نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب        في لقاء مع الفاعلين .. زكية الدريوش تؤكد على أهمية قطاع تحويل وتثمين وتسويق منتجات الصيد ضمن النسيج الإقتصادي الوطني    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    كيوسك الخميس | 80 في المائة من الأطفال يعيشون في العالم الافتراضي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    الفتيان يواصلون التألق بالفوز على ليبيا    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    بوريطة يستقبل رئيسة برلمان صربيا    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون    مجموعة سويسرية تعزز حضورها في الداخلة بالصحراء المغربية.. استثمار متزايد في الطاقات المتجددة        ولد الشيخ الغزواني يهنئ الملك محمد السادس بمناسبة عيد الاستقلال    ارتفاع طفيف في تداولات بورصة الدار البيضاء    العصبة الوطنية لكرة القدم الاحترافية تقرر تغيير توقيت انطلاق ديربي البيضاء    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الأربعاء    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    تفاصيل نجاة فنانة مصرية من الموت        نادال مودعا ملاعب التنس: " أريد أن يتذكرني الناس أنني كنت شخصا طيبا قادما من قرية صغيرة قرب مايوركا"    تلاميذ مغاربة يحرزون 4 ميداليات في أولمبياد العربية في الراضيات    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتابة والسيرة الذاتية : " ظلال حارقة " للقاص المغربي إدريس الواغيش نموذجا
نشر في طنجة الأدبية يوم 21 - 02 - 2012

اتسمت مجموعة " ظلال حارقة " للقاص المغربي إدريس الواغيش بميولها نحو الكتابة السير- ذاتية ، وهي ترصد عوالم الهجرة المعاكسة نحو القرية ، التي من خلالها تفتح قوسا لانتقاد المنظومة الاجتماعية بأكملها من استبداد ، تسلط ، قهر، فقر وعزلة الذات داخل فضاءات متعددة ، بقدر ما ظلت تشكل إعاقة حقيقية في وجه أصحابها . فالأمكنة في هذه النصوص ساهمت في تحديد نوع من العلاقة بالمجال تباينت بين الحب والكراهية ، من خلال نسيج متشعب من العلاقات الإنسانية سواء العامة أو الخاصة ، وقد لفها حزن وخوف وترقب انعكس على نفسية شخوص المجموعة .
فالمدينة هي رمز الظلال الحارقة ، مثلتها البطالة ( حملة الشواهد العليا ) وخريجي الجامعات والموظفين الذين يعيشون على إيقاع أجرة لا تسمن ولا تغني من جوع ، ومتشردين ومساجين وشخوص أخرى عرت الوقائع ، معبرة عن بؤسها الضارب واختلال أوضاع حياتها وكشف زيف مظاهرها الخادعة .
لقد رصد القاص إدريس الواغيش محطات أساسية وفترات حرجة حياتية ، وكشف عن رؤية ثاقبة واستيعاب لمظاهر استفحال أزمة خطيرة ، تتجاوز العلاقات العامة إلى الحياة الخاصة والعاطفية والعلاقة داخل الأسرة المتعددة الأفراد ، والغارقة في انتظارات وأحلام بعيدة المنال . هذه المعاناة ستبرز للعيان مدى القسوة التي اكتوت بها فئة من المغاربة إبان ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ، وهو ما أعطى النصوص ملامح واضحة من القسوة سواء بأزقة مدينة فاس العتيقة ، أو حتى في قرية " أيلة " التي ينتمي إليها ، و التي من خلالها برز الإخلاص للأصول وكشف النقاب عن عشق طافح ، حول الأمكنة لمنجم حقيقي للحكايات المتعددة . والسارد يستعرض جانبا من تاريخها ، وأمزجة سكانها ونزوح بعضهم إلى الهجرة نحو المدن للعيش في أحزمة الفقر فيها .
لقد شكل الاصطدام الأول بالمدينة ، ظهور نوع جديد من المعاناة بامتياز، تأرجح بين صعوبة التأقلم ، والاندهاش من وثيرة الحياة المتسرعة التي يصعب مجاراتها ، بما تشكله من معيقات للاندماج حول تلك المناطق ، بوادي (مدينية) أخرى على هوامش مدن الاستقبال/ فاس نموذجا .وهو ما ولد نوعا من الاحتقار للذات وكراهية للمكان ، وبالتالي للمنظومة الاجتماعية من نزوح نحو الانحراف ، أو العيش بكرامة في ظل صمت وفقر حارقين ، وأنفة أبرزت بالملموس ألم الذات واحتراقها البطيء ، ودهشتها الأولى في علاقتها بمجال الاستقبال الجديد ، كما سنرى مع البطل في نص : " جسد واحد وأمكنة متعددة ".
