لقد بينا في مقالات سابقة التدفق الإنتاجي الذي عرفته الرواية العربية مع مطلع الألفية الثالثة، وسحبها البساط من تحت الشعر الذي تهاوى مرغما من على عرشه فاستحقت الرواية أن تكون (ديوان العرب) في الفترة المعاصرة ... كما بينا التنوع في طريقة الكتابة، وشكل وبناء النص الروائي المعاصر، وكيف تم تجاوز طرق وأساليب الرواية الكلاسيكية والرومانسية إلى طرق تجريبية غير معهودة في روايتنا العربية على حداثتها، وكتعبير عن الواقع العربي المتشظي والذي انقلبت فيه القيم، وتحطمت فيه الأحلام، وانفصلت عرى العلاقات الإنسانية، وكثرت فيه المآسي والانكسارات ففقدنا كل معاني الإحساس ولم يعد القتل والتنكيل بالأفراد والجماعات والدول يحرك مشاعرنا... كتعبير عن هذا الواقع المسخ التجأ بعض كتاب الرواية المعاصرة إلى الغرائبية والعجائبية عساها تكون قادرة عن تقديم صورة على مسخ واقعنا العربي... وبعد ما كتبناه عن الواقعية الغرائبية في رواية فرانكشتاين في بغداد عقب تتويجها بالبوكر لهذه السنة نحاول اليوم مقاربة الغرائبية في رواية أخرى لأحد كتاب الرواية الشباب إنها رواية (ضريح أبي ) للروائي المصري طارق إمام وهي آخر أعمال هذا الروائي الشاب (من مواليد غشت 1977) الذي صدرت له عدة مجموعات قصصية وفاز بعدة جوائز مصرية وعربية كما له عدة أعمال روايات أهمها: • شريعة القطة – الصادرة عن دار ميريت - القاهرة - 2003 • هدوء القتلة – عن نفس الدار سنة - 2007 • الأرملة تكتب الخطابات سراً الصادرة عن دار العين - القاهرة - 2009 • الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس عن نفس الدار سنة 2012 و كان آخر هذه الروايات رواية ضريح أبي صدرت سنة 2013 عن دار العين في 191 صفحة من الحجم المتوسط موزعة على فصول متفاوتة الحجم فكان بناؤها على الشكل التالي: o - عتبة من ص 11 إلى ص16 o - مدن الآخرة من ص 17 إلى ص 71 o - حيوات الرجل الميت من ص 73 إلى ص 102 o - الطريق من ص 103 إلى ص 174 o - في مملكة الظلال من ص 174 إلى ص 182 o - الوصول من ص 183 إلى 192 الرواية من عتباتها ومداخلها الخارجية تعلن عن تصنيفها وتعفي القارئ متاعب البحث في إشكالية تجنيس الرواية، فبالإضافة إلى الغلاف الأمامي المتضمن للوحة رمادية يعلوها جسد طائر بأجنحة تجتمع فيه ملامح الرجال (الشنب) والنساء ( الصدر، الورك، وتسريحة الشعر) والملوك( التاج على الرأس) الملائكة( الأجنحة) المجرمين ( السكين).... فقد ورد في الغلاف الخلفي نص منه: (ينسج "طارق إمام" في هذه الرواية عالماً عجائبياً، البطل والمحرك فيه وليٌ غامض يحيا داخل ضريحه، على خلفية مدينةٍ مصرية متخيلة، غريبة وموحشة. بعد موته بمئات السنين، ينجب الولي طفلاً من إحدى فقيرات المدينة.. يكبر الطفل ليجد نفسه ممزقاً بين قداسة أبيه وسطوته الروحية على الناس، وبين دنس أمه التي قُتلت في ظروف غامضة فور ولادته بعد اتهامها بإنجابه سفاحا... عبر هذا العالم العجائبي