اتسمت مجموعة " ظلال حارقة " للقاص المغربي إدريس الواغيش بميولها نحو الكتابة السير- ذاتية ، وهي ترصد عوالم الهجرة المعاكسة نحو القرية ، التي من خلالها تفتح قوسا لانتقاد المنظومة الاجتماعية بأكملها من استبداد ، تسلط ، قهر، فقر وعزلة الذات داخل فضاءات متعددة ، بقدر ما ظلت تشكل إعاقة حقيقية في وجه أصحابها . فالأمكنة في هذه النصوص ساهمت في تحديد نوع من العلاقة بالمجال تباينت بين الحب والكراهية ، من خلال نسيج متشعب من العلاقات الإنسانية سواء العامة أو الخاصة ، وقد لفها حزن وخوف وترقب انعكس على نفسية شخوص المجموعة . فالمدينة هي رمز الظلال الحارقة ، مثلتها البطالة ( حملة الشواهد العليا ) وخريجي الجامعات والموظفين الذين يعيشون على إيقاع أجرة لا تسمن ولا تغني من جوع ، ومتشردين ومساجين وشخوص أخرى عرت الوقائع ، معبرة عن بؤسها الضارب واختلال أوضاع حياتها وكشف زيف مظاهرها الخادعة . لقد رصد القاص إدريس الواغيش محطات أساسية وفترات حرجة حياتية ، وكشف عن رؤية ثاقبة واستيعاب لمظاهر استفحال أزمة خطيرة ، تتجاوز العلاقات العامة إلى الحياة الخاصة والعاطفية والعلاقة داخل الأسرة المتعددة الأفراد ، والغارقة في انتظارات وأحلام بعيدة المنال . هذه المعاناة ستبرز للعيان مدى القسوة التي اكتوت بها فئة من المغاربة إبان ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ، وهو ما أعطى النصوص ملامح واضحة من القسوة سواء بأزقة مدينة فاس العتيقة ، أو حتى في قرية " أيلة " التي ينتمي إليها ، و التي من خلالها برز الإخلاص للأصول وكشف النقاب عن عشق طافح ، حول الأمكنة لمنجم حقيقي للحكايات المتعددة . والسارد يستعرض جانبا من تاريخها ، وأمزجة سكانها ونزوح بعضهم إلى الهجرة نحو المدن للعيش في أحزمة الفقر فيها . لقد شكل الاصطدام الأول بالمدينة ، ظهور نوع جديد من المعاناة بامتياز، تأرجح بين صعوبة التأقلم ، والاندهاش من وثيرة الحياة المتسرعة التي يصعب مجاراتها ، بما تشكله من معيقات للاندماج حول تلك المناطق ، بوادي (مدينية) أخرى على هوامش مدن الاستقبال/ فاس نموذجا .وهو ما ولد نوعا من الاحتقار للذات وكراهية للمكان ، وبالتالي للمنظومة الاجتماعية من نزوح نحو الانحراف ، أو العيش بكرامة في ظل صمت وفقر حارقين ، وأنفة أبرزت بالملموس ألم الذات واحتراقها البطيء ، ودهشتها الأولى في علاقتها بمجال الاستقبال الجديد ، كما سنرى مع البطل في نص : " جسد واحد وأمكنة متعددة ". لقد تحولت المدينة إلى وطن يعكس كل الفوارق الاجتماعية ، ويبرز جراح الفئات البائسة الوافدة ، ليضحى سؤال الماهية والانتماء منفذا للتعبير عن الرفض ودليلا عن سخط في مواجهة سلط متعددة : سلطة المال / النفوذ / البنوك / النظام /.... ، ويتحول المواطن معها إلى كائن شهري بامتياز ، مثقل بالضرائب والديون في ظل أزمة بطالة خانقة ، وهو ما أبرز نوعا من التمرد والسخط على الواقع ، بدافع الرغبة في المقاومة للاستمرار في الحياة . وستبرز من خلال تحليلنا لنصوص المجموعة كذلك ، صورة الجامعة المغربية وبطالة الخريجين وفشل كل الآمال المعلقة على مشجب الانتظار، بزيغها عن مسارها وما تسببت فيه من انتكاسة حقيقية وتراجع للتحصيل ، مما عرى عن صور الانهزام الإنساني وأبرز جنون وظلال حرقت الذات المقموعة والبائسة . للإشارة فالمجموعة صادرة سنة 2011 عن مطبعة أنفو برانت بفاس ، وتضم ثمانية وعشرين نصا قصصيا متفاوتة الطول . ظلال ساخرة وسيرة ذاتية مفعمة بالحزن بقدر ما نلمس في المجموعة حكيا سير- ذاتيا ، نشعر بحرقة رصد واقع لبطل مغمور إبان سبعينيات القرن الماضي ، وظروف عيشه الصعبة والقاسية ، فإذا كانت الهجرة سببا في اغتناء البعض ، فإنها كانت سبب تعاسة البعض الآخر، ك" "ماتيو" الذي عاد خالي الوفاض من غربته الفرنسية ، لنفس المكان الذي لفظه ، كي يمارس طقوس حياة متحررة من كل القيود ، بحثا عن نوع من الإنصاف في ظل فقر مدقع . عودة " ماتيو" نص بقدر ما ينضح بكبرياء النفس وعزتها ، يبرز كذلك هدر الطاقات الشابة في ظل واقع مأزوم ، رغم تحرره من