لقد تحولت المدينة إلى وطن يعكس كل الفوارق الاجتماعية ، ويبرز جراح الفئات البائسة الوافدة ، ليضحى سؤال الماهية والانتماء منفذا للتعبير عن الرفض ودليلا عن سخط في مواجهة سلط متعددة : سلطة المال / النفوذ / البنوك / النظام /.... ، ويتحول المواطن معها إلى كائن شهري بامتياز ، مثقل بالضرائب والديون في ظل أزمة بطالة خانقة ، وهو ما أبرز نوعا من التمرد والسخط على الواقع ، بدافع الرغبة في المقاومة للاستمرار في الحياة .
وستبرز من خلال تحليلنا لنصوص المجموعة كذلك ، صورة الجامعة المغربية وبطالة الخريجين وفشل كل الآمال المعلقة على مشجب الانتظار، بزيغها عن مسارها وما تسببت فيه من انتكاسة حقيقية وتراجع للتحصيل ، مما عرى عن صور الانهزام الإنساني وأبرز جنون وظلال حرقت الذات المقموعة والبائسة .
للإشارة فالمجموعة صادرة سنة 2011 عن مطبعة أنفو برانت بفاس ، وتضم ثمانية وعشرين نصا قصصيا متفاوتة الطول .
ظلال ساخرة وسيرة ذاتية مفعمة بالحزن
بقدر ما نلمس في المجموعة حكيا سير- ذاتيا ، نشعر بحرقة رصد واقع لبطل مغمور إبان سبعينيات القرن الماضي ، وظروف عيشه الصعبة والقاسية ، فإذا كانت الهجرة سببا في اغتناء البعض ، فإنها كانت سبب تعاسة البعض الآخر، ك" "ماتيو" الذي عاد خالي الوفاض من غربته الفرنسية ، لنفس المكان الذي لفظه ، كي يمارس طقوس حياة متحررة من كل القيود ، بحثا عن نوع من الإنصاف في ظل فقر مدقع .
عودة " ماتيو" نص بقدر ما ينضح بكبرياء النفس وعزتها ، يبرز كذلك هدر الطاقات الشابة في ظل واقع مأزوم ، رغم تحرره من الاستعمار الفرنسي لو يتحرر من موروثاته القديمة ، التي سيتم هدمه بمعول التمرد والمواجهة والرفض .
هكذا يستعرض النص بالانتقاد لأساليب الحياة الغارقة في التفكير الغيبي ، والشعوذة ، والزنا المقنع بالتقوى ( الفقيه) والاستبداد ( السلطة الحاكمة والقواد) بالبادية المغربية ، وطريقة تعاملها مع الفرد . كما يبرز من خلال إقامة نوع من المقارنة بين المغرب وفرنسا تحديدا ( المستعمر) . ف " ماتيو" نموذج لشباب المغرب القروي ، وهو" رمز للكبرياء والمثقفين في البلدة ، ودما مهدورا للشباب الطامح للقفز إلى الضفة الأخرى بأي وسيلة " ,(ص11 ) ف "ماتيو" بطل القصة ، قد أسس لنفسه عالما خاصا " يتأسف لحال المقهورين ، ولا يكف عن سب ( المخزن) وموظفيه الصغار ، ما دامت عيونه لا تسمح له بمعرفة ما يجري في عالم الكبار " (ص12).
إن رصد واقع الفقر بسخرية سوداء ، سيستمر في نصوص أخرى كنص " ضيافة " (ص13) ونص " تعويذات لذاكرة الأمكنة " : (ص15) ، حيث نلمس الإشارة إليه كعامل أساسي بهيمنته الطافحة ، بشكل رهيب في كل الفضاءات ، ويولد الإحساس بالانقباض حتى في أكثر المساحات اتساعا . هذا الإحساس الذي سيترجم كعامل داخلي نفسي ، بقدر ما هو نابع من مؤثثات المحيط نتيجة التوتر. وسنلمس كيف أن العامل المادي يكون في الغالب محددا في اختيار أماكن أثيرة ( الحديقة / المقهى ...) ، مما جعل العلاقة بالمجال تتأرجح بين الغواية والرفض . يقول السارد مثلا : " رواد المقهى ونظراتهم للعابرات وضحكاتهم المجلجلة "( 15) ، وهذه النظرة ستشمل مؤثثات المجالات الأخرى ، كأصحاب المحلات التجارية وهم ينصبون شباكهم على الزبناء ، بينما الحسرة تلف البطل حسب السارد باعتباره من أصحاب الجيوب الفارغة ، والتي ستجعله ينزوي لالتقاط أنفاسه المتقطعة من الإعياء ، وهو الذي آمن بواقعية أمره حد القسوة . يقول " كان الحكم أكبر من أن تستوعبه حوالة هزيلة ، لم تمهلني طاحونة الواقع أن أنتشي قليلا ....، اختليت بنفسي تحت ظلال حارقة لشجرة زيتون أستنجد بها صبرا ، وآخذ تحتها قسطا من الراحة ... " (ص17) .