والكابوسي يعيد إمام طرح العديد من أسئلة الثقافة الشائكة في اللحظة الراهنة ، مقلبا تربة الواقع بمعول الخيال ... رواية تمتح من الخيال الشعبي المصري لتوظيفه في حكاية مبتكرة تتعدد طبقاتها لغويا وتقنيا بين أدبيات الحكي الشفاهي والحكاية الخرافية..) وهي عتبات وإن كانت حبلى بالإحالات الغرائبية فقد يعتقد القارئ أنها مجرد مؤشرات دعائية خارجية قد لا تكون لها علاقة مباشرة بمتن الرواية... لكن ما أن يقتحم القارئ الصفحات الأولى حتى يتفاجأ أن الرواية عالم من الغرائبية الغريبة كل ما فيها يحيل على عالم متخيل لا تسيجه حدود ولا يقبله عقل ومنطق... نحب أن نشير للقارئ الكريم أن مضمون هذه الرواية تكاد تكون له علاقة بمجموعة طارق إمام القصصية التي أصدرها قبل هذه الرواية بثلاث سنوات وهي مجموعته ( حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها) الصادرة سنة 2010. والمتوجة بجائزة ساوريس سنة 2011 ، ذلك أن (ضريح أبي ) تحكي عن ولي صالح له بركاته مات منذ مئات السنين يحيا داخل ضريحه ... مات ميتات كثيرة، عاش حيوات متعددة، وقد ورد في الرواية ما يؤكد هذه الإحالة على عنوان هذه المجموعة ويكفي أن نقدم مثالين من بداية الرواية ونهايتها : فقد ورد في البداية ( ظل يحلم في كل مرة بمدينة، يؤسس فيها بيتا في منامه،.. مات في كل المدن التي حلم بها ، الميتات كلها التي يمكن لأدمي أن يذوقها، ودفن. له في كل مدينة ضريح) . وورد نهاية الرواية في (ولأنه جرب الموت في أماكن كثيرة لم يعد يخشاه ، بل تمناه في وطنه ، لأنه شعر بالخجل أن يموت في كل البقاع ما عدا سريره) و قول السارد ( فكر في أن مدينة حلمه القادم يجب أن تشهد ميتته النهائية ) وكأننا أمام كاتب يحمل مشروعا يسعى تحقيقه في أعماله السردية القصيرة والطويلة.... ليبقى أسئلة من قبيل :هو ما الغريب في هذه الرواية؟ وما مظاهر العجائبية فيها؟؟ ولماذا لجأ إمام إلى كل تلك الغرائبية الجامحة؟ وإلى ما يرمز من وراء ذلك؟؟ تفرض نفسها على كل قارئ لهذه الرواية... إن قارئ رواية ضريح أبي يطالعه منذ السطور الأولى عالم من الغرائب : فالرواية تلقي بقارئ في السطر الأول في عالم المقابر ليجد نفسه أمام كائنات غريبة عجيبة ، بملامح مشوهة و( حيوانات غريبة خلقها هواء الموت المحكم: مسوخ سوداء لكلاب ذئبية نحيفة بلا آذان أو ذيول ، خطومها شديدة الطول ، كلها من الذكور ، لم يعرف الناس أبدا كيف يمكن لهذه المسوخ أحادية الجنس أن تتناسل ) ليطوح به السارد في عوالم لا يتسع لها عقل، يتسع فيها القبر الضيق المظلم، الذي يرقد فيه الأب ، لكل المتناقضات فتنطلق من عتمته الأغاني والرقصات والموسيقى والشطحات، ويكون سبب الموت وسبب الحياة، يقتص من المعتدين ويجازي المريدين المؤمنين ببركاته، يرزق من يشاء ذكورا ويهب من يشاء إناثا ويجعل من يشاء عقيما، تمكن من إنجاب (طفل هو سارد أحداث هذه القصة) بعد مئات السنين من وفاته... الناس في شأنه حيارى بين موته