رغم حملي الذي لايحتمل فلقد صمتُّ عليه طويلاً وبعمق، فأنا من الذين لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم بالكلمات، وحين أحاول ذلك، فإنني أعبّر بطريقة مختلفة.
في آخر صيف من صيفيّات المواعيد، ولكي أطيل طريق العودة من حديقة شجر البتولا إلى البيت، وصلت بمحض الصّدفة عبر المتحلق الكبير إلى كنيسة الثّالوث المقدّس. هذه الصّدفة ساقت معها قدراً، فلقد بصرْتُ حياتي القادمة. كان القدّيس بمعطفه البنيّ واقفاً على أحد الأعمدة قرب الهيكل الجانبي، قبَّة معطفه شاةٌ حول رقبته. هذه الشاة في العنق هي الصمت. فهناك أشياء لا يتكلم الإنسان حولها. وأنا أدرك عمّاذا أتكلم عندما أقول: إن سكوت العنق شيء آخر غير سكوت الفم. فلقد عشت الخوف قبل المعسكر وأثناءه وبعده ولمدة خمسة وعشرين عاماً متواصلة، الخوف من الدولة والخوف من العائلة. الخوف من السّقوط المضاعف، أن تعتقلني الدولة بوصفي مجرماً وأن تطردني العائلة بصفتي فضيحة. في ضجة الشوارع أنظر في مرايا واجهات العرض، في نوافذ البيوت والتراموايات، في مياه الينابيع وبرك الماء الصغيرة، أنظر ولا أصدّق، فربما كنت شفافاً فعلاً.
كان أبي معلم رسم. أما أنا، برأسي المملوء بحمام نيبتون، فقد كنت أرتجف كأن أحداً رفسني بقدمه، حين كنت أسمعه يلفظ كلمة أكواريل3. كانت كلمة «لوحة بألوانٍ مائيّة» تعرف الحدّ الذي كنت قد تجاوزته. قالت أمي ونحن على طاولة الطعام: لا تطعن حبة البطاطا بالشوكة فتفتّتها، خذ الملعقة، فالشّوكة نستعملها لتقطيع اللّحم. هذا ماجعل صدغيّ يضطربان، فما علاقة اللحم بالبطاطا والشّوكة. عن أي لحمٍ تتكلم أمّي. فأنا سارق نفسي والكلمات سقطت اعتباطاً وأصابتني.
كان أبي، وبالأخصّ أبي، مفتوناً، ككلّ الألمان الذين يعيشون في مدينة صغيرة، بجمال الجدائل الشقر والجوارب البيض التي تغطي السّاق حتى الركبة
مثلما فُتن أهلي بمربع شوارب هتلر الأسود. كان أهلي معجبين بنا نحن الألمان الساكسونيين بوصفنا عرقاً آريّاً في منطقة زيبِن بورغِن (القلاع السبعة) في رومانيا. رغم أنّي في سري خجلٌ جداً من جسدي، وإذا أضفتُ علاقتي بالرجل الروماني فوق ذلك كلّه، فإننا أمام فضيحة عرقيّة.
كنت أريد الرّحيل عن العائلة ولو إلى معسكر العمل الإجباري عند الرّوس. ماكان يؤلمني هو هجر أمّي التي لم تكن تدري، كم هي تفتقر إلى معرفتي، والتي ستفكر بي في غيابي أكثر بكثيرٍ مما سأفكر أنا بها.
رأيت في الكنيسة إلى جانب القديس صاحب شاة صمتِ العنق عبارةً مكتوبةً في ركنٍ أبيض في الحائط تقول: وترسلُ السماءُ الزمانَ حركةً. عندما ضببتُ حقيبتي للسفر قلتُ في نفسي: لقد ترك هذا التجويف الأبيض أثره. فالآن هو الوقت الموضوع في عجلة الحركة. كنت فرحاً، لأنني لن أساق للحرب، لن أساق إلى الجبهة في هذا الثلج. وهكذا رحت أحزم حقائبي بشجاعة الغبيّ وخضوعه دون أيّ دفاع عن نفسي. مشدّات جلدية برباطات، سراويل فضفاضة، معطف بنطاقٍ حريريّ ? لا شيء يناسبني منها، فالأمر متعلّقٌ بالزمن المرسل في حركته وليس بالثياب. والمرء سيكبر وينضج في هذه الثياب وفي غيرها. قلتُ في نفسي، العالم ليس حفلة تنكُّريّة بأيّة حال، وليس مضحكاً من عليه السفر للرّوس في قلب هذا الشتاء.