الاستعمار الفرنسي لو يتحرر من موروثاته القديمة ، التي سيتم هدمه بمعول التمرد والمواجهة والرفض . هكذا يستعرض النص بالانتقاد لأساليب الحياة الغارقة في التفكير الغيبي ، والشعوذة ، والزنا المقنع بالتقوى ( الفقيه) والاستبداد ( السلطة الحاكمة والقواد) بالبادية المغربية ، وطريقة تعاملها مع الفرد . كما يبرز من خلال إقامة نوع من المقارنة بين المغرب وفرنسا تحديدا ( المستعمر) . ف " ماتيو" نموذج لشباب المغرب القروي ، وهو" رمز للكبرياء والمثقفين في البلدة ، ودما مهدورا للشباب الطامح للقفز إلى الضفة الأخرى بأي وسيلة " ,(ص11 ) ف "ماتيو" بطل القصة ، قد أسس لنفسه عالما خاصا " يتأسف لحال المقهورين ، ولا يكف عن سب ( المخزن) وموظفيه الصغار ، ما دامت عيونه لا تسمح له بمعرفة ما يجري في عالم الكبار " (ص12). إن رصد واقع الفقر بسخرية سوداء ، سيستمر في نصوص أخرى كنص " ضيافة " (ص13) ونص " تعويذات لذاكرة الأمكنة " : (ص15) ، حيث نلمس الإشارة إليه كعامل أساسي بهيمنته الطافحة ، بشكل رهيب في كل الفضاءات ، ويولد الإحساس بالانقباض حتى في أكثر المساحات اتساعا . هذا الإحساس الذي سيترجم كعامل داخلي نفسي ، بقدر ما هو نابع من مؤثثات المحيط نتيجة التوتر. وسنلمس كيف أن العامل المادي يكون في الغالب محددا في اختيار أماكن أثيرة ( الحديقة / المقهى ...) ، مما جعل العلاقة بالمجال تتأرجح بين الغواية والرفض . يقول السارد مثلا : " رواد المقهى ونظراتهم للعابرات وضحكاتهم المجلجلة "( 15) ، وهذه النظرة ستشمل مؤثثات المجالات الأخرى ، كأصحاب المحلات التجارية وهم ينصبون شباكهم على الزبناء ، بينما الحسرة تلف البطل حسب السارد باعتباره من أصحاب الجيوب الفارغة ، والتي ستجعله ينزوي لالتقاط أنفاسه المتقطعة من الإعياء ، وهو الذي آمن بواقعية أمره حد القسوة . يقول " كان الحكم أكبر من أن تستوعبه حوالة هزيلة ، لم تمهلني طاحونة الواقع أن أنتشي قليلا ....، اختليت بنفسي تحت ظلال حارقة لشجرة زيتون أستنجد بها صبرا ، وآخذ تحتها قسطا من الراحة ... " (ص17) . وسيبرز احتقار الذات في ظل الأزمة مداه ، ممزوجا بانتقاد ساخر للمنظومة الأخلاقية ، وبقدر ما يعلو الوصف في نص : " بعيدا عن ظلال القلعة " (ص25) ، سيبرز صوت السارد الداخلي الذي بلغ درجة عالية من الدقة ، من خلال تشييده لمواقف لم يتم الإعلان عنها ، لكنها ظلت طي الكتمان بالنسبة للمحيط ، وهو يصور واقعا مأساويا لشريحة عريضة من المواطنين الذين أرهقتهم الديون ، كما عرت زيف المظهر الذي يخفي وراءه بؤسا ضاربا في الأعماق بقوة ، بسبب الوجع والألم الصامت والحيرة المتقدة . فالنص بقدر ما يبرز حتمية الغرق في الديون كدافع نحو الصمت ، فإنه يؤكد بما لا يدع مجالا للشك حسب السارد أن : "المدين مهزوم دائما " (ص 28) ، وهو ما يجعل من الصمت في المواقف الحرجة دافعا نحو السكينة والتحكم في الأعصاب ، رغم توترها إلى حدود ها القصوى ، ويبرز حوارا داخليا للسارد مع نفسه في مساءلة الذات : " هل راق لك المشهد يا إدريس ؟ هل غيرت فيك ديون لم تستأنس لها شيئا ؟ لماذا أصبحت خاضعا طائعا على غير عادتك ؟ " (ص 28) . إن هذه الأسئلة الحارقة ، بقدر ما نلمس جوابا لها بين ثنايا النص ، فإنها تدفعنا إلى وضع السارد تحت مجهر خاص يقول : " تمنيت لو أن هذا الزمان استبدلني بآخر ، نقلتني الجغرافية إلى بقعة نائية لأنجو بكبريائي أو التهمني وحش خرافي ، وانتهى أمري " (ص29 ). إنها قمة المعاناة والتمزق الداخلي ، وجها لوجه أمام الاصطدام بواقع مرير، وهو انكسار سيتوازى مع صورة انكسارات أخرى لبطل النص ، يقول السارد : " حين مر بنا عند الخروج ، وقف كأنه يريد أن يقول شيئا ، أحسست بكبريائه قد انهار، وبغموضه قد تلاشى " (ص 29) . وهي صورة لانهيار كائن بشري في نظرة أخرى ، تبرز عنف ومهانة لا يدركها سوى صاحبها " بدت معالم صورة جديدة ترتسم في مخيلتي ، لرجل حسبته فولاذيا لا ينكسر ، لكنها لعنة الديون وجبروتها ... " (ص 31). فالصوت الداخلي سيستمر في ظل هيمنة رهيبة وصمت هادر: " قلت مع نفسي ( ..) هل حرام إذا سأل الإنسان في هذا البلد ؟ ألا يحق له كمواطن حتى السؤال ، عن كم شهر وصبر يلزمه مثلنا ، قبل أن ترفعوا سيوفكم عن رقبته / رقابنا ؟ " (ص 30) ، وهو ما سيدفع السارد إلى إيهام القارئ بصراخه القوي ، لكنه صراخ ظل حبيس الصدر دون القدرة على إخراجه مجلجلا ، ما عبر عن حالة من الغيظ المكتوم والاحتراق بظلال صمت قاتل ، يقول : " لكن ذلك لم يمنعني من الصراخ ، وكأني أصرخ في وجه المال والرأسمال ومن يدير المال وسلطة المال ، كلما علا صراخي أنسحب الناس ممن حسبتهم سندا لي وللرجل " (ص 30) ، وهو ما أعلن عن تهريب الحدث الواقعي نحو عوالم داخلية ، نظرا لعامل التجربة والحنكة في مثل تلك المواقف التي يتم فيها الخذلان . يقول السارد : " حين فتحت عيني ونظرت ، أحسست برعشة من البرد تلفني والعرق يتصبب من وجهي ، وعنقي . كنت متأكدا كذلك من أنني حتى وإن تكلمت ، لن أظفر بأكثر من علامات الدهشة تراقبني وأعين تلاحقني " (ص 31). إن هذا الموقف سيدفع السارد إلى توجيه سهام النقد للمنظومة الأخلاقية برمتها ، وإلقائه باللائمة على الآخرين : " هم من صنع مني شريفا وبطلا . أنا درويش بحالي بحالهم ، أسكن حيا شعبيا ، أهلكتني القروض مثل جميع الناس " (ص 32) ، وهو الموقف الذي سيدفعه إلى أخذ نفس المسافة من البطل التي كان يتعمد أخذها في البداية ، كما ورد في مقدمة النص ، يقول : " رجل أعرفه قليلا وأجهله كثيرا . لا يترك لك فرصة لتعرف عنه أصلا أو فصلا " (ص 25). " ظلال حارقة " بهذا المعنى ، هي ظلال الحسرة والألم ، الصمت والقهر والخوف . فالسخرية في قصص المجموعة تطرقت كذلك لواقع التعليم بالمغرب ، وهي تضعه على محك السؤال والمقارنة والتأمل ، في نص " صدى الذاكرة " (ص 49) ، وكما تحيل العتبة على ذلك هو استرجاع لزمن ولى ، انطلاقا من رصد واقع معاش داخل فضاء القسم ، بحيث سيرغم النوم المعلم ليسافر نحو عوالمه الخاصة ، لتطفو معالم زمن ولى لم يستطع التخلص من تبعاته ، وهو ما جعل البطل حسب السارد مشدودا إليه بقوة ، يقول : " قابع بين عالمين متناقضين ، عالم أحكمه وعالم يحكمني ، عالم أعيشه وعالم يعيشني ، عالم أسكنه ، وعالم يسكنني " (ص 49). إن هذا الطرح هو المتحكم في سراديب النص الذي يرصد كتابة متوازية بين الواقع ، والحلم الذي سيلج إليه البطل بفعل تأثير النوم عليه ، فيقول : " لم تدم مقاومتي طويلا ، حتى وجدت نفسي في عوالم لم أعد أتحكم فيها ، بدأت صور تنفلت من قبضة الماضي لتنساب أمامي تباعا " (ص51) وإذا كانت محنة البطل مع النوم داخل الفصل أزلية ، فإنها توازي واقعا معاشا مع حادث أخر مماثل لفقيه القرية الذي تتلمذ على يديه السارد ، يقول عنه : " يحاول إيهامنا أنه متتبع لكل ما يجري أمامه ، بينما هو في النوم السابع ، وحين يستفيق فجأة يجدنا قد غيرنا مواقعنا وقد كسرنا قضيب السفرجل الممد بجانبه " (ص51 )، فهذه الصورة تتوازى مع حالة السارد البطل ، يقول : " وفيما كنت أنصت لصدى ذاكرتي ، وأتابع صورا تتراقص في مخيلتي ، كان التلاميذ قد تعاونوا بشكل مثالي ، والغبار يتطاير من النوافذ " (ص52 ) ، لكنها تختلف من حيث ردود الفعل وحدتها ، ولم تكن تتحول لعقاب بدني أو السب بكلام نابي ، كما كان يحدث مع الفقيه بعد انفلات زمام الأمور من بين يديه ، يقول السارد : " ضربت بقوة على المكتب ، فانتبهت وانتبه معي الجميع " (ص 53) ، في حين أن الفقيه كان " يأمر بإحضار قضبان الرمان الرخوة من العرصات القريبة " . " صدى الذاكرة " بقدر ما هي رصد لطفولة السارد ، هي في نفس الآن انتقاد للمنظومة التربوية والتعليمية بشقيها التقليدي والعصري ، كما أنها تبرز مزاجية في التعاطي مع الواجب ، ولا تتواني في استعمال العمل بأنواعه إزاء الأطفال . 