وحياته... فقد أجاب الشيخ حجاج يوما الطفل ليخفف من حيرته: ( لو كان مات فعلا ما تمكن من إنجابك بعد مئات السنين من رقاده ) ... هذا الميت الحي سيكون سببا في إنشاء مدينة غرائبية كانت المسوخ أقدم سكانها يقول السارد ( تكاد تكون المسوخ أقدم سكان مدينتنا بدأت في الظهور مثلما يقول المعمرون نقلا عن معمرين أسبق عقب موت أبي مباشرة ) ليتشكل أول جيل في المدينة، بعد بناء الضريح،(من قطيع من نساء عاقرات ، جئن مع أزواج مغلوبين على أمرهم من البلدات البعيدة داومن على زيارته طمعا في الإنجاب (وهو الذي مات دون أن ينجب) ونذرن النذور بأن الطفل المستحيل لو تحقق سيبقين على مقربة منه ... تحققت المعجزات تلو الأخرى انتفخت البطون بأبناء ، تمددت بيوت من طابق واحد لتفي بالنذور حتى تشكلت في النهاية مدينة صغيرة ) في هذه المدينة الغريبة تدور أحداث هذه الرواية العجائبية ، هذه المدينة التي ستتوسع لتصبح (كأنها تصل بين طرفي العالم ، فعندما تشرق الشمس فوق الضريح يكون الظلام قد خيم على الطرف الآخر ..) منها مدينةٌ الوقائعُ فيها مجرد أحلام ، والأحلام وقائع (كل حلم كان واقعا بالنسبة لحلم آخر وحلم في واقع ثالث، ليس ثمة زمن ولا وجود لذلك الخط المستقيم بين لحظتين) يعسر أحيانا التمييز في سكانها إذ يصادف القارئ، نساء لهن أضخم أعضاء تناسلية ذكرية يمكن تصورها (سرب المسترجلات اللائي يغوين الرجال بعروض خليعة، تنتهي بأسر قليلي الحذر ، يرون عند نزع السراويل في خيامهن أضخم أعضاء ذكرية يمكن تخيلها ، ويستسلمون مجبرين للتخلي عن رجولتهم ، وفي النهاية يخرجون بمؤخرات دامية تظل تتضخم حتى تنفجر) في هذه المدينة العجيبة تتفاعل قوى فاعلة غرائبية منهم من تُقْطع أعضاؤه وتعود إليه كما كانت ؛ مثلما حدث لقاطع طريق ( الشيخ حجاج ) الذي يتحول حارسا لصندوق النذور بالضريح بعد أن حاول سرقة محتوى الصندوق فقطعت يداه ولم تعودا إليه إلا (بعد أن جثى وتوسل) ومن يومها (لم يجد في نفسه رغبة لشيء إلا أن يسهر ما تقدم به العمر على حماية صندوق النذور ... ومثلما حصل مع الإسكافية التي فقدت ساقيها ونذرت عمرها لرتق نعال جنود الولي فتكون بجانبها جبل من النعال ما أن استرجعت ساقيها حتى اختفى جبل النعال ( في هذه اللحظة تبخر جبل النعال تماما ، ثم أخذت تركض بساقيها حتى اختفت ) بل وجدنا في الرواية رأسا دون جسد لا يعرف أحد من أين أتت يقول السارد (تدحرجت خلفي مثل كرة .. أغلب الظن أنها انحدرت من فوق جبل الكحل ...قطعت طرقا متعرجة محتملة الإهانة التي طالت ملامحها إلى أن استقرت بين قدمي ) وجعل هذه الرأس المبتورة تساهم في تطور و تغير مسار أحدات هذه الروائية الغرائبية منذ ( أن استقرت الرأس بين أقدام الأطفال في ساحة المقابر الترابية ) معتقدين أنها كرة سرعان ما انفضوا من حولها هاربين لما كلمتهم ، مرورا برحلتها الطويلة وتجولها في (الشوارع بين أقدام الناس طالبة المساعدة ) إلى أن وصلت للسارد الذي سيحملها