منذ مدة ليست بالقصيرة تسلمت هدية من الأديب المغربي نور الدين محقق،وكانت عبارة عن مجموعته القصصية الموسومة ب»وشم العشيرة»،كنت أقرؤها ثم أعيد قراءتها،وكنت في كل قراءة أزداد متعة وعشقا بهذه الأضمومة الماتعة المائزة،وكان للون غلافها الأخضر القاتم المائل إلى لون الحناء،و اللوحة التشكيلية المرسومة بفنية للشاعر والتشكيلي عزيز أزغاي أثر على نفسي،إضافة إلى ذلك أثارني عنوانها الموشوم باللون الأبيض،الذي يوحي للقارئ بالوشم الغائر المنقوش سيميائيا في واجهة الغلاف،و المحفور سيكوسوسيولوجيا في الذاكرة العربية عامة و المغربية خاصة،و الملاحظ كذلك أن العنوان يبدو لغويا مستفزا صادما للقارئ لأن فيه حذفا نحويا مقصودا،وهو حذف المبتدأ،والقصد من الحذف هو إثارة فضول القارئ من أجل التدخل وتعويض هذا الحذف بما يناسب من الكلام . وهو في الغالب يمكن تأويليه ب « هو وشم العشيرة « وكلما عاودت قراءة هذه المجموعة القصصية تذكرت قراءتي منذ زمن بعيد لكتاب «الاسم العربي الجريح» للمفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي،هذا الكتاب الذي تفرد بكشف المستور و التعبير عن المهجور،حيث تقصى كل أنواع الوشم في تفاصيل وتضاريس المرأة ،ما ظهر منها وما بطن،بأسلوب علمي عميق ، يتميز بالرصانة بحيث لا يخدش الحياء ولا يجلب البلاء و العداء. أما الكاتب نور الدين محقق فله وشم من نوع آخر،وشم بنكهة أخرى تختلف جملة وتفصيلا عن وشم الخطيبي،إنه وشم في العشيرة التي رفض الكاتب كشفه والإعلان عنه مباشرة، بل اتخذ لنفسه أساليب مختلفة لتتبع تفاصيل هذا الوشم ،بأن اعتمد أسلوبا أدبيا يمزج بين سرد القصة وحكي المقامة،لقد حافظ على الفضاء السردي الذي تتحرك فيه الشخصيات الأساسية و الثانوية،النامية والمسطحة في شكل لوحة متناغمة تعبر عن لمة العشيرة حول مائدة الإفطار في يوم شديد البرودة. فمن حين لآخر يطالعنا بأسلوب المقامة في الاستهلال،حيث إنه ينسب الحكي للراوي وغالبا ما يذكر الكاتب اسم هذا الراوي دون خوف من هذا التصريح (حدثني صديقي عبد الفتاح ذات ليلة...) (حدثنا مصطفى و العهدة عليه)(حدثنا هشام بن عيسى).... لكن القارئ الفطن يشعر وكأن الأبطال يتكلمون وينسجون تفاصيل القصص بلسان الراوي / السارد، ويعبرون عن مشاعره، بل أحيانا نشعر به وهو يغير مجرى حديثهم ليتقمصوا شخصيته، وينظرون إلى العالم من زاويته. و أسلوب الحكي في هذه المجموعة القصصية واضح المعالم ،يعتمد التقرير والمباشرة المرشوش بنسبة معينة من الترميز الذي يعطي للقصص ما يسمى «بأدبية العمل الأدبي» ،والكاتب نور الدين محقق يختلف بأسلوبه الذي يتقاطع مع أسلوب المقامة،حينا ويقوم بعملية تكسيره حينا آخر ، يتمثل لنا ذلك في كون أن المقامة تنسب الأحداث و الحوار بين الشخصيات لضمير الغائب ، حيث كان الرواة يعتمدونه خوفا من الوقوع في التجريح، والنبش في أعراض الآخرين،بل في كثير من الأحيان يلجؤون إلى التستر وإخفاء علاقات كانت قائمة أبى الرواة الكشف عنها علانية،بل اكتفوا بالتعبير عنها بكل إحساس صادق ، في حين أن الكاتب نور الدين محقق هنا في قصصه يلجأ إلى المزاوجة بين ضميري المتكلم والمخاطب ، متجاوز من خلال ذلك خطية السرد ، وخالقا دينامية سردية متجددة ، بتعبير الباحث الفرنسي لورون جيني . إن الموناليزا ، كما ورد ذلك في قصة « الحمامة