كانت الدوريّة المؤلفة من شرطيين، واحد روماني والآخر روسي ومعهم القائمة، تدور على المطلوبين من بيت لبيت. لا أدري إذا كانت تلك الدورية قد لفظت عندنا في البيت كلمة معسكر. وإذا لم تكن هي اللفظة التي قيلت، فقد قالوا كلمة أخرى لن تكون سوى روسيا. وإذا كانت معسكر هي الكلمة المقالة فعلاً، فإنها لم ترعبني. فرغم الحرب وصمت مواعيدي في عنقي كنت مازلت أخبئ في أعوامي السبعة عشر طفولةً ساخطة حمقاء.
من الكلمات التي تركت أثراً في نفسي كانت كلمتا أكواريل ولحم. أما كلمة معسكر، فقد بقي مخّي أمامها أطرش. إذ خطرت على بالي أيام زمان وقصّة الطعام والبطاطا والشّوكة، وعندما أصابتني أمّي بكلمة لحم، يومها كنت صغيراً ألعب تحتَ في أرض الديار إذ صرخت أمّي من نافذة الفيرندا: إذا لم تأتِ فوراً للأكل وإذا احتجت لمناداتك مرّة أخرى، فالأفضل أن تبقى حيث أنت. ولأنني لم أكن أصعد إليها في الحال وأبقى برهة أطول في الدار، كانت تقول لي حين أصل إليها: تستطيع الآن أن تضبّ حقيبتك المدرسية وترحل أنّى شئت وتفعل ماشئت في هذا الكون. ثم تجرّني إلى الغرفة آخذةً حقيبة الظهر الصغيرة حاشرةً فيها قلنسوتي الصوفيّة والجاكيت. فأسألها: ولكن إلى أين أذهب؟ ألست ولدك؟
يقول الكثير من الناس أن ضبّ الحقائب للسفر مسألة تدريب، يتعلّمها المرء من نفسه كالغناء والصلاة. نحن لم نتدرّب وليس لدينا حقائب. فعندما ذهب أبي إلى الجبهة لأداء خدمته الإلزامية في الجيش الروماني، لم يكن هناك مايجب ضبّه. فالعسكري يحصل على كل شيء مع البدلة العسكرية، ماعدا بعض الحاجات الخاصة بالسّفر وحاجات أخرى ضدّ البرد. نحن لم نكن نعرف لماذا وجب علينا الضبّ. فالمرء لايملك لحظتها مايمكن أن يقول عنه: صحّ، المرء يرتجل لحظتها، ليصبح المغلوط ضرورياً، أمّا الضروري يصبح عندئذٍ الشيء الوحيد الصّحيح، ذلك فقط لأنّه متوفّر.
بعد أن جلبت أمي الغرامافون من حجرة الجلوس ووضعته على طاولة المطبخ، حوّلت صندوق الجرامافون إلى حقيبة بواسطة مفكّ البراغي. حيث قمت أولاً بفك قسم الحركة وصحن الاسطوانات ثم أغلقتُ ثقب التعشيقة بفلّينة. البطانة الداخلية بقيت في مكانها كما هي، مخملٌ أحمر بلون الثّعلب.