وسيبرز احتقار الذات في ظل الأزمة مداه ، ممزوجا بانتقاد ساخر للمنظومة الأخلاقية ، وبقدر ما يعلو الوصف في نص : " بعيدا عن ظلال القلعة " (ص25) ، سيبرز صوت السارد الداخلي الذي بلغ درجة عالية من الدقة ، من خلال تشييده لمواقف لم يتم الإعلان عنها ، لكنها ظلت طي الكتمان بالنسبة للمحيط ، وهو يصور واقعا مأساويا لشريحة عريضة من المواطنين الذين أرهقتهم الديون ، كما عرت زيف المظهر الذي يخفي وراءه بؤسا ضاربا في الأعماق بقوة ، بسبب الوجع والألم الصامت والحيرة المتقدة .
فالنص بقدر ما يبرز حتمية الغرق في الديون كدافع نحو الصمت ، فإنه يؤكد بما لا يدع مجالا للشك حسب السارد أن : "المدين مهزوم دائما " (ص 28) ، وهو ما يجعل من الصمت في المواقف الحرجة دافعا نحو السكينة والتحكم في الأعصاب ، رغم توترها إلى حدود ها القصوى ، ويبرز حوارا داخليا للسارد مع نفسه في مساءلة الذات : " هل راق لك المشهد يا إدريس ؟ هل غيرت فيك ديون لم تستأنس لها شيئا ؟ لماذا أصبحت خاضعا طائعا على غير عادتك ؟ " (ص 28) .
إن هذه الأسئلة الحارقة ، بقدر ما نلمس جوابا لها بين ثنايا النص ، فإنها تدفعنا إلى وضع السارد تحت مجهر خاص يقول : " تمنيت لو أن هذا الزمان استبدلني بآخر ، نقلتني الجغرافية إلى بقعة نائية لأنجو بكبريائي أو التهمني وحش خرافي ، وانتهى أمري " (ص29 ).
إنها قمة المعاناة والتمزق الداخلي ، وجها لوجه أمام الاصطدام بواقع مرير، وهو انكسار سيتوازى مع صورة انكسارات أخرى لبطل النص ، يقول السارد : " حين مر بنا عند الخروج ، وقف كأنه يريد أن يقول شيئا ، أحسست بكبريائه قد انهار، وبغموضه قد تلاشى " (ص 29) . وهي صورة لانهيار كائن بشري في نظرة أخرى ، تبرز عنف ومهانة لا يدركها سوى صاحبها " بدت معالم صورة جديدة ترتسم في مخيلتي ، لرجل حسبته فولاذيا لا ينكسر ، لكنها لعنة الديون وجبروتها ... " (ص 31).
فالصوت الداخلي سيستمر في ظل هيمنة رهيبة وصمت هادر: " قلت مع نفسي ( ..) هل حرام إذا سأل الإنسان في هذا البلد ؟ ألا يحق له كمواطن حتى السؤال ، عن كم شهر وصبر يلزمه مثلنا ، قبل أن ترفعوا سيوفكم عن رقبته / رقابنا ؟ " (ص 30) ، وهو ما سيدفع السارد إلى إيهام القارئ بصراخه القوي ، لكنه صراخ ظل حبيس الصدر دون القدرة على إخراجه مجلجلا ، ما عبر عن حالة من الغيظ المكتوم والاحتراق بظلال صمت قاتل ، يقول : " لكن ذلك لم يمنعني من الصراخ ، وكأني أصرخ في وجه المال والرأسمال ومن يدير المال وسلطة المال ، كلما علا صراخي أنسحب الناس ممن حسبتهم سندا لي وللرجل " (ص 30) ، وهو ما أعلن عن تهريب الحدث الواقعي نحو عوالم داخلية ، نظرا لعامل التجربة والحنكة في مثل تلك المواقف التي يتم فيها الخذلان . يقول السارد : " حين فتحت عيني ونظرت ، أحسست برعشة من البرد تلفني والعرق يتصبب من وجهي ، وعنقي . كنت متأكدا كذلك من أنني حتى وإن تكلمت ، لن أظفر بأكثر من علامات الدهشة تراقبني وأعين تلاحقني " (ص 31).