2) ملامح الكائن المهزوم إنها نصوص تعرض الوجه الآخر لشخوص عاشوا في الظل وطوى النسيان ذكراهم ، وقد استرجعها السارد بكثير من الحنين والألم ، شخوص بقدر ما أثثت واقعا ، التقطت منه بعض الأنفاس الحارقة والصور المؤلمة ، النابعة من عمق حياة الفئات المهمشة في أزقة فاس العتيقة ك " العربي الكوايري / بوجمعة / .. وآخرون ، تركوا بصمات حارقة بذاكرته في نص " نشوة سريالية " (ص75 ) ، يسترجع السارد شخص " العربي الكوايري " وعلاقاته المشبوهة وسلوكه الشاذ مع عاهرة وكذا موته المفاجئ ، التي تعددت الروايات حوله . يقول السارد : " أجمع الكل على أن موته كان مشكوكا فيه ، بدليل تساقط شعره بشكل يدعو للدهشة " ، في إشارة إلى تسميمه من طرف صديقته ، وهو يسرد تفاصيل من واقع لقائه به ذات يوم رفقة (بوجمعة ) ، وما دار بينهما من نقاش حول هوية صورة امرأة ، كانت معلقة على جدار غرفته . تفاصيل بقدر ما تبرز بؤس واقع استفحل فيه أصحابه لتعاطيهم للمخدرات ، فتحولوا إلى فئة من الانتحاريين ونموذجا لفئة طحنها البؤس ، واقتنعت بلا جدوى الكد والأمل في الحياة . يبرز نص " السجين 1228 " (ص 39 ) مدى معاناة نزلاء السجون ، كما يرسم العديد من تفاصيل حياتهم اليومية التي تسير بإيقاع رتيب ، وهي تفاصيل بقدر ما تحمل من ألم وحرمان من الحرية ، تحمل في طياتها فظاعة كبيرة وإجهاض لأحلام غير متحققة . كما تبرز تناقضات مشاعر أفراد مزقتهم العزلة والموت . فالسجين رجل ميت حسب السارد مادام يعيش في قبور إسمنتية ، ويعاني من غياب الاهتمام بصحته ، مما يعرض حياته للموت بسبب الأمراض الفتاكة . كما أنه ممنوع من الاحتجاج الذي يسبب له الحبس الانفرادي . فالنص يبرز نفسية السجين من خلال ما ينقله السارد من تفاصيل ، بدءا بزنزانته ، وعلاقته داخلها مع بقية النزلاء ، وهي علاقة مشوبة بالعديد من النزاعات والصراعات المريرة من أجل البقاء ، هكذا تبدو أحلامهم وأمانيهم وما تشكل الأنثى في مخيلتهم كرجال . يقول السارد : " يداعبون مخيلاتهم في الليل ، فلا ترسم لهم ملامح خليلاتهم إلا في الصباح . يسترجعون نزيفهم كل ليلة ، ويتربصون بأحلام جديدة وآمال قديمة " (ص 39). ففي السجن يتكيفون مع منظومة جديدة غريبة ، لا تعير كثير اهتمام للقسوة أو الحب ، كون المشاعر هنا يتعامل بها حسب المواقف ، وهو ما يجعل من السلوك ترجمة للإحساس الداخلي وألم الذات المحطمة ، يقول السارد : " كنا ننام كل ليلة على ذكر الله ، ونستفيق على سب الملة والدين " (ص 42). كما أنه مكان لتوبة قد تكون نصوحا أو غير ذلك ، بحيث ينقل السارد موقفا عن أحد الشخوص في النص : " ( باعروب) يقول لمن تعاطى الصلاة حديثا ، حين يراهم وقد رفعوا أكفهم لسماء تحجبها أسقف متهرئة .. الهادي بن عيسى سئم منكم ومن دعواتكم ، كان وليا صالحا ولن يستجيب للفاسقين من أولاد القحاب مثلكم " (ص 40). ففي السجن تتحدد المرجعيات والمفارقات الأخرى ، لذوات بقدر ما تحمل من الندوب وما ترسب في أعماقها ولا شعورها من عنف وسلوك شاذ ، ومحاولات الإصلاح الحقيقي تبقى غائبة. فإعادة التأهيل والإدماج الاجتماعيين تواجه بسلوك مضاد ، يعمل على تحنيك النزيل في مجالات أخفها وطأ الإجرام . فالسجن هو المشتل الحقيقي لنمو العلاقات المتناقضة وتعميق نذوب جراح الذات التي تحجب رياح الحب ( حب الناس / الأسرة / حب الوطن ..) بكثير من البغض الذي ينمو وتقتات منه الروح كل ليلة . وسنلمس في نص أخر، كتابة نفسية تكشف عن الانهزام الإنساني وعوالمه المثقلة بالجنون والأوهام ، كتابة بقدر ما تعري عن الوهم الكامن في الأعماق ، تحيل على عنف مضاد نتيجة لسوء المعاملة ، ولكراهية وخيانة ومقت ستؤدي جميعا إلى نوع من الموت الرمزي. إن الجسد المتشظي بالعنف سيرتحق من مرارة الواقع ، ما يجعله قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في كل لحظة ، ولو على حساب الذات التي مهما خسرت من رأسمالها الرمزي ينتابها الإحساس بكون فعلها الانتقامي قد أشفى غليلها ، وطهرها من دنس الآخرين . إن صورة الرجل التي رسمت في ذاكرة المرأة المريضة نفسيا ( بطلة النص ) ، هي صورة مخالفة للواقع ، يقول السارد : " ألقت نظرة خاطفة على المرآة ، تمثل لها بجبينه المقطب وشارب خشن ، كثيرا ما أدمى شفتيها \..