لم أفكَّ العلامة المثلّثة وعليها صورة الكلب، العلامة الموجودة أمام النفير والمكتوب عليها بالإنكليزية: هِز ماسترز فويس، صوت سيّده. وضعت على أرضيّة الحقيبة أربعة كتب: فاوست بجلده الكتّاني، زرادشت، فاين هيبِر ذي القطع الصغير ومجموعة مختارات شعرية من القرون الثمانية الأخيرة. لم آخذ معي أيّة رواية، فالرّواية يقرؤها المرء مرّة واحدة لا تعاد. فوق الكتب وضعت علبة الضروريات: زجاجة ماء حمام وزجاجة كولونيا وآلة حلاقة من نوع تارّ ومعجون حلاقة وماكينة حلاقة يدويّة وفرشاة حلاقة وحجر ألونيت وصابون غسيل لليدين ومقصّ أظافر. إلى جانب علبة الحاجات الضرورية وضعت زوج جوارب صوفية (بنيّ اللون ومرقّع)، زوج جوارب طويلة حتى الركبة وقميص فانيللا بالأبيض والأحمر وسروالين داخليين قصيرين من قماش مضلّع. فوق كلّ ذلك في الأعلى، وكي لايتجعّد من شدّة الضّغط، وضعت الشّال الحريريّ الجديد، ذلك الشال الأحمر النبيذيّ المخطّط من ذاته وبذاته والذي تراه مرّة لمّاعاً وفي الأخرى معتماً. هكذا امتلأت الحقيبة ليأتي دور الصرّة: بطّانيّة أخذتها من ديوان البيت (من الصّوف المخطّط بالبيج والأزرق الفاتح، رغم كبره فإنّه لا يدفيء). لففت في قلب البطّانيّة: معطفاً أغبر اللون (لونه من لون خلطة الفلفل والملح، مستهلك من كثرة الاستخدام) وزوج مشدّات جلدية (عتيقة جداً، من أيام الحرب العالمية الأولى، صفراء بطيخيّة ولها ربّاطات).
ثم جاء دور كيس الخبز: علبة لحم مملّح من فخذ الخنزير من ماركة سكانديا وأربع سندويتشات وبضع قطعٍ من بواقي كعك من عيد الميلاد ومطرة ماء عسكريّة مع كوب للشرب.
وضعت جدتي حقيبة الغرامافون والصرّة وكيس الخبز قرب الباب. متاعي ينتظر الآن جاهزاً قرب الباب لأن الشرطيين أعطياني منتصف الليل موعداً لسوقي.
بعد ذلك لبست ثيابي: سروالاً داخليّاً طويلاً وقميصاً من الفانيللا (بيج أخضر مخطّطاً) وسروالاً فضفاضاً (رماديّاً، كما قلتُ سابقاً، فقد حصلت عليه من عمّي إدوين)
وسترة قماشيّة بأكمام محبوكة على التريكو وزوج جوارب صوفيّة وزوج أَحذية خاصّة بالجبال. كان زوج القفازات الأخضر من عمتي فيني في متناول اليد على الطاولة. ربطت حذائي الجبليّ وفي ذات اللحظة تذكرت أمّي وهي ترتدي بدلة بحّار خاطتها بيديها، كان ذلك أيام العطلة في بيتنا الريفي وحديقتنا في الفينش. وخلال نزهة قمنا بها على المرج تركت أمي نفسها تسقط واقعة بين الأعشاب الطويلة كالميتة. يالهول المصيبة، لقد سقطت السماء في العشب. أغمضت عينيّ كي لا أرى الخوف وهو يبتلعني. وفجأةً نهضت أمي منتفضة وهزّتني وقالت: أنت تحبّني أليس كذلك، لا تخف، أنا مازلت حيّةً، انظر!
كنت قد ربطت حذائي الجبليّ وجلست على الطاولة أنتظر منتصف الليل. وجاء منتصف الليل، لكنّ الدورية تأخرت عنه. ثلاث ساعات كان عليها أن تمضي قبل أن تأتي تلك الدوريّة. وقت طويل يصعب على المرء لحظتها تحمّله. وقفت أمّي تحمل بيديها معطفي ذا الرباط المخمليّ الأسود، حيث دلفتُ فيه بمساعدتها. بكت أمي حين لبست قفازاتي الخضر. وهناك، على المدخل الخشبي تماماً، حيث عدّاد الغاز، قالت جدتي: أنا أعرف أنك ستعود.
حفظت هذه الجملة عن ظهر قلب دون قصد مني، وأخذتها معي دون انتباه إلى المعسكر. فأنا لم أدرِ يومها أن هذه الجملة سترافقني. لقد كانت جملةً ذات شخصيّة مستقلّة، عملت وعلّمت فيّ مالم تستطعه كلّ الكتب التي حملتها. «أنا أعرف أنك ستعود» صارت رفيقةً لرفش القلب و غريمَ ملاك الجوع. ولأنني عدّت فعلاً فإنه يحقّ لي أن أقول: مثل هذه الجمل تعينك على البقاء حياً. لقد كانت الساعة الثالثة من ليل الخامس عشر من كانون الثاني، يناير للعام 1945، عندما حملتني الدوريّة معها، وكان البرد هو السيّد يومها، فقد انخفضت درجة الحرارة حتى الخامسة عشرة تحت الصفر.