إن هذا الموقف سيدفع السارد إلى توجيه سهام النقد للمنظومة الأخلاقية برمتها ، وإلقائه باللائمة على الآخرين : " هم من صنع مني شريفا وبطلا . أنا درويش بحالي بحالهم ، أسكن حيا شعبيا ، أهلكتني القروض مثل جميع الناس " (ص 32) ، وهو الموقف الذي سيدفعه إلى أخذ نفس المسافة من البطل التي كان يتعمد أخذها في البداية ، كما ورد في مقدمة النص ، يقول : " رجل أعرفه قليلا وأجهله كثيرا . لا يترك لك فرصة لتعرف عنه أصلا أو فصلا " (ص 25).
" ظلال حارقة " بهذا المعنى ، هي ظلال الحسرة والألم ، الصمت والقهر والخوف .
فالسخرية في قصص المجموعة تطرقت كذلك لواقع التعليم بالمغرب ، وهي تضعه على محك السؤال والمقارنة والتأمل ، في نص " صدى الذاكرة " (ص 49) ، وكما تحيل العتبة على ذلك هو استرجاع لزمن ولى ، انطلاقا من رصد واقع معاش داخل فضاء القسم ، بحيث سيرغم النوم المعلم ليسافر نحو عوالمه الخاصة ، لتطفو معالم زمن ولى لم يستطع التخلص من تبعاته ، وهو ما جعل البطل حسب السارد مشدودا إليه بقوة ، يقول : " قابع بين عالمين متناقضين ، عالم أحكمه وعالم يحكمني ، عالم أعيشه وعالم يعيشني ، عالم أسكنه ، وعالم يسكنني " (ص 49).
إن هذا الطرح هو المتحكم في سراديب النص الذي يرصد كتابة متوازية بين الواقع ، والحلم الذي سيلج إليه البطل بفعل تأثير النوم عليه ، فيقول : " لم تدم مقاومتي طويلا ، حتى وجدت نفسي في عوالم لم أعد أتحكم فيها ، بدأت صور تنفلت من قبضة الماضي لتنساب أمامي تباعا " (ص51)
وإذا كانت محنة البطل مع النوم داخل الفصل أزلية ، فإنها توازي واقعا معاشا مع حادث أخر مماثل لفقيه القرية الذي تتلمذ على يديه السارد ، يقول عنه : " يحاول إيهامنا أنه متتبع لكل ما يجري أمامه ، بينما هو في النوم السابع ، وحين يستفيق فجأة يجدنا قد غيرنا مواقعنا وقد كسرنا قضيب السفرجل الممد بجانبه " (ص51 )، فهذه الصورة تتوازى مع حالة السارد البطل ، يقول : " وفيما كنت أنصت لصدى ذاكرتي ، وأتابع صورا تتراقص في مخيلتي ، كان التلاميذ قد تعاونوا بشكل مثالي ، والغبار يتطاير من النوافذ " (ص52 ) ، لكنها تختلف من حيث ردود الفعل وحدتها ، ولم تكن تتحول لعقاب بدني أو السب بكلام نابي ، كما كان يحدث مع الفقيه بعد انفلات زمام الأمور من بين يديه ، يقول السارد : " ضربت بقوة على المكتب ، فانتبهت وانتبه معي الجميع " (ص 53) ، في حين أن الفقيه كان " يأمر بإحضار قضبان الرمان الرخوة من العرصات القريبة " .
" صدى الذاكرة " بقدر ما هي رصد لطفولة السارد ، هي في نفس الآن انتقاد للمنظومة التربوية والتعليمية بشقيها التقليدي والعصري ، كما أنها تبرز مزاجية في التعاطي مع الواجب ، ولا تتواني في استعمال العمل بأنواعه إزاء الأطفال .