لإسحاق بائع المعجزات، وعند تقديم الرأس المبتورة لإسحاق يلقى بالقارئ أمام شخصية أكثر غرابة:(كان إسحاق رجلا غريبا ممسوخا بحاجبين كثيفين مقلوبين تحت عينيه، له أنف بلا ثقوب ... لم يكن يأكل .. لا يعرف أحد كيف كان له أن يعيش كل هذا العمر دون أن يتناول طعاما) قدم المدينة بطريقة لا تقل عجائبية (عندما ظهر أول مرة ظنه الناس ملاكا فقد رآه الجميع يرفرف هابطا من بين السحب حتى إنه عندما اصطدم بالأرض كانت ندف تشبه القطن تغمر جسده العاري.. جسده قوي، قامته تتجاوز أسطح أعلى بيوت البلدة ...سقط في الساحة الرئيسية على مرأى من الجميع ...كان ينطق بعبارات تنتمي للغة غريبة لم يسمعوا بها من قبل خمنوا أنها لغة الملائكة) وكان مهنته أكثر عجائبية: بيع الوجوه يقول : ( جئت لأمنح الوجوه لمن يريدون تغيير وجوههم وليس لأحصل على مال ... المقابل الوحيد الذي سأحصل عليه من أي شخص يريد تغيير وجهه هو الحصول على وجهه الأصلي سأنزعه برقة دون ألم سأكشطه بنعومة دون نقطة دماء واحدة وأمنحه بدلا منه الوجه الذي يختاره بنفسه .. من هذه اللحظة لن يكون أحد منكم مجبرا على الحياة بوجه ورثه عن آبائه دون أن يختاره) فتقاطر عليه الزبناء من (أصحاب الملامح الذميمة والمشوهة والشائخة ، عجائز ذابلون ، مصابون بحرائق، مشوهون بفعل الحروب، أرامل وعانسات قبيحات، كان الشخص يختار الوجه الذي يروق له ويستسلم لبائع الوجوه الذي ينزع الوجه الأصلي ويضعه في القفص ليمنح صاحبه واحدا آخر) . الرواية إذن تعج بأحداث غرائبية لا يمكن تحقيقها سوى في بلاد العجائب !!! عجائب تجعل القارئ متشوقا لمعرفة ما سيحل بأصحاب الوجوه الجميلة المستعارة ... نهاية لم يكن أحد يتوقعها.. فما أن غير كل الوجوه واختفى عن الأنظار حتى (كانت الملامح قد بدأت تذوب على وجوه أصحابها لتتساقط تحت أرجلهم تاركة حواسهم للظلمة ... ومن حاول الانتقام منه انتهوا بالتحول لمسوخ غريبة من تلك التي يبيعها للغرباء الأثرياء الذين يأتون بسياراتهم الفارهة في أيام المولد بحثا عن معجزات يشترونها ) وعندما وصل البطل بالرأس المبتورة إلى إسحاق غسل شعرها ، نفض عنها التراب ... يقول السارد (بلهفة بدأ يخرج مئات الأجساد التي بلا رؤوس من أجولته ، وبينما أكاد أتهاوى من فوق مسخي من الرعب جربتها الرأس واحدا واحدا، لكنها لم تعثر على ضالتها في أي جسد) ، وبعدما أعياها البحث عن جسدها طلبت الرأس المبتورة من إسحاق بائع المعجزات قائلة: ( يمكنني أن أستعير جسدك لدقيقة واحدة ... حيث يمكن لأسناني أن تسقط بين يديك، وحيث يمكنني أن آمر قيودك بالذوبان) وعندما نزع رأسه بسلاسة ووضع الرأس المبتورة مكانها قال فمها ( إن هذا جسدي الذي ولدت به قبل ألف سنة ) ليكون السارد شاهدا على خدعة المرأة صاحبة الرأس لبائع المعجزات يقول الرأس بعد أن استوى على جثة إسحاق: (لقد تمنيت أن أكون بائع معجزات .. وفعلت كل ما يمكنني طيلة مئات السنين .. لكن كان لا بد من خداعك أنت