حملتنا سيارة شاحنة في مقطورتها المغطاة عبر المدينة الخالية وأنزلتنا في صالة المعارض، وهي صالة خاصة باحتفالات الساكسونيين وحوّلوها الآن إلى نقطة تجمّع. لقد تزاحم بداخلها حوالي ثلاثمئة بشريّ. على الأرض تكوّمت حصائر النوم وأكياس القشّ، كما استمر قدوم السيارات من القرى المجاورة مفرغةً حمولاتها من البشر، ليصبح عدد المساقين في الصباح حوالي الخمسمئة. ورغم أنّ الضوء كان مشتعلاً طوال الليل، لم يكن إحصاء الناس كلّهم ممكناً، فأنت لا ترى الجميع، فالجميع يدور في المكان باحثاً عن معارفه. لقد سمعنا أنه تمّ تجنيد نجارين لتشييد عرباتٍ خشبية جديدة مثل تلك التي تنقل فيها الحيوانات. كما تم تجنيد عمال آخرين لبناء مدافئ أسطوانية في العربات، وآخرين لفتح ثقوب المراحيض في أرضياتها. كانت الأحاديث تدور بلا توقف بأعين نصف مفتوحة. أعين تضغط مخرجة دمعها الغزير بهدوء. كانت رائحة الهواء تذكرك برائحة الصوف العتيق، رائحة الخوف العرقان واللحم المشويّ ذي الدّهن الكثير، بل برائحة كعك الفانيللا والخمر. خلعت إحدى النساء منديلها، وهي امرأة قرويّة بلا شكّ، كانت قد ضفرت شعرها في جديلة على خلفية رأسها ثم طوتها مرتين وثبتتها في المنتصف مرفوعة بمشط عاجيّ نصف منحنٍ. كانت أسنان المشط العاجيّ تختفي في شعر الجديلة ومن طرفه المنحني تبرز زاويتان كأذنين صغيرتين محدبتين. وهكذا بدت خلفية رأس المرأة بجديلتها السميكة وأذني المشط مثل قطّة جالسة. أمّا أنا فجلست أتفرّج بين الأرجل الواقفة وأكوام الأمتعة المكدّسة، وخدّرني النعاس بضع دقائق وأخذني الحلم:
في الحلم رأيت أمّي معي في المقبرة، كنّا واقفين أمام قبر جديد. في وسط القبر تماماً تنمو نبتة متوسطة الطول مثلي ولها أوراق كالفرو. على ساقها توجد ثمرة على شكل كبسولة لها مقبض جلديّ مثل حقيبة صغيرة.
الكبسولة مفتوحة بعرض إصبع ومحشوة بمخمل أحمر كجلد الثعلب. نحن لا نعرف من مات. تقول أمي: خذ الطبشورة من جيب المعطف. وأقول أنا: ليس لدي طبشورة. وعندما أدسّ يدي في جيبي أجد فيها فعلاً قطعة طبشور من النوع الذي يستعمله الخيّاطون. فتقول أمي: يجب علينا كتابة اسم قصير على الحقيبة، ليكن روت، فنحن لا نعرف أحداً بهذا الاسم. وأكتب أنا: روت.
لقد كان واضحاً في الحلم أنني متّ، ولكنني لم أكن أريد أن أقول لأمي ذلك الآن. انتفضت واقفاً لأن رجلاً مسنّاً في يده مظلّة مطريّة جلس فجأةً إلى جانبي على كيس القشّ ووشوش في أذني: سوف يأتي صهري أيضاً، ولكنّ الصّالة محاطةٌ بالحرّاس من كل جهاتها. لن يسمحوا له الدّخول. نحن مازلنا في المدينة وهو لا يستطيع المجيء لا إلى هنا ولا إلى البيت. على كلّ زرّ فضيّ من أزرار سترته طار طيرٌ، وكان الطير إمّا بطةً أو قطرساً، والصليب الظّاهر على خيال صدره تحت القميص رأيته مرساةً حين انحنيت أمامه أكثر، أمّا المظلة فقد وقفت كعصا نزهةٍ بيني وبينه. سألته: هل ستأخذها معك، ردّ عليّ: هناك يسقط ثلجٌ كثير، أكثر حتى من هنا.