وغاب تتبعه خطاه المتناغمة وصوته المرعب .." (ص 66) ، ما يدل على حالتها المرضية كونها تتمثل صورته فقط على مرآة ، وكانت تعيش داخل دائرة الوهم ، وكونها غير مستقرة بشكل رسمي بمنزلها ، لوجود العديد من القرائن الدالة على ذلك : نظراتها المشتتة في أركان البيت / إحساسها بالغرابة / توهمها قتل الزوج / ملاحقته عبر السلالم ... ، وبالتالي موقف الجيران في نهاية النص . يقول السارد : " تذكروا أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تسوية جديدة لملف قديم ، فسحبوها بالسرعة التي أخرجوها بها " (ص 67 ). 3) صورة الجامعة المغربية وبطالة الخريجين في نص " التبع " (ص62 ) ، نلمس رصدا لواقع اجتماعي لرفاق السارد الذين قضى معهم ردحا من الزمن بالجامعة بين " بطالة " الواقع ، وأحلام اليقظة بمرارتها وضراوة لهيبها وقسوتها ، مناضل الأمس الذي كانت تتملكه أفكار نيرة ، ويعتنق فكرا تحرريا وإيديولوجية سياسية ، ستطوح به التحولات المرحلية بسبب الواقع الجديد الذي أضحى يعيشه في الفترة الانتقالية ، فرفاق الأمس " يستيقظون مفزعين في الصباح ، وقد أجهز الغسق على ما تبقى في مخيلتهم من أمان معطوبة ، يسقطون تباعا على خواء جيوبهم وخذلان حبيباتهم " (ص 62). وهذا الخذلان مرده حسب السارد إلى تفسخ المنظومة بأكملها ، ولم تعد صالحة لمسايرة تطورات سريعة فرضتها التحولات السياسية الجديدة في مختلف مناطق العالم ، بين انحصار المد الاشتراكي وتراجعه وانتشار الفكر الرأسمالي ووحشيته ، وبروز تيارات جديدة في الساحة كالإسلاميين. يقول السارد : " كنت أتأمل وردة بالأبيض والأسود ، ذبلت في مخيلتي ، ولونا سياسيا لم يعد يطمئنني .أقارن بين لحية ماركس الكثة ورؤوس المارينز الحليقة ..(و) لحي تمتطي في استرخاء ، وأخرى تمر أمامي بعد كل نداء إلى الله لتمارس طقوسها ، ثم تعود لنميمتها في رأس الدرب " (ص 63). في خضم هذا التحول الجارف ، يبرز رفاق الأمس على هامش المجتمع ، وهم لا يزالون يحملون من رموز الماضي الدالة على الانتماء والعقيدة ، سوى ما جاد به الواقع من مسخ وتحول وعزلة . يقول كذلك : " وجوه متيبسة ، منجل ومطرقة ، سلاسل ورؤوس تتدرج في دمائها ، قلوب مطعونة بسهام ، صور تسبح في عالمها الغرائبي ، وأخرى لنساء جميلات وشهيرات " (ص 62)، وهو ما سوف يقود إلى رصده من خلال غرفة رفيق الأمس ، يقول : " ويصبح المنجل المعلق فوق رؤوسهم بلا معنى " (ص 62 ). فحياة اللا- معنى ، بقدر ما تجسدت في الاعتقاد والانتماء السياسي / الإيديولوجي ، الذي لم يعد من بريقه المشرق سوى ذكريات بلا معنى ، فقد الحاضر معناه وتبرح محنة القلب والفشل في كل المجالات . جاء على لسان بطل النص : " أتدري ... كل شيء يبدو لي في هذه الغرفة أنثى ، وحدي هنا ذكر ، خذلتني خانت العهد بيننا (63) ثم أجهش بالبكاء بكاء مرا " ص (64) إن الذكريات المريرة التي تدفع بالرجال للبكاء ، تبرز عمق الانكسار والخيانة المتكررة من طرف : الحبيبة / الأصدقاء / الزمن ....، انكسار بقدر ما حطم صلابة إيديولوجيات ظن الجميع أنها ستحقق كل آمالهم وأمانيهم ، فتحولت إلى مجرد أوهام في ظل واقع الفاقة والفقر والمحسوبية ، وبالتالي تحول أغلبهم إلى الاستجداء من أصدقائهم . يقول السارد في نفس السياق : " با إدريس... ، شي قهيوة فلاكوميدي ...؟؟ " (ص 65). فنص (التبع) إحالة على رفاق الأمس ، الذين نبذوا أفكارا اعتنقوها وآمنوا بها ردحا من الزمن ، وتخلوا عن مبادئهم ليصبحوا حسب السارد من القوم "التبع"(ص 65). وستتجسد معاناة الشاب العاطل في نص " أحلام الطائر " (ص 77) ، وقد جمع من الشواهد ما يكفي لإحراق ذاته ، و يراكم سنوات من المعاناة والانتظار . فمن خلال تفاصيل مكررة وروتينية لحياة هذا الكائن القلق ، وهو يعيش بؤسا مزدوجا وحيرة قاتلة ، تبرز إلى الوجود الرغبة في الانتحار والموت ، وقد ابتلعه صمت قاتل وهو يتنقل بين مقهاه المفضل وساحات الاعتصام وبيت لا دفء فيه ولا رحمة. يقول السارد : " يتوجه قصدا إلى مقهاه المفضلة ، هناك وسط ضجيج الأصوات التي بلا معنى ، والعيون الشاردة بلا اتجاه ، يحط على كرسي كمجذوب بلا بوصلة " (ص77 ). إن هذا الوضع الرتيب ولد حنقا على الواقع وعلى الآخرين ، وقد دأب على مراقبة