المطوقة» التي وقع في غرامها الشبان الثلاثة وعلى رأسهم السارد نفسه ،عبد الفتاح، ترمز للصورة النموذج القابع في متخيل كل شاب،إنها رمز المرأة التي تجمع بين ثغر المرأة الباسم إشارة في ذلك إلى الحبيبة، وفم الأم العابس إشارة إلى الأم التي عانت ومازالت تعاني من ويلات ومصائب الحياة. لقد كان البطل مولعا بالفتاة الملقبة بالموناليزا، في لحظة من لحظات حياته ، الشيء الذي دفعه إلى تغيير الشعبة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية،رغبة في التقرب و الجلوس بجانب الحبيبة،لكن خطبتها وفكها كل الروابط التي تجمعهما، أدى به إلى قطع حبل التفكير فيها، بل قطع حبل متابعة القص ليبقى هذا العشق و الهيام وشما في الذاكرة. و بهكذا أسلوب تحكي مجموعة «وشم العشيرة» القصصية ، الماضي لتعالج الراهن الذي يضمره المخزون المعرفي و الموروث الثقافي الذي يحمله الراوي،فهو ينفتح على الماضي ليلتقط لحظات متباينة بين السعادة أحيانا و الحزن في أحايين كثيرة ،هذا الحزن الذي كان ذات يوم شديد الوخز ، لكنه الآن يعتبر جمالا،يعكس رؤية جمالية من الماضي،رؤية استيطيقية،من خلال آلية الحضور الحكائي،واختيار الألفاظ المعبرة و الدالة على حساسية المشهد، بتعابير تنتمي إلى عالم المقامة سالكة في ذلك أسلوبا جديدا في الكتابة الأدبية يمكن أن نسميه ب «القصمقامة» إن صح هذا التعبير. وهو ما نجد له حضورا قويا في مقاربات عبد الفتاح كيليطو لهذا الفن السردي العربي القديم. والمجموعة القصصية بذلك تحكي وتعبر عن تراكمات من الماضي بلسان الأبطال، الذين هم في النهاية يعبرون بلسان الراوي، يحاولون تنظيم هذه التراكمات وترتيبها في قالب قصصي، يغلب عليه منطق الحكي المقامي على منطق السرد القصصي،والقصة بذلك تتناص مع مقامات الحريري ومقامات بديع الزمان الهمداني، على مستوى بنية الحكي والشخوص المشكلة لبعض القصص بقلب المسميات(هشام بن عيسى) عند الكاتب نور الدين محقق بدل (عيسى بن هشام) عند الكاتب بديع الزمان الهمذاني .وأسلوب الحكي هذا له جذور في مخيلة الراوي،عبر به على لسان أبطاله فنجد «مصطفى» الذي كان مغرما بالبادية،وكانت جدته من أمه تحكي لأحفادها زخما كبيرا من القصص و الحكايات و الخرافات (كنت أقضي عطلة الصيف... عند جدتي من أمي،كانت هذه الجدة..تحب القصص...كانت تجمعنا نحن الأطفال...وتبدأ عملية الحكي). إذن فعملية الحكي هذه ليست غريبة على الراوي بل هي وليدة هذا الموروث الثقافي الذي اكتسبه من جدته منذ الصغر،مما يعني أن عامل الموهبة حاضر في مخيلة الراوي بجلاء،لكنه لم يكتف بهذه الموهبة بل عمل على صقلها بواسطة الاطلاع الواسع على مجاميع المقامات التي كان يتلقفها و يغوص في أعماقها(هل أترككم مع القصة أم أقدم حولها بعضا من تأملاتي) ص21، وهكذا نلاحظ بأن هذه المجموعة القصصية تمزج بين الأسلوب المقامي القديم والشكل السردي الذي يميز القصة كشكل وجنس أدبي حديث العهد يحترم مقومات الكتابة القصصية. و تتحرك القصص في «وشم العشيرة» من الاستهلال الحكائي الذي يثير فضول القارئ ويدفعه إلى متابعة القراءة وشد انتباهه لمعرفة المزيد من الأحداث(حدثنا الفتى البيضاوي) ص57 محاولا تمويه القارئ ودفعه إلى التخمين و التفكير في أبطال القصص، بالرغم من أن الكاتب يعبر صراحة عن الشخصيات القصصية ، لكنه مع ذلك ، يترك للقارئ حرية تعويض