حتى أكون أهلا لذلك .. لقد ضحيت بجسدي حتى أحصل على ما أريد وطفت الدنيا متدحرجا حتى أصل إليك... قال الرجل ذلك ليصير وجه امرأة ناعم مصقول ... شدت المرأة قبضتها على رأس بائع المعجزات المخدوع وبدأت لرحلة العودة إلى البلدة) هذه البلدة/ المدينة جيوشها من ورق جاءت المدينة امرأة من ورق (قائدة جيش من ورق بلا أبعاد مقصوصة بإتقان على هيئة آدمي )، فيها فقط يمكن للكائنات الورقية أن تصبح إنسانية للبشر أن يغدو كائنات ورقية: ( يوما بعد يوم عادت لأشلاء المرأة طبيعتها .. حتى جاء يوم صارت فيه المرأة الورقية مكتملة ... ليتحول الرجال إلى كائنات ورقية ، بينما تحول الأطفال المتطلعين لأعلى جميعهم إلى رجال مفتولين ... لتغادر البلدة إلى المعركة ومن خلفها الأطفال الأقوياء، تاركين خلفهم الرجال الذين من ورق) ومن الحكايات العجائبية في الرواية ما يرويه السارد ،وهو على مسخه يحمل الرأس المبتورة، نحو بائع المعجزات إذ صادف امرأة صندوق الدنيا وهي أول رجل يدخل المدينة حاملا صندوق الدنيا، سماه الناس شيطانا فمنذ قدومه (تنكر الشيطان عدة مرات وأتى البلدة متنزها في أقنعة؛ مرة كساحر يحول الأطفال في لحظة على رجال ....ومرة كبائع ورد يغوي السيدات بجماله فتمتلئ وجوههن بالأشواك وتحاط رؤوسهم بالأوراق التي تزهر وتذبل...) لتقف الرواية عند إحدى قصص( هذا الرجل المرأة الشيطان) الغرائبية (قصة القبلة) التي تحكي قصة فتاة كانت ترفض أن يقبلها حبيبها، وعند وفاتها طالبه أهاليها بتقبيلها قبلة الوداع فرفض فعل شيء لا تحبه حتى لا يقلق راحتها في موتها، وفي الليل زارته حبيبته وأخبرته أن قبلة منه كانت كافية لإعادتها للحياة .. تحكي المرأة (الرجل ) صاحب(ة) الصندوق كانت آخر مرة زار فيها الشيطان البلدة عندما طلب منها (وهي الشاب في قصة القبلة) أن تدله على الأماكن التي يمكنه زيارتها مقابل تحقيق ما يطلب فتحالف مع الشيطان قائلا(بشرط أن تنقل قبلتي لجثمان زوجتي التي رفضت تقبيلها بعد موتها ) تتابع (وفور أن أتم مهمته عرفت بالنبأ أن زوجتي عادت للحياة ، عادت لمن منحها القبلة .. للشيطان الذي تنكر في صورتي .. ولم ير الناس فرقا بين الشيطان وبيني ) وحتى الثقافة /القراءة/ الكتابة تحال على الغرائبية فنجد في نهاية الرواية العرافة تطلب من البطل نسخ مخطوط فارغ في مدة شهر ليعيد المخطوطين الأصلي والمخطوط بخطه، تقول له ( هذا المخطوط فيه حياتك وموتك . فإن لم تنجزه في موعده المطلوب وبالدقة المطلوبة فسيكون مصيرك الموت ) .. ليقف العقل عاجزا عن إدراك ما يدور في هذه الرواية وكيف تغدو لحظة كتابة السارد لذاته نفس لحظة محو الصفحات في الكتاب أو المخطوط المتوارث... وكانت الرواية في البداية قد توقفت عند قصة مخطوط (مدن الآخرة) الذي حول السارد من طفل إلى رجل يقول (حصلت على المخطوط المسمى مدن الآخرة في طقس خاشع داخل الضريح كأنه صلاة سرية، احتفالا بتحولي من طفل لرجل) كان لهذه المخطوط هالته (لم يكن