2) ملامح الكائن المهزوم
إنها نصوص تعرض الوجه الآخر لشخوص عاشوا في الظل وطوى النسيان ذكراهم ، وقد استرجعها السارد بكثير من الحنين والألم ، شخوص بقدر ما أثثت واقعا ، التقطت منه بعض الأنفاس الحارقة والصور المؤلمة ، النابعة من عمق حياة الفئات المهمشة في أزقة فاس العتيقة ك " العربي الكوايري / بوجمعة / .. وآخرون ، تركوا بصمات حارقة بذاكرته في نص " نشوة سريالية " (ص75 ) ، يسترجع السارد شخص " العربي الكوايري " وعلاقاته المشبوهة وسلوكه الشاذ مع عاهرة وكذا موته المفاجئ ، التي تعددت الروايات حوله . يقول السارد : " أجمع الكل على أن موته كان مشكوكا فيه ، بدليل تساقط شعره بشكل يدعو للدهشة " ، في إشارة إلى تسميمه من طرف صديقته ، وهو يسرد تفاصيل من واقع لقائه به ذات يوم رفقة (بوجمعة ) ، وما دار بينهما من نقاش حول هوية صورة امرأة ، كانت معلقة على جدار غرفته .
تفاصيل بقدر ما تبرز بؤس واقع استفحل فيه أصحابه لتعاطيهم للمخدرات ، فتحولوا إلى فئة من الانتحاريين ونموذجا لفئة طحنها البؤس ، واقتنعت بلا جدوى الكد والأمل في الحياة .
يبرز نص " السجين 1228 " (ص 39 ) مدى معاناة نزلاء السجون ، كما يرسم العديد من تفاصيل حياتهم اليومية التي تسير بإيقاع رتيب ، وهي تفاصيل بقدر ما تحمل من ألم وحرمان من الحرية ، تحمل في طياتها فظاعة كبيرة وإجهاض لأحلام غير متحققة . كما تبرز تناقضات مشاعر أفراد مزقتهم العزلة والموت . فالسجين رجل ميت حسب السارد مادام يعيش في قبور إسمنتية ، ويعاني من غياب الاهتمام بصحته ، مما يعرض حياته للموت بسبب الأمراض الفتاكة . كما أنه ممنوع من الاحتجاج الذي يسبب له الحبس الانفرادي .
فالنص يبرز نفسية السجين من خلال ما ينقله السارد من تفاصيل ، بدءا بزنزانته ، وعلاقته داخلها مع بقية النزلاء ، وهي علاقة مشوبة بالعديد من النزاعات والصراعات المريرة من أجل البقاء ، هكذا تبدو أحلامهم وأمانيهم وما تشكل الأنثى في مخيلتهم كرجال . يقول السارد : " يداعبون مخيلاتهم في الليل ، فلا ترسم لهم ملامح خليلاتهم إلا في الصباح . يسترجعون نزيفهم كل ليلة ، ويتربصون بأحلام جديدة وآمال قديمة " (ص 39).
ففي السجن يتكيفون مع منظومة جديدة غريبة ، لا تعير كثير اهتمام للقسوة أو الحب ، كون المشاعر هنا يتعامل بها حسب المواقف ، وهو ما يجعل من السلوك ترجمة للإحساس الداخلي وألم الذات المحطمة ، يقول السارد : " كنا ننام كل ليلة على ذكر الله ، ونستفيق على سب الملة والدين " (ص 42). كما أنه مكان لتوبة قد تكون نصوحا أو غير ذلك ، بحيث ينقل السارد موقفا عن أحد الشخوص في النص : " ( باعروب) يقول لمن تعاطى الصلاة حديثا ، حين يراهم وقد رفعوا أكفهم لسماء تحجبها أسقف متهرئة .. الهادي بن عيسى سئم منكم ومن دعواتكم ، كان وليا صالحا ولن يستجيب للفاسقين من أولاد القحاب مثلكم " (ص 40).
ففي السجن تتحدد المرجعيات والمفارقات الأخرى ، لذوات بقدر ما تحمل من الندوب وما ترسب في أعماقها ولا شعورها من عنف وسلوك شاذ ، ومحاولات الإصلاح الحقيقي تبقى غائبة. فإعادة التأهيل والإدماج الاجتماعيين تواجه بسلوك مضاد ، يعمل على تحنيك النزيل في مجالات أخفها وطأ الإجرام . فالسجن هو المشتل الحقيقي لنمو العلاقات المتناقضة وتعميق نذوب جراح الذات التي تحجب رياح الحب ( حب الناس / الأسرة / حب الوطن ..) بكثير من البغض الذي ينمو وتقتات منه الروح كل ليلة .