كانوا قد أخبرونا متى وكيف علينا الخروج من صالة التجمّع إلى محطة القطار، بل متى وكيف يسمح لنا بالخروج من الصالة، فأنا أردت أن تبدأ الرحلة إلى الروس أخيراً ولو كانت بعربات نقل الحيوانات، ولو كانت مصحوبةً بصندوق الغرامافون وكل هذه الصرر في الرقبة. لم أعد أدري كيف وصلنا إلى المحطة. كانت عربات نقل الحيوانات عالية، ونسيت الطريقة التي صعدنا بها إلى تلك العربات، فقد سافرنا أياماً وليالي طويلة، وكأننا كنّا فيها طوال حياتنا، كما أنني لم أعد أتذكّر المدّة التي استغرقتها رحلتنا.
كان رأيي أن السّفر الطويل ارتحال بعيد. فطالما استمرّ، لن يصيبك سوء. أي مادمنا على سفر، فإنّ الأمر على مايرام.
رجال ونساء، شباب وكهول بأمتعتهم على الطرف الأمامي للمقطورة. دردشة وصمت، أكل ونوم وزجاجات خمر تدور عليهم صفّاً صفّاً. وحين بدأ السفر يصبح عادةً، بدأت هنا وهناك محاولات فرفشة، فقد صاروا يرون واقعهم بعين ويهربون منه بالأخرى.
جلست قرب ترودي بيليكان وقلت: أنا أشعر وكأني في نزهة تزلّج في جبال الكاربات على عرزال بوليا، في الموضع الذي ابتلع فيه أحد الانهيارات الجليدية نصفَ صفٍّ من المدرسة الثانوية. هذا لن يحدث معنا، قالت هي، فنحن لم نأخذ معنا أيّة أداة من أدوات التزلّج. بصندوق غرامافون تستطيع أن تركب، أن تركب عبر النهار وعبر الليل. أنت تعرف ريلكه بالتأكيد، قالت ترودي بيليكان، وهي ترتدي معطفها الجرسيّ الشكل ومانشيتات الفرو الممتدة حتى الكوع. مانشيتات من الشَّعر البنيّ وكأنها ترتدي نصفي كلبٍ صغير، لتدخل أحياناً يديها بشكل متعاكس فوق بعضها البعض في أكمام المعطف ويصبح نصفا الكلب كلبين مكتملين. لم أرَ البادية قبل ذلك في حياتي، لو رأيتها لفكّرت هذه اللحظة بكلاب الأرض. كانت رائحة ترودي بيليكان كلّها، حتى رائحة فمها من رائحة السفرجل الساخن، سفرجل هيمنت رائحته على هواءٍ كهواء عربة قطار خاصة بنقل الحيوانات وحتّى اليوم الثالث والرابع من الرحلة. كانت تجلس في معطفها كسيّدة تأخذ الترامواي في طريقها إلى مكتبها، وحكت لي: اختبأت عن أنظار الدّوريات أربعة أيام متواصلة في حفرة في حديقة الجيران خلف الخمّ. غير أن الثلج أتى وأصبحت الخطوات مرئيةً بين البيت والحفرة. ولم تستطع أمّها بعد ذلك أن تأتي لها بالطعام سرّاً. لقد كان بإمكان كل إنسان أن يتتبع أثر أقدامها فوق الثلج في كامل الحديقة ويقرأها.
