اعتمد عبد العزيز الراشدي في بناء عالمه القصصي في مجموعة «وجع الرمال» على فضاءات متعددة و مختلفة من حيث الطبيعة والدلالة الرمزية، و أهم الأمكنة التي تستوقف قارئ المجموعة: * فضاء البيت /الدار: يمثل فضاء البيت/الدار، جزءا صغيرا من الفضاء اللانهائي استقطعه الإنسان ليتلاءم مع حجمه أو يرضي حاجته للخلوة، ويحقق له الدفء والألفة و الحماية. وفي مجموعة (وجع الرمال)، يتخذ فضاء الدار/البيت صورتين: الأولى سلبية، تجعل روح بطل قصة «البحث عن زمن آخر» مطوقة برهبة غريبة (ص 16) رهبة تبعثها طبيعة الطقوس والأفعال التي تمارس داخل الفضاء: طقوس الخرافة والشعوذة التي تجعل الأيام مفتوحة «على احتمالات كثيرة: عوانس يدفعن لقاء زوج المخيلة، رجال خذلتهم الليلة الأولى، عجائز يبحثن عن ثأر قديم و أشياء أخرى» (ص16). إن الرهبة التي استشعرها البطل لا تعود فقط إلى ما يمارس داخل البيت، بل حتى إلى شكله الخارجي حيث يبدو «الباب من بعيد صلبا و صارما على جنباته توزعت المسامير» (ص16)، وكذا شكله الداخلي حيث «الجدار المزدان بالكتابات المبهمة، القناني المليئة بالأعشاب والبخور والقنافذ المحنطة، وصورته المزركشة ببقع الذباب «(ص17). وفي نص (عزلة الكائن) يتخذ فضاء البيت صورة غير بعيدة عن السابقة، حيث المرأة العجوز و طبيعة الحياة التي تحياها شكلتا «وطنا للأسرار» (ص42) تتناسل فيه الأسئلة و تتناسل حوله الحكايات الغريبة التي ترغّب و ترهّب الأطفال. وقد ارتبط هذا الفضاء في التصور المشكل عنه من طرف الآخرين بالجن، مما يحول دون اقتحام الأطفال له رغم رغباتهم الجامحة. و بذلك شكل هذا الفضاء - كسابقه- فضاء معاديا بتعبير باشلار، يشن على الشخصيات حربا استنزافية. و طابع العداء/المعاداة الذي يتخذه فضاء البيت لا يعود إلى الإنسان و حسب، بل حتى الطبيعة القاسية (الجنوب المغربي) تساهم في ممارسة القهر و تزيد من القتامة «حيث تسودّ الصورة بفعل الظلمة، وتتحول الغرف وزريبة البهائم ومكان جمع الحطب إلى فضاءات مليئة بالعقارب» (ص37) التي تغتصب الأجساد الغضة و تؤلم القلوب المكلومة. الثانية إيجابية، تجعل العجوز تحس إحساسا حميميا بتعبير باشلار تجاه الفضاء الذي تقطنه، لأنه يرتبط عندها بالأحلام والخيال كتعويض عن الحرمان والقهر. ففي «فراشها يتثاءب إحساس بلذة الحرارة، تهطل ذكرياتها كغيث لا ينبض... تحلم بأيام الحصاد القديمة... والبسمة ذات المغزى التي يطلقها الحاج علال... وتكبح أملا قديما بعودة مفترضة» (ص44). ونجد مثل هذا الحلم في فضاء آخر في نص (ولائم الجنوب)، حيث «يأوي الرجال إلى أجساد نسائهم يحلمون بالصيف رغم قسوته» (ص56). إن فضاء البيت في قصص الراشدي، بقدر ما يشكل عالم و جوهر وجود الشخصيات (الإنسان) فيه تحلم وتسعد،بقدر ما يشكل فضاء معاديا يمارس حرب استنزاف على شخصيات أخرى كاشفا بذلك عن تعدد وغنى رمزيته. * فضاء الزقاق: يمثل فضاء الزقاق في نص «زقاق الموتى» بؤرة السرد القصصي. وإذا كان «الزقاق» فضاء مفتوحا على الانطلاق والحرية، وجسرا يربط عالم البيت/الدار/ القصر بالعالم الأكثر انفتاحا و امتدادا، فإنه عند عبد العزيز الراشدي فضاء خارق مليء بالموت، وأشباح الموتى، ويكتسي حلة بيضاء تستطيع أن تبدد ظلام الليل «كل شيء في زقاق الموتى في حلكة الليل أبيض» (ص27). إن سطوة الموت وبطشه يقهران حتى التعاويذ والطقوس الخرافية المتجدرة في البلدة «رشو الحليب في كل مكان، تحركت فيه... ما عدت أستطيع شرب الحليب لأنه يذكرني بجسمها الرخو» (ص28). ويتخذ الزقاق عند القاص الراشدي طابعا رمزيا أكثر عمقا عندما يصيررمزا للحياة بكل تناقضاتها و متاعبها:» الحياة بالضبط هي زقاق الموتى» (ص30). حيث ينتشر الموت في كل مكان و حيث الحياة تنزع بكلابها أضراس الناس،كما يقول السارد. ويشكل فضاء الزقاق مثيرا خارجيا لاستحضار الذاكرة و الماضي (الزمن) كوسيلة للتخلص من القهر والبطش. هكذا تحضر صور الطفولة في الزقاق نفسه، وتحضر صورة البيت باعتباره صورة أخرى للرحم في محاولة للتغلب على الموت و بشاعته. لكن كل المحاولات تذهب سدى « لأن الزقاق دوما كالسابق»، «و لأن الانحراف إلى البيت ينتهي إلى التعثر و التدحرج» . (ص30/31). إن فضاء الزقاق وما يثيره من تداعيات أحلام تجعله أكثر ارتباطا بما يسميه ميخائيل باختين بالفضاء العتبة، حيث الأفكار والمواقف والأشخاص الذين يعيشون بين/بين. * فضاء القرية: كثيرا ما يحضر فضاء القرية -عند المثقف و غيره- باعتباره فضاء مناقضا لفضاء المدينة. والقرية في حضورها هذا كثيرا ما تتزين بثياب الفضيلة والنقاء والعفة والطهارة... وهو بالضبط ما توهمته إحدى شخصيات قصة»ولائم الجنوب» العائدة من فرنسا للبحث عن «بنت البلاد» لتكون زوجة خالية من دنس الحضارة. وهي في بحثها ذاك تكون كأن لم تغادر القرية قط، ولم تطور فكرها أو تجربتها أو تعرف أن «فتيات القرية في تطور مستمر ربما بسبب التلفاز والفيديو كليب...» (ص56). ومن سخرية القدر أن تلك الشخصية ومعها الشخصيات الأخرى- لن تكتشف ما حدث في القرية من تطورات قيمية إلا يوم العرس، عندما انفرد بالعروس و انفردت به شاعر تائه دخل غرفتها صدفة: «وعند الباب رأيتها كحلم، كما لم أرها قبلا، جاهزة مقشرة كموزة، ترفل في الأبيض كملاك... وأردت الاعتذار أو الهرب، لكنها أوقفتني أمسكت يدي فأحسستني طفلا صغيرا، أجلستني قربها و قبلتني» (ص56) وكان ما كان. هذه التحولات في عالم القرية تحولات خادعة لأنها لا تستطيع أن تقف أمام جحافل البداوة المتأصلة في أعماق البدو، سكان القرية الذين خرجوا يتعقبون الجاني و دليل تهمتهم كتابه وأوراقه. ورغم كونه «لا يمثل سوى فكرة خرقاء» فقد تعقبوه متوغلين في «الحقول كلما أطفأت الريح مشاعلهم، أوقدوا بدلها الأحقاد» (ص 56). * القبة الضريح: ترتبط الأضرحة وقببها في المخيال الشعبي بالبركة والقداسة والكرامة... ومن الباحثين (سيزا قاسم) من يعتبر المكان نظاما اجتماعيا اقتصاديا عاطفيا، ينتظم العلاقات