حركة المارة بنوع من المرارة : " بلا أمل يراقب المارة في صمت وحيرة ، لكنه لم يكن هذه المرة مسالما , قتل كم من جثة مرت من أمامه و(أحيى ) أخرى ، قبل أن يستسلم من جديد لصمته وحيرته " (ص77 ). إنه نوع من الاحتراق حول هالة نور ونار، لمثقف منبوذ ويائس سيفكر في طريقة فريدة ليتخلص من كل أثقاله وهمومه ، باللجوء إلى إحراق كتبه في ساحة عمومية ، ليتخلص من " معاناته وحيرته وكتبه وذكريات يعتبرها من أكبر أوزاره ". إنها قمة الغبن والشعور" بالحكرة" والإجحاف في حق الذات ، باللجوء إلى التخلص من كل ما يربط الذات الجريحة بماضيها المشرق ، فحتى الكتابة تضحى نوعا من العبء الثقيل الذي يجب التخلص منه (ولو على مضض) " تمنى لو يحرقوا ما خطته يداه ذات خطيئة ، يشنقوه على أبواب المدينة أو ينفوه داخل أسوارها ، لكنه حلم فاز به ( جاليلي) وحده " (ص78 ). إن هذا الطرح بقدر ما يبرز فداحة المعاناة النفسية للسارد ، فإنه يبرز في ذات الوقت واقع البطالة المستفحل في البلاد ، نتيجة لسياسات حكومية متعاقبة أدخلت الجميع في النفق الضيق ، وزرعت روح اليأس في شبابها وكل قواها الحية . " أحلام الطائر" صرخة ضد التهميش والقهر والنسيان ، ودلالة على جائحة يدفع ثمنها أجيال اقتنعت أن " الجميع يولد جاهزا للموت " (ص77 ). وستبرز رمزية الاحتراق في قصص إدريس الواغيش مداها في نص يحمل عتبة المجموعة " ظلال حارقة " (ص54 ) ، بحيث سيتجسد كعنوان لمرحلة جد قاسية من حياة السارد ، مرحلة البطالة المفروضة بالقوة على الطالب حديث التخرج من الجامعة ، يحمل شواهده دون القدرة على الحصول على فرصة عمل شريف . وهي بقدر ما تستعرض البؤس والتيه ، فإنها تعلن عن التذمر والسخط والحيرة داخل مجال محتقن . لقد نجح السارد في الربط بين أكثر من زمان ومكان ، ضمن كتابة اعتمدت التوازي بين حدثين وزمنين ، يعمقان الإحساس بالوحدة والاغتراب في زمن حاضر، وبين الإحساس بالنبذ التاريخي لطرد المسلمين من الأندلس والطرد من قلب الحبيبة ، إضافة إلى الحكم الصادر في حقه بالإفراغ من المنزل الذي يكتريه ، ومن قلب حبيبته " أمينة" عشيقته السابقة ، ويشيد السارد مقارنا بين عشق (ابن زيدون) لولادة من خلال خلق تناص تاريخي ، فتتحول العشيقة إلى " قرطبة " أخرى في أندلس أخرى لن تكون إلا مدينة " فاس " . يغادر فيه قلب حبيبته مكرها وقد " غمره الحنين إليها ، وإلى أحلامه القديمة ، لكنه مسح كل الصور دفعة واحدة ، كمن يضغط على الزر " (ص 54 ). إن هذا الوأد للمشاعر يوازيه واقعيا قتل آخر للأحلام ، ولواقع البطالة التي يعيشها بعض أفراد أسرته كما جاء على لسان الأم " الله يسهل عليكم أوليداتي ...بناقص من الجامعة ولا من هاد القراية وشنو يجي منها " (ص 56) ، واقع تعكسه الظلال الحارقة لمقهى " الأندلس " وصراعه اليومي مع صاحبها ، يقول السارد : " استقر رأيه أن يلتجئ إلى مقهاه المعتادة ، متمنيا أن لا يكون " المعلم " هناك ، سيبحث عن نفسه تحت ظلال حارقة " (ص 57 ). فالنص بقدر ما يبرز الواقع المرير، والفراغ المهول والحيرة الضاربة في الأعماق ، فإنه يعكس أيضا واقعا آخر، يحكي من خلال صراع نفسي صامت ، يحترق بظلال المقهى ومؤثثاتها ، يقول السارد : " وحين يمتلئ اغترابا ، وتضيق من حوله الكلمات ينزل إلى عالم الأرض ... ، ينحني ليفك ألغازا ويملأ فراغات أكبر من فراغه " (ص 57 ). وهذه الحالة بقدر ما تنذر بتناص مع واقع تاريخي مفجع بالنسبة للعرب والمسلمين ، تتحول إلى واقعة منسية لكل خيباتهم ، ونتائجها لا تزال بادية للعيان : " في مقهى الأندلس ، ينسى التاريخ الذي درسه ، ويستمر وحيدا كجغرافيته ، كأنه لم يقرأ ، ولم يتعلم .