وسنلمس في نص أخر، كتابة نفسية تكشف عن الانهزام الإنساني وعوالمه المثقلة بالجنون والأوهام ، كتابة بقدر ما تعري عن الوهم الكامن في الأعماق ، تحيل على عنف مضاد نتيجة لسوء المعاملة ، ولكراهية وخيانة ومقت ستؤدي جميعا إلى نوع من الموت الرمزي.
إن الجسد المتشظي بالعنف سيرتحق من مرارة الواقع ، ما يجعله قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في كل لحظة ، ولو على حساب الذات التي مهما خسرت من رأسمالها الرمزي ينتابها الإحساس بكون فعلها الانتقامي قد أشفى غليلها ، وطهرها من دنس الآخرين .
إن صورة الرجل التي رسمت في ذاكرة المرأة المريضة نفسيا ( بطلة النص ) ، هي صورة مخالفة للواقع ، يقول السارد : " ألقت نظرة خاطفة على المرآة ، تمثل لها بجبينه المقطب وشارب خشن ، كثيرا ما أدمى شفتيها \..وغاب تتبعه خطاه المتناغمة وصوته المرعب .." (ص 66) ، ما يدل على حالتها المرضية كونها تتمثل صورته فقط على مرآة ، وكانت تعيش داخل دائرة الوهم ، وكونها غير مستقرة بشكل رسمي بمنزلها ، لوجود العديد من القرائن الدالة على ذلك : نظراتها المشتتة في أركان البيت / إحساسها بالغرابة / توهمها قتل الزوج / ملاحقته عبر السلالم ... ، وبالتالي موقف الجيران في نهاية النص . يقول السارد : " تذكروا أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تسوية جديدة لملف قديم ، فسحبوها بالسرعة التي أخرجوها بها " (ص 67 ).
3) صورة الجامعة المغربية وبطالة الخريجين
في نص " التبع " (ص62 ) ، نلمس رصدا لواقع اجتماعي لرفاق السارد الذين قضى معهم ردحا من الزمن بالجامعة بين " بطالة " الواقع ، وأحلام اليقظة بمرارتها وضراوة لهيبها وقسوتها ، مناضل الأمس الذي كانت تتملكه أفكار نيرة ، ويعتنق فكرا تحرريا وإيديولوجية سياسية ، ستطوح به التحولات المرحلية بسبب الواقع الجديد الذي أضحى يعيشه في الفترة الانتقالية ، فرفاق الأمس " يستيقظون مفزعين في الصباح ، وقد أجهز الغسق على ما تبقى في مخيلتهم من أمان معطوبة ، يسقطون تباعا على خواء جيوبهم وخذلان حبيباتهم " (ص 62). وهذا الخذلان مرده حسب السارد إلى تفسخ المنظومة بأكملها ، ولم تعد صالحة لمسايرة تطورات سريعة فرضتها التحولات السياسية الجديدة في مختلف مناطق العالم ، بين انحصار المد الاشتراكي وتراجعه وانتشار الفكر الرأسمالي ووحشيته ، وبروز تيارات جديدة في الساحة كالإسلاميين. يقول السارد : " كنت أتأمل وردة بالأبيض والأسود ، ذبلت في مخيلتي ، ولونا سياسيا لم يعد يطمئنني .أقارن بين لحية ماركس الكثة ورؤوس المارينز الحليقة ..(و) لحي تمتطي في استرخاء ، وأخرى تمر أمامي بعد كل نداء إلى الله لتمارس طقوسها ، ثم تعود لنميمتها في رأس الدرب " (ص 63).
في خضم هذا التحول الجارف ، يبرز رفاق الأمس على هامش المجتمع ، وهم لا يزالون يحملون من رموز الماضي الدالة على الانتماء والعقيدة ، سوى ما جاد به الواقع من مسخ وتحول وعزلة . يقول كذلك : " وجوه متيبسة ، منجل ومطرقة ، سلاسل ورؤوس تتدرج في دمائها ، قلوب مطعونة بسهام ، صور تسبح في عالمها الغرائبي ، وأخرى لنساء جميلات وشهيرات " (ص 62)، وهو ما سوف يقود إلى رصده من خلال غرفة رفيق الأمس ، يقول : " ويصبح المنجل المعلق فوق رؤوسهم بلا معنى " (ص 62 ).