أحد تجرأ على فتحه والتقليب فيه .. فعلت ذلك ، حيث فوجئت بأن صفحاته خالية من أية كلمة ... لكن شيخ الطريقة عندما رآني أقلب صفحاته وأغلقه على خوائه دون أن يذبل نور عيني صرخ الله أكبر .. لتشتعل التكبيرات من خلفه وليتراقص المجاذيب كالقرود . لم أكن أعرف أن تلك دلالة أكيدة على صحة بنوتي له فقد قالت النبوة أن ذلك المخطوط محظور على عيني أي آدمي إلا لو كان من صلبه) وفي هذه الرواية العجائبية تعيش كائنات غير مرئية، تفاعل معها البطل يقول في واحدة منها:( قفزت بخفة وأصبحت أمامي فوق المسخ الذي تأوه رغم أن جسدها كان بلا وزن ، طلبت مني أن أمسك بخصرها فأحكمت قبضتي على الهواء ...) هكذا يتحول المجرد إلى ملموس ، والملموس إلى مجرد، والمعنوي إلى موغل في المادية، فيتساوى الجنسان، ونجد المرأة رجلا والرجل امرأة، والعلاج سبب المرض ، ويتمكن الكحل الذي تزين به النساء إلى أداة تشوه جمالهن (في اليوم التالي استيقظت كل امرأة وضعت الكحل في عينيها بعين واحدة بيضاء في منتصف وجهها ، بلا حدقات، تسيل منها دموع حارقة على الدوام...) يبدو من خلال الرواية إذن أنها نسجت عالما غريبا شهد أحداثا عجيبة، وعلاقات غير مألوفة وحتى مشهد الولادة الطبيعي على قداسته يتحول مشهدا جنسيا رمزيا شديد التركيب وعصي على الفهم والإدراك، تجتمع فيه اللذة بالألم ، مشهد يرى فيه السارد لحظة ولادته ، فيلتقط لهذه اللحظة صورة غرائبية ، لنستمع إليه يصف ولادته يقول: (ما إن غادرني الحارس، وأغلقت الباب خلفه، حتى رأيت لحظة ولادتي. كنت أصرخ وأمي ترفع ساقيها، وتلفظني بكل القسوة الممكنة ..وإلى جوارها يرقد جثمان ضخم، ميت، كما كان دائما، حي، كما سيظل للأبد، يتنفس فيتلقي الناس زفيره ليعيدوا استنشاقه. من حولي أسيجة ضريح، .... أمي جميلة حتى أني اشتهيتها بينما أغادر فرجها أتردد في الخروج مثلما أتردد في العودة إلى داخلها مرة أخرى، وأظل على هذه الحال أتقدم خطوة إلى الأمام وخطوتين للخلف.. لقد كنت أضاجعها ، ها أنا أرى الآن... أسمع صراخها يتحول من صراخ ألم الولادة لصراخ اللذة ، يخطو من العذاب للمتعة حتى أنها بدأت تتحكم في جسدي تخرج به وتدخله كلانا يصرخ ...) أي غرائبية هذه وأي شيطان يوحي بمثل هذه الصور الغريبة التي تتمسرح في مكان لحظي يحظر كومضة زئبقية تنفلت قبل الإمساك بها: مدينة / بلدة أو قرية مصرية بدون ملامح تتمدد حينا لتصبح مدنا تسافر إليها وترتع فيها الأحلام لتشكل مرفولوجيتها الغريبة بحارا ،محيطات ،صحاري ،جبالا، سهول ... وتتقلص فتستحيل قبرا مظلما وضريحا أسطوريا تتسع في أقبيته جدران وتتعالى أسوار وجثامين تحيى ميتة ، وتموت حية فتتحول أيقونات تسكن النفس والعقل تجعل الفرد يؤمن بالغيب إيمان شاهد العيان ،فيتمتع بوجود شخوص يعيشون مئات بل آلاف السنين، وحين يموتون يبقون قادرين على الإنجاب، وحين تقطع رؤوسهم تبقى الرؤوس قادرة على الكلام والحياة وحتى إن تحولت جثامينهم إلى رماد كانت قادرة