البشرية جميعها. وفضاء الضريح/القبة في مجموعة (وجع الرمال) ذو طابع أسطوري غني بالدلالات المعاكسة. يتحدد الطابع الأسطوري للضريح/القبة في جانبها الطبيعي حيث « تنوء تحت ضربات المطر، يخالها الجميع ستسقط لكن... لسبب غامض تتحاشاها السيول، تصنع مجاريها بعيدا، فتتغذى أسطورتها» (ص10). ثم في جانبها الهندسي «هزيلة بأبعاد غير متوازية» و في جوفها يسكن «قبر طويل بأبعاد لا تسمح -البتة- باعتباره قبر رجل واحد» (ص11) هذا الطابع الاسطوري لفضاء القبة جعله يتحول مع مرور الوقت إلى «مأوى للغرباء والدجالين والمتسولين وبائعي الأقمشة الرخيصة، يروجون الحكايات ويستقبلون تحت جنح الظلام نساء كثيرات متشحات بالملاحف السوداء والرغائب الغامضة...» (ص11). ويرتبط فضاء القبة -كغيره من فضاءات الراشدي- ارتباطا وثيقا بالزمن إلى درجة يستحيل معها فصلهما. وأكثر الأزمنة ارتباطا بفضاء القبة: الليل، حيث «يستقبل الرجل (المجدوب) الغرباء يجهز الشاي المنعنع يملأ سباسي الكيف الواحد تلو الآخر و يشاركهم لعب الورق» (ص 12). فالليل في قصة «القبة» هو الزمن المثالي للمارسة الممنوع والمدنس في فضاء غالبا ما يرتبط بالقداسة. فكأن «الشمس نمامة والليل قواد» (كما قال شاعر قديم). فهو يبيح ما لا يباح: يبيح حرية الحركة وحرية الفعل. حرية الخروج على قانون الجماعة، لذلك كانت الفضاءات النائية دوما هي الفضاءات التي تحتضن هؤلاء الخارجين. *الصحراء: فضاء الصحراء من الفضاءات الأثيرة عند الراشدي، سواء في كتابته القصصية أو الروائية، مما يجعل قارئ إبداعه يكتشف: «عوالم جديدة لمتخيل قصصي مشبع بالشساعة والامتداد و بثقافة الجنوب المفتوحة على غنى تخيلي يمثل نقط ضوء جديدة للجسد القصصي في المغرب». وينتمي فضاء الصحراء إلى ما يسميه مول، ورومير بالمكان اللامتناهي الذي لا يملكه أحد، بعيدا عن الدولة وسلطانها وقهرها. إنه فضاء مفتوح على الفقر والفراغ و البرودة وذوبان الكيان الإنساني وتلاشيه. لكنه أيضا فضاء «للبحث عن المعنى» (ص48)، وإن كان بحثا لم يجد في المدى المفتوح سوى غربان طالما راودته (ص50). وفي رحلة البحث تلك التي قام بها بطل قصة (وجع الرمال) يبدو الزمن قاسيا (الشمس المحرقة) وبدون قيمة حيث يتساءل السارد في حسرة:» من قال إن للزمن معنى في الصحراء؟» (ص48)، مما يجعل رحلة البحث عن المعنى (معنى المكان و معنى الزمان) تنتهي إلى موت مجاني (يذكر برحلة وموت أبطال رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني) على يد غرباء «خضر العيون شقر الوجوه على وجوههم آثار النعمة ،جاؤوا من شيكاكو أو نيو جيرسي للصيد وغسل الأجساد بالبيرة وسب بعضهم بعضا بلكنة الروم» (ص51). هؤلاء الغرباء، الدخلاء، جردوا فضاء الصحراء من نقائه، وفضوا عذريته، وقتلوا القيم التي يحملها. قيم المغامرة.. الحرية.. الانطلاق.. الإفلات من سطوة السلطة.. مما جعل إنسان الصحراء نفسه يتحول إلى «غنيمة» أو حيوان « ظبي» أو «غزال».