تدخل المجموعة القصصية «الشركة المغربية لنقل الأموات» (منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2011) في إطار التجريب الفنتاستيكي الذي يبحث عميقا في المتخيل الجمعي/الجماعي ليعكسه أدبا. ويعتبر السرد الفنتاستيكي من أنواع السرود المعقدة التي تشتغل على مواضيع غرائبية وعجائبية، تمزج بين الواقع واللاواقع، لتجعل المتلقي يصدق هذا اللاواقع ويتتبع محكياته بكل تركيز واهتمام. بالضبط كما حدث في «الشركة المغربية لنقل الأموات» للقاص أنيس الرافعي الذي اشتغل على تجربة كابوسية عاشها البطل (المصور الفوتوغرافي) طيلة السبع ليالي، في كل ليلة يتعرض لكابوس الموت ويحكي تفاصيله وكيفية تحضير ودفن الجثمان الذي هو نفسه جثمان البطل، في عملية استباقية لموت البطل. وبموازاة مع هذه القصة يحكي السارد تفاصيل الليلة الكناوية التي يستحضر فيها الكناوي الأرواح و الأشباح ، لتعادل هذه الليالي السبع الكناوية لليالي الكابوسية التي يعيشها البطل ، مركزا على الخيط الرفيع الذي يجمع بين هاتين الليلتين، ليلة استحضار الأشباح و الأرواح و الجن في الليلة الكناوية، وليلة استحضار شبح وروح البطل أثناء تعرضه للكابوس المميت ،الذي يدفع البطل إلى سرد حالة ما قبل الموت وحالة الموت وحالة مابعد الموت وتفاصيل الجنازة... على عتبة العنوان وقبل الخوض في دراسة المجموعة القصصية لابد من الوقوف على العنوان «الشركة المغربية لنقل الأموات» الذي يعكس وبشكل آلي بنية النص الداخلية والخارجية، السطحية والعميقة،و القارئ / الناقد يستنتج بأن العنوان هو النص والنص هو العنوان ، بحيث إن هناك علاقة جدلية تجمع بينهما،علاقة تفاعلية كل واحد يؤثر في الثاني، بل يمكن اعتبار العنوان هو التيمة الكبرى التي تتمحور حولها المجموعة القصصية ، وهو الذي عنون به إحدى قصصه الأساسية. كما يمكن أن نقول بأن هذه القصص المشكلة للمجموعة القصصية ما هي إلا امتداد للعنوان بل تمطيط له.وبهذا اعتمد القاص أنيس الرافعي على إثارة انتباه القارئ إلى موضوع المجموعة القصصية من خلال صدمة ودهشة هذا العنوان المثير، الذي يدخل في إطار القصة الفنتازية التي تعتمد على السرد العجائبي و الغرائبي. فعتبة عنوان في المجموعة القصصية و العناوين الأخرى المشكلة لنصوص المجموعة ككل لها أبعاد تجنيسية توجه القارئ إلى طبيعة ونوع القصص، فبالإضافة إلى « الشركة المغربية لنقل الأموات « هناك عناوين توحي للقارئ بالموت أو إلى عناوين مفارقة تتقاطع أفقيا وعموديا مع تيمة الموت (صانع الجنازات - اليوم الأول بعد الموت - زير الجثث - سبع أرواح) كلها عناوين عجيبة وغريبة تمهد القارئ لاستقبال الجديد من الأحداث الفنتاستيكية. وعجائبية السرد في «الشركة المغربية لنقل الأموات» تظهر من خلال بعض المشاهد التي لا يستسيغها العقل البشري كالتعامل مع الجن ومعرفة أخبارهم وطريقة عيشهم ( حيث تتم مناجاة الملوك الغابويين من قبيل جوجو اللاما، كباني بوكانكا آكل اللحم النيئ ، سركو بلايجي آكل الدقيق الأبيض،هراندو بيزابيزا المتخصص في سف الزجاج و المشي عليه) ، ص37.. لغة ما بعد السرد وبعد العنوان الذي يشير إلى الموت و الرهبة وتخصيص شركة بأكملها لإنجاز هذا العمل الجنائزي الذي يبعث على التفكير والتأمل ، تأتي الألفاظ التي تعبر على نفس المضمون، فالقاص استخدم لفظة الأموات للدلالة على الكثرة (إحصاء عدد السيارات الوافدة بأجداث الراحلين أو الماضية بهم)، ص19.. وقد أحدثت هذه الشركة في نفسية البطل نوعا من الرهبة و الخوف، لأنها كانت عاملا مساعدا على توليد الكوابيس أثناء النوم وتعرضه لتهيئات مخيفة من كائنات تترصده جيئة وذهابا (لأنني كنت أتصور بشكل هذياني بأن ثمة يدا خفية كانت تعمد لطيها من خلفي ) ، ص19 . و يبدو أن البطل يهاب الموت نفسه ويظهر هذا عندما يخلد للنوم ويشعر بحالة من انقباض الروح وكأنه يحتضر، ليعرف فيما بعد أنه كان ضحية كابوس خطير باغته في النوم رغم أنه أحكم إغلاق جميع المنافذ اعتقادا منه أنه سيهرب وينفذ من الموت (إغلاق نوافذ الشقة بالألواح الخشبية والمسامير... وكذا بناء جدار فاصل بالآجر و الاسمنت لطمس الشرفة التي كانت وقودي اليومي لقدح زناد التلصص على فكرة الموت)، ص20 . فلغة المجموعة القصصية توزعت بين مستويين لغويين، مستوى لغة النوم ولحظة تعرض البطل للكابوس ومستوى لغة اليقظة التي بها يحكي هذا الكابوس وينقله أدبا، ومن هنا نلاحظ بأن لغة التعرض للكابوس هي لغة استباقية تتعاطى مع مجريات الأحداث بألفاظ خاصة تسير ومستوى الكابوس صعودا ونزولا، معتمدا السارد في ذلك لغة الوصف التي تقرب المشهد العجائبي إلى ذهنية المتلقي. و اللغة بهذا التماهي والاشتغال على خلخلة خيال المتلقي كانت تأخذ القارئ إلى عوالم أخرى فيصنع لنفسه من ألفاظها دلالات خاصة وقاموسا خاصا يليق بموقف البطل وتدرج حياته حسب الظروف و المناسبات. فكانت الدلالات تختلف وكانت التصورات تتنوع بتنوع نفسية البطل ، ولهذا فالصورة الفنية التي طغت على المجموعة القصصية هي صورة ذلك الرجل الذي يعيش حياتين : حياة طبيعية، وأخرى ترفعه إلى عالم الموتى ، حيث يتعرض لكوابيس خطيرة ينقلها البطل في الصباح عندما يستيقظ من النوم، إنها صورة حية حركية تتحرك بتحرك البطل وتتجدد بتجدده ، إن دلالة اللغة مأخوذة من واقع مر اختلطت فيه المشاهد الحقيقية بالمشاهد الخيالية،العجائبية. غير أن القاص رفع هذا الواقع إلى الخيال وخلق منه عالما متخيلا جميلا لا يشعر فيه القارئ بملل التقرير الأدبي ، بل كان يتنقل بالقارئ بين فضاءات النص المختلفة و المتباينة . كما أن تطريز النص من حيث التسلسل المنطقي كان جميلا بحيث إن القصة تجذبك إليها دون أن تدري فتنقلك بين ردهاتها المتنوعة و المختلفة فلا تشعر فيها بالملل رغم قصرها، تشعر بأنك تقرأ عملا دراميا كبيرا ، نظرا لاعتمادها على لغة تصويرية تمتع العين بترصد حركية الشخصيات في إطار سينمائي اعتمد فيه القاص نقل جزئيات الشخصيات ومحيطها الزمني و المكاني وتتبع نفسياتها بدقة متناهية، وبشكل خاص تتبع البطل بوضعه تحت زوم عدسة السارد بطريقة بؤرية يتم فيها التركيز على الشخصية المحور، مثلما يحدث في الحضرة الكناوية التي يكون فيها التركيز على الشخصية الأساسية التي يهدف الحاضرون إخراج الجن منها، وبهذا تكون الشخصيات الأخرى عناصر مساعدة لتوليد الخطاب الصادر من البطل قطب الحوار. كابوس الموت و التفضئ الزمكاني تجري أحداث المجموعة القصصية بين زمنين، زمن الوقائع وزمن القص ، وبين مكانين مكان الغرفة/القبر وأمكنة أخرى خارجية يمكن اعتبارها بمثابة قبور كبيرة يتحرك فيها البطل بشروط وبضوابط معينة. والأحداث الفانتاستيكية تجري في زمن الوقائع، الذي هو زمن النوم الذي يتعرض فيه البطل للكابوس المرعب، كابوس الموت، ومكان الغرفة المطلة مباشرة على موقع «الشركة المغربية لنقل الأموات».. وبين زمن الوقائع (النوم) ومكانه (الغرفة) يأخذ القاص (البطل) استراحة قصيرة (زمن القص) لسرد ما تعرض له من أحداث فانتاستيكية (الموت) ، معتمدا في ذلك تقنية السرد الوصفي ، لأن هذا النوع من السرد « لايقدر على تأسيس كيانه بدون وصف» جيرار جينيت - حدود السرد ، ص59. فكابوس الموت له دلالة عميقة، فيه إشارة إلى مباغتة الموت للإنسان في أي مكان وفي أي زمان ، مباغتة الموت له وكأن الموت إنسان شرير أقدم عليه مهددا إياه بالغدر و التنكيل به، فصورة المداهمة هنا فيها هذا النوع من الحدة و القسوة التي زادت من تأزيم الوضع الدرامي