لقد وشى الثلج بها، لتخرجً طائعةً وبملء إرادتها من المخبأ، فالثلج أجبرها على الخروج باختيارها. لن أغفر للثلج فعلته مادمت حية، قالت هي. لا يمكن محاكاة الثلج الطريّ، الثلج لايمكن رتقه، ليبدو وكأنه غير ممسوس. يمكن إعادة ترتيب التربة، قالت ترودي، والرملَ أيضاً، حتى العشب يمكن إصلاحه، إذا مااجتهد المرء في ذلك. الماء يعيد تشكيل نفسه بنفسه، لأنه يبتلع كل شيء ثم ينغلق على نفسه بعد البلع فوراً. أما الهواء فلا يؤذي تشكيلته شيء، لأن طبيعته هكذا والإنسان لا يستطيع رؤيته. كل شيء كان يمكن أن يسكت إلا الثلج، قالت ترودي بيليكان. أن يكون الثلج هو المذنب الرئيسي، وأن يسقط في المدينة وكأنه كان يعرف أين هو، وكأنه كان يستضيف نفسه في بيته، وأن يضع نفسه فوراً في خدمة الروس، فذلك يعني أني هنا بسبب غدر الثلج بي، قالت ترودي بيليكان.
سافر القطار بنا اثني عشر أو أربعة عشر يوماً دون توقف، ساعات لاتحصى. بعدها توقف القطار ساعات أخرى أيضاً لا تحصى، دون سفر. لم نكن نعرف أين كنّا نقف، إلا إذا استطاع أحد من الطوابق العليا للقاطرة أن يقرأ لافتة المحطة عبر شرم النافذة الصغيرة التي تفتح للأعلى: بوتسيو. في المدفأة الإسطوانية كسبطانة مدفع والمنصوبة في وسط العربة كانت النار تتّقد بصوت مسموع وزجاجات الخمر تدور، والكلّ يتمايل باضطراب، البعض من تأثير المشروب والبعض الآخر من شدة القلق، أو من كليهما معاً.
ماذا يمكن أن تخبيء كلمات مثل «اقتاده الرّوس»، ذلك مادار في خلد البعض، دوراناً لم يصل إلى الوجدان: يمكنكم نصبنا على الحائط فور وصولنا، أما الآن فمازلنا مسافرين. وبما أنهم لم ينصبونا حتى الآن على حيطان رميِنا، كما كنا نعرف من الدعاية النازيّة في الوطن، فنحن تقريباً بلا هموم.
تعلّم الرجال في عربة القطار الخاصة بنقل الحيوانات أن يشربوا حتى الازرقاق. أما النساء فقد تعلمن أن يغنين للزرقة:
في الغابة تزهر وُريْدة الحجر
وفي الحفر مازال الثلج يقبع
هذه التي كتبتها لي
رسالتك الصغيرة توجعني
دائماً نفس الأغنية، لدرجة أن المرء لم يعد يعرف، إذا كنّ فعلاً يغنين أم لا، فقد صار الهواء يغني. والأغنية تترجرج في رأس واحدهم ثم تكيّف نفسها متناغمة مع السفر ? إنها مقطوعة بلوز خاصة بعربات نقل الحيوانات، إنها أغنية الكيلومتر الخاصة بالزمن المرتمي في عجلة الحركة. لقد أصبحت أطول أغنية سمعتها في حياتي، بقيت النسوة يغنينها خمس سنوات طوال، ليجعلن منها نحن، أغنيةً مريضةً بالحنين إلى الوطن.
كان باب العربة مغلقاً من الخارج بالشّمع الأحمر. لم يفتح إلا أربع مرات. كان باباً جرّاراً يسير على عجلات، وكنا مازلنا على الأراضي الرومانية. رموا لنا في العربة مرتين خلال الرحلة بنصف عنزة مسلوخة، تمّ نشرها طولياً في وسطها. كان نصف العنزة يابساً من شدة تجمّده. وكان حين يرمى ويرتطمُ بالأرض يحدث ضجّة قوية. لقد خلنا أوّل نصف عنزة رموه لنا قطعة حطب للحرق. وهكذا قطعناها وأطعمناها للمدفأة. كانت ناشفة لدرجة أننا حين حرقناها لم نشتم لها رائحة، فقد كان احتراقها كاملاً. أما العنزة الثانية فقد دوت في رؤوس الجمع مثل كلمة بسطرما، اللحم المجفف في الهواء من أجل الأكل. وضحينا أيضاً بعنزتنا الثانية وضحكنا. فقد كانت يابسة ومزرقّة مثل الأولى تماماًَ، هيكلاً عظمياً من أجل تخويف الآخرين. ضحكنا قبل الأوان وكنا مغرورين حين أعرضنا عن العنزتين اللتين تصدّق بهما الرومانيون.