فكر كثيرا و نطق قليلا ثم صمت . كل المصائب جاءتك من هناك " (ص58 ) ، وهو احتقان سيبرز تفاوتا طبيعيا ببلاغة مثيرة يقول : " إلى هذا الحد أصبحت عاجزا عن ملء فنجان قهوة . والأميون في بلدي يملأون أرصدتهم وحساباتهم البنكية " (ص 59) ، لقد تحول مقهى الأندلس بحمولاته السياسية والثقافية والتاريخية ، إلى مكان لتفجير الألم وعالما للحسرة وملاذا للانتظار والتأمل المرير، يقول السارد : " ككل يوم بمقهى " الأندلس " في المدينة العتيقة ، ينظر إلي الغيمة الحمراء المنتصبة أمامه ، يرى فيها خريطة وعلما ثم أحلاما وإبهاما " ويضيف في نفس السياق : "جالسا تحت ظلال حارقة ينظر إلي ، كأنه يقرأ طالعه ويحلم بأشياء كثيرة " (ص 60) " وحتى مغادرته للمقهى مرغما بسبب مضايقات رب المقهى ، يظل في مخيلته أكثر من سيناريو جديد لأحلام قديمة . تذكر أنه سيظل هنا جالسا تحت ظلاله الحارقة " (ص 62 ). وستتجلى ملامح الكائن الشهري وبؤسه الحارق ، فالتحصيل والتفوق داخل حلبة صراع كبيرة كالجامعة يصطدم بمعيقات النضال وأجواء العالم الجديد ، الذي بقدر ما يفتح آفاقا في وجه البعض ، يعرقل مسار البعض الآخر، ما يشبه نوعا من الوأد ، وقد سقط الداخل إلى غابتها واختلطت عليه السبل. يقول السارد عن بطله علي ( عليلو) : " لم يعد يعرف كيف يوازي بين واقعه المر وطموحاته التي لا حد لها ، فسقط في الدرج الأول من السلم ، وبذلك تبخرت أخر طموحاته " (ص 68). وقد تحول في النهاية إلى كائن منهزم ، زاده الأمر ألما .فعلي كان ضحية المظاهر الخادعة التي يراها كل يوم ، وهو الطالب الفقير القادم من الأرياف ، لا يملك إلا طموحاته " (ص69). إن هذا القتل المعلن يدفع الخريج إلى القبول بأية وظيفة ، وبأي راتب مهما كان هزيلا فقط لسد رمقه ، وهو ما يولد قناعة مبهمة وسخطا جامحا وأبديا ، وتحوله إلى كائن جديد يدور وسط حلقة مفرغة . ولعل استعراض السارد لحالة علي النفسية تبرز بوضوح تناص العتبة " صمت الكلام " مع واقع معاش بائس يقول : " يركن إلى كرسي وطاولة في أقرب مقهى يصادفها ، يأخذ ورقة وقلما ويبدأ في جرد ما عليه من ديون وواجبات " تتناسل المتطلبات وتكثر الأسئلة " (ص 70) التي يواجهها بصمت مطبق وقد دخل دوامة جديدة ، امتصت فورة حماسه وآماله متطلبات أخرى واقتطاعات غير منتظرة أخرى من راتبه . " صمت الكلام "عنوان صارخ على المعاناة النفسية للموظف البسيط ، ودلالة واضحة على واقع الملايين من البشر يعيشون برواتب تجعلهم بالقوة تحت عتبة الفقر . 4) علاقات إنسانية في مهب الريح تتجلى تفاصيل قصة حب قديمة يستحضرها السارد أثناء حلم البطل ، والحلم بهذا المعنى تفجير لمكبوتات الذات ولكل مسكوت عنه ، وهو ما يبرز نهاية النص. يقول السارد : " انتبهت ، لم يكن في البيت أحد بجواري على السرير . كنت أنا ، وحدي فقط .أحسست ببل بارد ، أفسد علي ما تبقى من سكرات النوم " (ص 24). فالنص بقدر ما يسرد تفاصيل قصة حب قديمة ، يبرز نوعية العلاقة في مرحلة المراهقة وعنفوان الشباب ورعونة الجسد ، ومقاومته التي تذوب أمام جسد بض يقول السارد: " انتابني لأول مرة إحساس بالندم .شعرت برهبة الجمال وجبروته لأول مرة في حياتي ، فانتابني مزيج من الحسرة والذوبان وقليل من الخوف والقلق "( ص 19). فالحب يلف النفس وأيضا بفقدها توازنها ، ويجعلها تتحول بشكل سريع نحو اتجاه معين يلفه الاستسلام والتأمل والخوف والرهبة ، لكن هذا الحب هو نفسه الذي سوف يتحول إلى طوفان جارف ، جراء الغيرة التي يتلوها ندم وحسرة . يقول السارد بعد فراق دام سنوات وهو يسترجع ذكرى قصة حبه الكبير " نعم ...، أقر الآن أنني أخطأت في حقك ، وأنا أصدقك بلا إحساس. أمثلك من توصد الأبواب في وجهها ؟ لست أدري لم اعترتني كل تلك البلادة دفعة واحدة " (ص 23). وإلى جانب القصص ، نلمس كذلك تفاصيل سير- ذاتية عن مرحلة المراهقة وفورة الشباب . فيقول: " مرة ونحن صعاليك نجوب أزقة المدينة القديمة ، نتحرش بالفتيان والفتيات على السواء ، وبعض النساء العاهرات والمطلقات الغاويات للمعاكسة ، نستلذ بالبحث ( كما كنا نعتقد) عن مشاجرات للتسلية " (ص 20). وهذا العنف الذي يكون ناتجا عن فورة النفس والاعتداد بها في مرحلة الدراسة ، هو أمر شائع بين مختلف شباب تلك المرحلة . يسوق السارد مشهدا من داخل المؤسسة التي كان يدرس بها قائلا : " منت ميالا إلى العنف يومها ، كحصان بري يحتاج إلى ترويض ، ربما كانت طريقتي المثلى ( في اعتقادي ) لإثبات الذات مع المراهقين من أمثالي " (ص 19). نص " ارتواء" ، هو في الواقع نفحات من الحكي السير- ذاتي بامتياز ، يسوقها الكاتب على لسان سارده عن قصد ، وقد برز ذلك من خلال صمته لحظة أثناء السرد بحيث يكون مرة على لسان السارد ، وأخرى على لسان حبيبته التي تنطلق باسمه " صدقني أرجوك ، فأنا والله صادقة ...