في المجموعة القصصية، وتعطينا تصورا آخر هو أن البطل لم يكن مستعدا لمواجهة الموت ولم يكن يفكر فيه لولا هذه « الشركة « التي حلت بقبالته وأصبح يفتح عينيه عليها صباح مساء . وموضوع الموت في المجموعة القصصية له دلالة هامة، فقد أحدثت أثرا نفسيا في حياة البطل مما جعله يفكر في وجود الإنسان في هذا الكون ومصيره، فالبطل يعيش تجربة بؤس داخلي رهيب نتيجة صراع النفس الحية في ظل بحثها عن حالة دائمة ومستقرة وكأنه يمني النفس بحياة دائمة وهانئة ، بمعنى أنه لم يكن يعتقد بأن الموت سيباغته في يوم من الأيام ،فقد ترك فيه هذا الكابوس أثرا بالغا في حياته الجوانية و البرانية، مما انعكس على نفسيته فترى بأن البطل على إثرها سيصاب بعدوى الحزن و الألم بعدما كان ينظر إلى نفسه بأنه الإنسان البعيد عن الموت ،إنها نظرة وجودية حادة ، نظرة تماه بين ذات البطل ونفسيته. وما يثير الانتباه « في الشركة المغربية لنقل الأموات» هو اعتماد القاص على السرد اللاحق الذي ينقل أحداث الماضي القريب (لكن لا يجوز أن أكون ميتا وأنا أتنفس وأعي جيدا ما يدور حولي..لابد أن هذا كابوس..محض كابوس..ويتعين أن أستيقظ في التو..) ، ص21 . فالقاص يشير أثناء سرده للأحداث إلى الكلمة المفتاح التي تبعث الأمان في نفسية القارئ، ويوهمه بأن هذه الأحداث الكابوسية وقعت في الماضي وفي فترة النوم،ولا داعي للخوف منها ، كما أن القاص هنا يشتغل على تقنية التلاعب باللغة بواسطة تقويض بنية اللغة وتشظي الأحداث التي تزيد من ثقة القارئ بلعبة السرد. بمعنى أن القاص استطاع نقل الكابوس الذي تعرض له في الليالي السبع الماضية،ونقلها أدبا بلغة تمتاز بالتمويه و الجمع بين العقلي و اللاعقلي بطريقة السرد الفنتاستيكي الذي يكسر بنية اللغة ويقوضها (هل أنت الذي كنت تقود السيارة أم صاحب اليد التي كانت تلوح...) ، ص34. ، ويستمر التمويه ليدخل بالقارئ إلى حدود تخيل القارئ للنهايات الممكنة للقصة (كان يجب أن تنتقل داخل الحياة لا منها، جراء حادثة مؤلمة لانقلاب سيارتك قبل وصولها إلى مدينة «ك» فهل جئت هنا بنفسك لإتمام ميتتك السابقة،لإعادة تركيب موتك الماضي الذي لم يكن حاسما ومتقنا كما يجب) ، ص35 . فالقارئ يدخل في صلب لعبة السرد الفنتاستيكي، ويشتد الصراع في القصة وتزداد دينامية وحيوية، حيث تصبح الصورة الواحدة صور متعددة تعكس الكثير من الرؤى و التخيلات الممكنة وغير الممكنة، إنها لعبة اللعب على النفس و على المشاعر الجياشة، التي تتغير و تتجدد بتجدد المواقف التراجيدية التي يعيش فيها البطل بألوان وصور مختلفة. إن البطل وصل إلى نقطة اللارجوع التي لم يكن ينتظرها ، لم يكن يحسب لها حسابا ، إنها مرحلة الموت الذي لا يريده أي واحد لنفسه ، لكن لعبة السرد القصصي جعلت القاص و القارئ يخوضان هذه التجربة، تجربة أبى القاص إلا أن يخوض غمارها ويجربها بحلمها بهمها بحلاوتها بمرارتها فلابد من تجريبها و الغوص فيها . إن بنية النص توحي للقارئ بأن القاص هو من يضع لعبة الكتابة منذ بداية المجموعة القصصية، حيث نراه يلعب بالشخصيات و الزمان و المكان ليحدث ثورة في مجال السرد، بأن يخرجه من مجاله التقليدي إلى مجال أوسع أفقا وأكثر خصوبة في التخييل....تخييل القاص من جهة وتخييل القارئ من جهة أخرى، بمعنى أن القاص يريد من خلال اللغة القصصية الجمع بين جمال اللغة ومغامرة السرد الفانتاستيكي . إنه يريد أن يعكس هذه الحالة من الغرابة التي عاشها البطل أثناء النوم، واللغة هنا تتماهى في هذا البهاء وهذا الجمال في اختيار و انتقاء الألفاظ التي تسبح بالقارئ في فضاء غرائبي عجائبي جميل تتجاذبه صراعات البطل بين حب الحياة وتجريب الموت، الذي يفرض نفسه على البطل أحب أم كره عند خلوده للنوم.