وهكذا نمت الإلفة وازدادت مع الوقت، وحدثت في هذا الحشر من البشر أشياء صغيرة مثل القعود والوقوف، تنبيش الحقائب وترتيب الأغراض ووضعها في أمكنتها، الذهاب إلى المرحاض خلف ملحفتين مرفوعتين على أعمدة.
كلّ صغيرة كانت تجرّ وراءها صغيرة أخرى، ففي عربة نقل الحيوانات يضمرُ كلُّ خُلقٍ، لأن المرء موجود مع الآخرين أكثر مما هو مع نفسه. لم تكن مراعاة الآخرين ضروريّة، فقد كنا نعتمد على بعضنا كما يعتمد المرء على أفراد عائلته. ربما أتكلم عن نفسي، عندما أقول هذا الآن. أو قد ينطبق ذلك أيضاً على غير نفسي، فربّما روضني الضيق في عربة نقل الحيوانات. أنا من الذين كانوا يريدون الرحيل بكلّ حالاته، ومازال في حقيبتي مايكفي من الطعام. نحن لم نكن ندري كيف سينقضُّ علينا الجوع الوحشيّ مرّةً واحدة ونصبح يابسين مثل تلك العنزات الزرقاء اليابسة التي قذفوها إلينا أثناء ترحيلنا، وكم تحسّرنا على ذلك اليباس حين كان يهاجمنا ملاك الجوع في سنواتنا الخمس القادمة.
صرنا الآن في الليل الروسي وصارت رومانيا خلفنا، إذ شعرنا بخبطات قوية في توقفنا الذي استمر ساعات وبدّلت خلاله العجلات على محاور العربات استعداداً للسير على سكّة الحديد الروسية الأكثر عرضاً، والمتناسبة مع وسع البادية. كثرة الثلج أنارت ليل الخارج حين توقفنا للمرة الثالثة في فراغ حقلٍ وسط تلك البادية. كان جنود الحراسة الروس يصرخون أوبورنايا، لتفتح أبواب كلّ العربات، ونتدحرج وراء بعضنا البعض على أرض ثلجية أكثر انخفاضاً وتنغمس أرجلنا في الثلج حتى باطن الركب. لقد أدركنا قبل أن نفهم أن كلمة أوبورنايا تعني الذهاب الجماعيّ إلى التواليت. فوق وعلى ارتفاع كبير جداً، ابتسم القمر دائري المحيّا، وبخار تنفسنا يتطاير أمام وجوهنا متلألئاً كالثلج الذي تحت أقدامنا، ومن حولنا البنادق الآلية مصوبة علينا. ثم يأتي الأمر: نزّل بنطالك!
هذا الموقف المخزي، وخجل العالم أجمع. لكنّ الحظّ في اللاحظّ أن تكون تلك البرية الثلجية هي الشاهد والمرافق الوحيد لك في تلك المأساة، وأنّ لا أحد غيرها كان يتفرّج عليك حين أكرهتك تلك البريّة ذاتها على الاصطفاف مع آخرين في رتلٍ لفعل الشيء نفسه. لم يكن بي حاجة للتبرّزِ، لكنّي أنزلت بنطالي وجلست القرفصاء كما فعل الجميع.
ما أخسّ بريّة هذا الليل وأهدأها، وكيف سخرت منا في قضاء حاجتنا! كيف وقفت ترودي بيليكان على يساري رافعة أطراف معطفها ذي القصّة الجرسية على كتفيها منزّلةً سروالها حتى الركبتين، كيف وصوص هذا الساقط مابين فردتي حذائها. وكيف كان المحامي باول غاست خلفي يظغط متأوهاً وأمعاء زوجته جودرون غاست تنقّ كالضفادع من شدة الإسهال. وكيف تجمّد فوراً بخار الخراء الحار متلألئاً في الهواء كالطاعون. كيف لقنتنا هذه الأرض الثلجية هذا العلاج العنيف وتركتنا وحيدين بمؤخرات عارية في معمعة ضجيج أجزائنا السفلية. ما أحقر ماصارت إليه أحشاؤنا في ذلك العرض الجماعي.