، صادقة ..." (ص22) . أو من خلال التصريح بذلك علانية يقول على لسانها مرة أخرى ، وهو يهم بها في نشوة وفرح " على رسلك يا إدريس ...، أنا الليلة لك .كلني كما تشاء ، وكيفما تشاء " (ص 23 ). في نص " جسد واحد وأمكنة متعددة " (ص 44). بقدر ما نجد حكيا عن الأمكنة التي استأثرت باهتمام السارد ، فإنه في الواقع يسرد معاناة الطفل الصغير " يوسف " بين تمزقه العاطفي وإحساسه بالانتماء للمكان . فبالرغم من تواجد الطفل بالمدينة ، تظل البادية المكان الذي ينفلت فيه من كل رقابة اجتماعية ، حيث الإحساس بالحرية والاستقلالية وتحقق الذات ، أمر انعكس على تصوراته لمفاهيم جديدة ، منها متعة السفر الذي ظل مختزلا في نظرة مبهمة وغامضة ، وهو يرد على سؤال الأستاذ " لكني أسافر ليلا رفقة أسرتي ، مكدسين مع أناس لا أعرفهم ، فيخالجني نوم لا أستفيق منه إلا في الصباح على أصوات الأنعام والفلاحين ، وهم ينشدون مواويلهم الصيفية في الحقول "( ص 47). إن مفهوم المجال الفاصل بين المدينة والقرية ، يظل بالنسبة للطفل البطل غائبا ، وبالتالي هاجسا تتوزعه الذات المنشطرة في انتمائها إلى مكانين أو أكثر ، معزولين بالقوة لا رابط بينهما سوى ليل بهيم وسيارة نعبر طريقه المظلمة . وبقدر ما شكلت البادية مجالا فسيحا حيث للنعم بالحرية سيتولد الإحساس بتحقق ذات البطل ، ستظل المدينة بصورها الجامحة وعمرانها المشوه منغصا عليه في أبهى لحظاته. لنتأمل هذه القرينة السردية حيث يقول السارد : " حين يكون في البلدة ، يكون منسجما مع ذاته ، مع أصله ، ومع أصدقاء الصبا ، لكن فجأة وهو يجري بمحاذاة مع الوادي ، يخطر بباله صور أصدقائه بالمدينة : أترى مازال خالد وفيا لعاداته ؟ يتسلل مع ( ولد فاطنة ) بين الركاب إلى الحافلة ، في رحلة خوف رهيب من مراقبين يطاردونهم كالأشباح " (ص47 ). تمزقات ذات الطفل بقدر ما أبرزتها مواقف السارد ، عبرت عنها بجلاء إشاراته للعديد من الأمكنة والمتناقضة في نفس الوقت ، وهي تبرز الوجه البائس داخل مجالات جغرافية متعددة ( بادية / مدينة ..). ففي بداية النص نلمس صورة مشوهة لبناء العشوائي ( دوار الكارطون ) .. المرمي على أطراف المدينة " (ص 44) ، وهو دوار حسب السارد " دوار قمامة " تجمت فيه نفايات" الكاراجات" المجاورة ، وقصدير المعامل المفككة وعلب "الكارطون " . وبين باديته التي بصورها السارد بشاعرية وحب وحنين ، يقول : " كان يوسف بالبادية يمرح بين أشجار التين والزيتون ، يستمع برؤية العصافير، وهي تحتفل بحريتها فوق الأشجار .وينعم بالظلال الوارفة فيها وبصفاء الثلوج البيضاء شتاء ، يستنشق الهواء النقي على مدار السنة " (ص45 ). ففي القرية نلمس تصالحا مع الذات والدفء والجمال ، بمؤثثات المكان بجباله وأنهاره وطيوره وأشجاره ، يغدو العامل الحاسم في إجراء مقارنة سعيا نحو الأفضلية الضمنية . وهو الإحساس نفسه ، ما شكل الهاجس في الإحساس بعدم الانتماء لمكان محدد سوى ما تحفظه الذاكرة . يقول السارد : " هكذا أصبح يوسف الصغير منقسما ، هو لا يعرف لأي جيل ينتمي ، ولا لأي مكان أو عالم ينتسب : القرية أم المدينة ؟ " (ص 47). فهو جسد واحد تتوزعه أمكنة متعددة ، تنذر بالتمزق وبطفو أسئلة حارقة. إنها قصص تقيم العديد من المقارنات ، وتبرز مفارقات ساخرة بين بادية غارقة في النسيان ، تضمد جراح ما بعد الاستقلال وإجهاض أحلامها ، ما خلفه ذلك من تبعات المستعمرين الجدد ، ومدينة اختل توازنها واتسعت فيها الهوة بين طبقاتها. لتضحي مجموعة "ظلال حارقة " بهذا المعنى ، صرخة مدوية ضد الاستغلال والوأد الحقيقي للقيم الفاضلة وللكرامة الإنسانية ، ولصور الطفولة البريئة وهي تصطدم بواقع انتقال رهيب من بيئة لأخرى ، ومن قيم لأخرى غزتها قيم الغرب وغاب فيها كل تكافل أو تضامن حقيقيين .