فحياة اللا- معنى ، بقدر ما تجسدت في الاعتقاد والانتماء السياسي / الإيديولوجي ، الذي لم يعد من بريقه المشرق سوى ذكريات بلا معنى ، فقد الحاضر معناه وتبرح محنة القلب والفشل في كل المجالات . جاء على لسان بطل النص : " أتدري ... كل شيء يبدو لي في هذه الغرفة أنثى ، وحدي هنا ذكر ، خذلتني خانت العهد بيننا (63) ثم أجهش بالبكاء بكاء مرا " ص (64)
إن الذكريات المريرة التي تدفع بالرجال للبكاء ، تبرز عمق الانكسار والخيانة المتكررة من طرف : الحبيبة / الأصدقاء / الزمن ....، انكسار بقدر ما حطم صلابة إيديولوجيات ظن الجميع أنها ستحقق كل آمالهم وأمانيهم ، فتحولت إلى مجرد أوهام في ظل واقع الفاقة والفقر والمحسوبية ، وبالتالي تحول أغلبهم إلى الاستجداء من أصدقائهم . يقول السارد في نفس السياق : " با إدريس... ، شي قهيوة فلاكوميدي ...؟؟ " (ص 65).
فنص (التبع) إحالة على رفاق الأمس ، الذين نبذوا أفكارا اعتنقوها وآمنوا بها ردحا من الزمن ، وتخلوا عن مبادئهم ليصبحوا حسب السارد من القوم "التبع"(ص 65).
وستتجسد معاناة الشاب العاطل في نص " أحلام الطائر " (ص 77) ، وقد جمع من الشواهد ما يكفي لإحراق ذاته ، و يراكم سنوات من المعاناة والانتظار . فمن خلال تفاصيل مكررة وروتينية لحياة هذا الكائن القلق ، وهو يعيش بؤسا مزدوجا وحيرة قاتلة ، تبرز إلى الوجود الرغبة في الانتحار والموت ، وقد ابتلعه صمت قاتل وهو يتنقل بين مقهاه المفضل وساحات الاعتصام وبيت لا دفء فيه ولا رحمة. يقول السارد : " يتوجه قصدا إلى مقهاه المفضلة ، هناك وسط ضجيج الأصوات التي بلا معنى ، والعيون الشاردة بلا اتجاه ، يحط على كرسي كمجذوب بلا بوصلة " (ص77 ).
إن هذا الوضع الرتيب ولد حنقا على الواقع وعلى الآخرين ، وقد دأب على مراقبة حركة المارة بنوع من المرارة : " بلا أمل يراقب المارة في صمت وحيرة ، لكنه لم يكن هذه المرة مسالما , قتل كم من جثة مرت من أمامه و(أحيى ) أخرى ، قبل أن يستسلم من جديد لصمته وحيرته " (ص77 ).
إنه نوع من الاحتراق حول هالة نور ونار، لمثقف منبوذ ويائس سيفكر في طريقة فريدة ليتخلص من كل أثقاله وهمومه ، باللجوء إلى إحراق كتبه في ساحة عمومية ، ليتخلص من " معاناته وحيرته وكتبه وذكريات يعتبرها من أكبر أوزاره ".
إنها قمة الغبن والشعور" بالحكرة" والإجحاف في حق الذات ، باللجوء إلى التخلص من كل ما يربط الذات الجريحة بماضيها المشرق ، فحتى الكتابة تضحى نوعا من العبء الثقيل الذي يجب التخلص منه (ولو على مضض) " تمنى لو يحرقوا ما خطته يداه ذات خطيئة ، يشنقوه على أبواب المدينة أو ينفوه داخل أسوارها ، لكنه حلم فاز به ( جاليلي) وحده " (ص78 ).
إن هذا الطرح بقدر ما يبرز فداحة المعاناة النفسية للسارد ، فإنه يبرز في ذات الوقت واقع البطالة المستفحل في البلاد ، نتيجة لسياسات حكومية متعاقبة أدخلت الجميع في النفق الضيق ، وزرعت روح اليأس في شبابها وكل قواها الحية .
" أحلام الطائر" صرخة ضد التهميش والقهر والنسيان ، ودلالة على جائحة يدفع ثمنها أجيال اقتنعت أن " الجميع يولد جاهزا للموت " (ص77 ).
وستبرز رمزية الاحتراق في قصص إدريس الواغيش مداها في نص يحمل عتبة المجموعة " ظلال حارقة " (ص54 ) ، بحيث سيتجسد كعنوان لمرحلة جد قاسية من حياة السارد ، مرحلة البطالة المفروضة بالقوة على الطالب حديث التخرج من الجامعة ، يحمل شواهده دون القدرة على الحصول على فرصة عمل شريف . وهي بقدر ما تستعرض البؤس والتيه ، فإنها تعلن عن التذمر والسخط والحيرة داخل مجال محتقن .