على أن تنبعث من رمادها هكذا ظل في النص الموتى فاعلين و مؤثرين على مسار الأحداث أكثر من الأحياء بهذه الغرائبية كأننا بطارق إمام - العاجز عن فهم ما يجري في البلاد العربية التي تتمرغ في صراعات لم نعد نعرف فيها القاتل من القتيل، والظالم من المظلوم، والحق من الباطل ... انعدم فيها الرجال فكانت المرأة سيدة الرواية وضيوفها الشرفيين بدءا من الأم الطاهرة/ الفاجرة ومرورا ب نعمة، وسبيل، و سيدة الكحل، ومن السيدة القائدة من ورق .. الرأس المبتورة لامرأة في صورة رجل .. إسحاق المرأة/ الرجل... في واقعنا العربي لم يعد هناك فرق بين الرجال والنساء والشياطين .. كلنا أصبحنا مسوخا لا عقل لها تحركها الغرائز وقوى غريبة بعيدة عن هذا الواقع ... لقد اختلطت الأوراق في فوضى خلاقة انعدم فيها الأمن فأصبح محكوم على المدينة أن ( تغلق شبابيكها بمجرد أن تغرب الشمس منذ مئات السنين عاقل في هذه المدينة المساء وجها لوجه من نافذته) . إنه استعمار من نوع آخر ، وحضر للتجول يمنع فيه على العربي الاستمتاع بالليل ففي (المساء تتفرق في أنحاء المدينة قطعان متفرقة من رعب داكن ، لتهاجم البيوت التي ترك أصحابها نوافذها وشرفاتها مفتوحة ، تحلق فجأة عابرة الهواء لتقفز عبر الفرجات بخفة الطيور تمد خطومها في أجساد الضحايا فتحولهم في لحظة إلى حفنات من التراب وتأتي النعوش في الصباح لتحمل التراب فوق الملاءات) دون أن تفرق هذه الحيوانات في ضحاياها فلم تكن(تعدم ضحايا مثاليين بين الحين والآخر ، هناك دائما رجل ترك شباكه مفتوحا أو امرأة نسيت نافذتها مشرعة ، هناك العجائز والحالمون وهناك أيضا الراغبون في الموت...) عفوا ليست هذه غرائبية في الرواية ، بل الغرائبية في الواقع والرواية تصوير حرفي لهذا الواقع الذي نعيشه والذي إذا أحوج ما يكون لنبي جديد يغسل الدين والسياسة والأخلاق ، ويحمي الإنسان العربي من طموحه الجامح في الانتقام من الذات ، أنساه أن هناك ربا يدبر .. ووحد كل المتناقضات في منظاره فلم يعد يميز الحلم واليقظة، بين الغيبي والحقيقي الواقعي، مابين الموت والحياة، فانعكس ذلك على الإبداع فكانت هذه العوالم الروائية تبعث على الخروج من أسر التقنيات التقليدية، وتفتح نوعا آخر من الجماليات المجاوزة، تدفع بالتجديد إلى أقصى حدوده ، وبالإبداع إلى أبعد نهاياته، رافضة النمطية عسا التمرد على المعتاد يكسر طقوس رتابة الواقع الفكري والثقافي. ليست غرائبية أن تظهر الكائنات المسخ، والأجساد التي بلا رؤوس ولا عقول، بائع الوجوه الذي يبدل الوجوه القبيحة وتمحي الملامح المزيفة، ففي المجتمع العربي نصادف ما هو أغرب لتكون بذلك هذه كائنات والمسوخ مؤشرات غرائبية على تحولات المجتمع الذي تهشمت قيمه الأساسية، وغدا العنف والقتل والاغتصاب عملته الأكثر رواجا ومهما أوغلت أية رواية في غرائبيتها فأنها بالأكيد تكون دون حجم القبح، العنف، السوء، الرعب ،الخراب، الخوف، الضياع ، .. المستشري في واقعنا.....