هذه الشخصيات بشخصيات أخرى تلتقي بل تتقاطع مع الشخصيات المخزونة في المتخيل الشعبي الجماعي للقارئ المغربي خاصة،والقارئ العربي عامة، فالشخصية المحورية في إحدى قصص المجموعة وهو شخصية « العربي الطيارة «رمز لكل إنسان دخل في علاقة غرامية مع امرأة وأصيب بالجنون والخبل في حبها،فأول ما يفكر فيه كثير من الناس هو نسبة هذا الجنون إلى أعمال السحر و الشعوذة،وهنا يتدخل الكاتب لطرح الاعتقاد الخاطئ الراسخ في أذهان الكثيرين ، وهو التفكير التقليدي المتخلف الذي يعتمد على الشعوذة و اللجوء إلى سلوكيات وممارسات خطيرة، تبدو جلية للعيان بل يؤمن بها فئة عريضة من الناس،وهو بذلك يحاول دق ناقوس الخطر،وإثارة اهتمام المتلقي المفترض لمدى خطورة هذه العادات المتجدرة في الأذهان،وترك الباب مفتوحا له من أجل إيجاد الحلول الممكنة للقضاء على هذه الظواهر الانحرافية الخطيرة. و الجميل في هذه القصص هو أنها تطرح الكثير من هذه الظواهر الاجتماعية السلبية دون تقديم الحلول الجاهزة للقضاء عليها، بل تترك المجال مفتوحا للقراء من أجل التفكير في وسائل ممكنة فعالة تمكن من القضاء عليها.وكان من بين وسائل العلاج التي ساهمت في حل مشكلة جنون «العربي الطيارة»، هو دور الحب في ربط علاقة المودة والعشق بين الناس وتهدئة النفوس وهو الحل الذي قدمه الجيران لهذا «العربي الطيارة «،حيث إنهم عقدوا القران بين بينه و بين «فطومة الهدارة»،وكانت هذه العلاقة سببا في هدوء طبع هذه الشخصية ، وتغير في سلوكها وشكلها (فإن طبعه قد لان عما كان عليه في السابق،لم يعد يقبل النساء عنوة،ولم يعد يضرب الرجال أيضا،ولم يعد يصيح أو يتعرى كما كان في السابق) ص60 وهكذا كان الحب هو الرابط الطبيعي الذي يربط الناس فيما بينهم دون اللجوء إلى نشر الأذى و الأمراض النفسية و الجسدية بين الناس،ويظهر هذا على «العربي الطيارة» الذي (قد هذب قليلا من شعره وأزال شعر لحيته المشعت،فبدا في شكل إنساني مقبول) ص60 وللوصول إلى هذا النوع من الكتابة التي تجلب اهتمام القارئ ينبغي اعتماد الكتابة السردية العفوية التي تعتمد على الكتابة القائمة على الفطرة ، لكنها تلك الفطرة المبنية على الثقافة العميقة وعلى التمرس بفن الحكي ، و الكتابة من هذا النوع تحتاج إلى دربة وتركيز دقيقين في اختيار الألفاظ المناسبة التي تتحرك بدورها بشكل عفوي على مستوى التركيب لتخلق تعابير متناغمة منسجمة تعطي دلالات عميقة بليغة المعنى يختلف حولها القراء لما لها من حمولة فكرية وبعد نظر يولدان رؤية شاملة إلى العالم. و المتتبع للقصص المشكلة لهذه الأضمومة القصصية يلاحظ أنها قصص تجمع بين السرد المسترسل ، وبين تواجد الحكاية داخله ، وهي في كليتها تميل إلى التبسيط المحكم المركز ، على النمط البورخيسي ، معتمدة في ذلك على التسلسل المنطقي و التتبع الدقيق لمجرى الأحداث،و الهدف من ذلك إيصال الفكرة و الموضوع إلى ذهن القارئ دون تكلف ولا عناء المحسنات البلاغية و البيانية، إلا ما احتاجت إليه مجريات و مشاهد الأحداث. كما أن هذه القصص تتنوع بين التعبير عن الذات و التعبير عن الواقع ، فمن خلال الذات يخرج الكاتب للتعبير عن الواقع وتبيان المظاهر المشتركة التي تعبر عن وعي الناس ،وعما يريدون التعبير عنه ،لأن ما يميز الكاتب عن الإنسان البسيط، هو امتلاكه ناصية اللغة و موهبة الكتابة