ربما نضج الذعر فيّ، فلست أنا الذي نضج في ذلك الليل. ربما لا يتّحدُ الناس بشكل حقيقي إلا هكذا. لأنّا حين قضينا حاجتنا أدرنا وجوهنا، جميعنا وبلا استثناء وبشكل أوتوماتيكي، باتجاه جسر سكة الحديد. كلّنا وضع القمر خلف ظهره، كي يبقى باب عربة نقل الحيوانات أمام ناظرنا، فقد صرنا بحاجة لذلك الباب، كحاجة المرء لباب غرفته التي يعيش فيها. لقد عصف بنا خوف مجنون، أن ينغلق الباب ونحن خارجه ويسافر القطار من دوننا.
كان بيننا واحد راح يصرخ في وسع الليل: ها هو هنا، الشعب الساكسوني الخريان، كلّه في كومة واحدة. عندما يسري الماء ساقطاً بغديره نحو القاع، فإن الغدير لايسقط وحده. أليس صحيحاً أنّكم بأجمعكم تحبون الحياة كثيراً. كان يضحك فارغاً كبرميل تنك. وتزحزح الجميع قليلاً مبتعداً عنه، ليعطيه محلاّ للجلوس. بعدها انحنى إجلالاً أمامنا مثل ممثّل على الخشبة، مردداً بصوت عالٍ وجاد: أليس صحيحاً؟ بالطبع أنتم تحبون الحياة.
كان في صوته صدى. جهش بعضنا بالبكاء وكان الهواء بلوريّاً ووجه الرجل يغطس في الوهم واللعاب على صدر سترته يتجمد، حيث رأيت طبعة صدره تحت القميص. لقد كان هو الرجل صاحب أزرار طائر القطرس. بعدها قام ووقف وحيداً وشهق باكياً بصوت طفوليّ، حيث لم يبق بجانبه سوى ذلك الثلج الملوّث، أما خلفه فكان العالم المتجمد بقمره المعتم مثل صورة شعاعية.
أطلقت القاطرة صفرتها الوحيدة العميقة. هذا الأوووه العميق الذي كنت قد سمعته في مرّة سابقة. كلّ ركض مسرعاً إلى باب عربته، صعدنا وتابعنا السفر.
كنت سأتعرف على ذلك الرجل ثانيةً حتى لو لم أر طبعة صدره، فأنا لم أره في المعسكر أبداً.
الملوخيّة
لا شيء بين الأشياء التي حصلنا عليها في المعسكر له أزرار. فللقمصان والسراويل الداخلية رباطتان تعقد بهما. أما مخدة النوم فتحمل رباطتين مضاعفتين. ومخدّة نومنا كانت فقط في الليل مخدّةً للنوم، أما في النهار فتتحول إلى كيس كتانيّ نحمله معنا في قضاء كل حاجة، كالشحادة والسرقة.
كنا نمارس السرقة قبل العمل وخلاله وبعده، أما في الشحادة فلم نكن نسرق، فالشحادة بيعٌ بالتجوال من بيت إلى بيت أو ماكنّا نطلق عليه التبييت ? سرقة جارنا في البرّاكة كانت ممنوعة - ليس سرقةً ماكنا نفعله على منحدرات الكتل الردميّة في طريقنا إلى البيت بعد العمل، حيث كنّا نقطف العشب لنملأ به أكياس مخدّاتنا. وفي شهر آذار استطاعت النسوة أن تعرف عن طريق سكّان القرية أن هذا العشب ذا الأوراق المسنّنة يسمى لوبوديه، وأنهم يأكلونه في الربيع في بيوتهم كسبانخ برية، وأنّ اسمه ميلدي كراوت، أي ملوخية. كما كنّا نقطف عشباً آخر أيضاً اسمه الشبت، وهو نبات ذو أوراق لها ريش. كان أهمّ مافي الأمر أن يكون لديك ملح، وهو من المواد التي تحصل عليها في البازار بالمقايضة. كان للملح شكل رماديٌ وكان خشناً مثل شقف الزّلط، ويجب طحنه بدقّه قبل استخدامه، كان الملح لا يقدر بثمن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.