الأدبية،فكان الكاتب نور الدين محقق بهذه المجموعة القصصية هو لسان العشيرة ومفكرتها الخالدة التي سجل فيها تفاصيل أحداث العشيرة في حلها وترحالها ،في ماضيها وحاضرها،وعبر امتددات الزمن القادم. ويبدو أن الشخصيات باختلافها أطيافها تتحرك منسجمة مع الأحداث وتتخذ الطابع المناسب لها فمنها ما هو ثابت جامد تتحرك معه الأحداث و الحوارات وفقا لرؤية هذه الشخصيات، ومنها النامية المتطورة التي تجتهد من أجل تحريك الأحداث وتطويرها،ويظهر هذا التنويع في الحراك الفكري و الأيديولوجي، في طبيعة الشخصية التي أسند إليها الدور الذي يناسبها،فالبطل مرة يكون أميا لا يقرأ ولا يكتب و أحيانا يكون مثقفا عضويا يساهم من قريب أو من بعيد في نقل أهمية القراءة وجدواها بالنسبة للمجتمعات البشرية، فبدونها تكون هذه الجماعات غارقة في الجهل القاتل الذي يحد من حركية التفكير العميق في القضايا المختلفة (كان هو محبا للكتب،أفنى نظره في قراءة محتوياتها،ولم يستطع إلى الآن التخلص منها ومن سحرها) ص73، وسحر الكتابة يدخل البطل في عالم جديد استلذ مذاقه واستطاب لذته، حيث انتقل من لذة القراءة إلى لذة الكتابة و دخوله عالم الكتاب(ومع مرور الوقت تحول عشق الكلمة من قراءتها إلى كتابتها...كان إحساسا جديدا بالنسبة إليه،فأن تكتب يعني أنك قد أعلنت الانتماء إلى مجموعة من الكائنات الأدبية التي كنت تقرأ لها في السابق) ص73، و فئة الأدباء عند الكاتب هنا كائنات من طينة مختلفة في اعتقاده لأنهم يفكرون ويتكلمون بأشكال وطرق مختلفة تختلف و السائد من كلام الناس و تفكيرهم. هكذا يتحرك الراوي وينهض في أشكال وأنماط شخصية مختلفة،نراه يتقمص دور البطولة ويجر معه الشخصيات المؤثثة لفضاء قصصه ،متوجها بها في الاتجاه الذي يريد،يتحرك بكامل الحرية في كل القصص عبر السرد و التفضيء الزمكاني،تشعر وكأن الكاتب يسلك أسلوبا واحدا في الكتابة يتقاطع فيه مع الرواية في أسلوب الحكي و مع المسرحية الحوار و مع السينما في المشاهد الصادمة والمدهشة ومع السيناريو في التقطيع المشهدي، و يتقاطع مع الفنون التشكيلية في مزج الألوان المناسبة للوحات التشكيلية. ومن حين لآخر يترك المجال واسعا للبياض و الفراغ رغبة منه في إتاحة الفرصة للقارئ لملء هذا البياض. وهذا النوع من الكتابة يحترم مخيال المتلقي وذائقته الأدبية،لأن النص القصصي يتحرك كرسالة من المرسل/الكاتب إلى المرسل إليه القارئ وفي هذه السيرورة/ الصيرورة ينتج هذا البياض السردي الذي يساهم في توريط القارئ أدبيا في إضفاء صفة الأدبية على العمل القصصي. ومن هنا يمكن أن نقول بأن البطل المتعدد في «وشم العشيرة»هو نفسه في القصص التسع بالرغم من اختلاف الأسماء و اختلاف الأحداث و الأزمنة ،إنه بطل حداثي من ورق ، يتمطط ويتمدد حسب سير الأحداث وحسب الفضاءات الزمنية و المكانية، بطل زئبقي يصعب تحديده وتموقعه في القصص،يتعايش بشكل إيجابي مع طبيعة السرود وطبيعة الأحداث وطبيعة الأزمنة و الأمكنة، بل قل إنه بطل يساهم في خلق هذه الفضاءات و تأثيثها بل تكييفها حسب الكيفية التي يريد أن تسير عليها القصص. هوامش: 1- نور الدين محقق: «وشم العشيرة»، قصص، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 2010 . 2 -عبد الفتاح كيليطو: « المقامات»، ترجمة :عبد الكبير الشرقاوي.دار توبقال. الدارالبيضاء، 1993 .