لقد نجح السارد في الربط بين أكثر من زمان ومكان ، ضمن كتابة اعتمدت التوازي بين حدثين وزمنين ، يعمقان الإحساس بالوحدة والاغتراب في زمن حاضر، وبين الإحساس بالنبذ التاريخي لطرد المسلمين من الأندلس والطرد من قلب الحبيبة ، إضافة إلى الحكم الصادر في حقه بالإفراغ من المنزل الذي يكتريه ، ومن قلب حبيبته " أمينة" عشيقته السابقة ، ويشيد السارد مقارنا بين عشق (ابن زيدون) لولادة من خلال خلق تناص تاريخي ، فتتحول العشيقة إلى " قرطبة " أخرى في أندلس أخرى لن تكون إلا مدينة " فاس " . يغادر فيه قلب حبيبته مكرها وقد " غمره الحنين إليها ، وإلى أحلامه القديمة ، لكنه مسح كل الصور دفعة واحدة ، كمن يضغط على الزر " (ص 54 ).
إن هذا الوأد للمشاعر يوازيه واقعيا قتل آخر للأحلام ، ولواقع البطالة التي يعيشها بعض أفراد أسرته كما جاء على لسان الأم " الله يسهل عليكم أوليداتي ...بناقص من الجامعة ولا من هاد القراية وشنو يجي منها " (ص 56) ، واقع تعكسه الظلال الحارقة لمقهى " الأندلس " وصراعه اليومي مع صاحبها ، يقول السارد : " استقر رأيه أن يلتجئ إلى مقهاه المعتادة ، متمنيا أن لا يكون " المعلم " هناك ، سيبحث عن نفسه تحت ظلال حارقة " (ص 57 ).
فالنص بقدر ما يبرز الواقع المرير، والفراغ المهول والحيرة الضاربة في الأعماق ، فإنه يعكس أيضا واقعا آخر، يحكي من خلال صراع نفسي صامت ، يحترق بظلال المقهى ومؤثثاتها ، يقول السارد : " وحين يمتلئ اغترابا ، وتضيق من حوله الكلمات ينزل إلى عالم الأرض ... ، ينحني ليفك ألغازا ويملأ فراغات أكبر من فراغه " (ص 57 ). وهذه الحالة بقدر ما تنذر بتناص مع واقع تاريخي مفجع بالنسبة للعرب والمسلمين ، تتحول إلى واقعة منسية لكل خيباتهم ، ونتائجها لا تزال بادية للعيان : " في مقهى الأندلس ، ينسى التاريخ الذي درسه ، ويستمر وحيدا كجغرافيته ، كأنه لم يقرأ ، ولم يتعلم .فكر كثيرا و نطق قليلا ثم صمت . كل المصائب جاءتك من هناك " (ص58 ) ، وهو احتقان سيبرز تفاوتا طبيعيا ببلاغة مثيرة يقول : " إلى هذا الحد أصبحت عاجزا عن ملء فنجان قهوة . والأميون في بلدي يملأون أرصدتهم وحساباتهم البنكية " (ص 59) ، لقد تحول مقهى الأندلس بحمولاته السياسية والثقافية والتاريخية ، إلى مكان لتفجير الألم وعالما للحسرة وملاذا للانتظار والتأمل المرير، يقول السارد : " ككل يوم بمقهى " الأندلس " في المدينة العتيقة ، ينظر إلي الغيمة الحمراء المنتصبة أمامه ، يرى فيها خريطة وعلما ثم أحلاما وإبهاما " ويضيف في نفس السياق : "جالسا تحت ظلال حارقة ينظر إلي ، كأنه يقرأ طالعه ويحلم بأشياء كثيرة " (ص 60) " وحتى مغادرته للمقهى مرغما بسبب مضايقات رب المقهى ، يظل في مخيلته أكثر من سيناريو جديد لأحلام قديمة . تذكر أنه سيظل هنا جالسا تحت ظلاله الحارقة " (ص 62 ).
وستتجلى ملامح الكائن الشهري وبؤسه الحارق ، فالتحصيل والتفوق داخل حلبة صراع كبيرة كالجامعة يصطدم بمعيقات النضال وأجواء العالم الجديد ، الذي بقدر ما يفتح آفاقا في وجه البعض ، يعرقل مسار البعض الآخر، ما يشبه نوعا من الوأد ، وقد سقط الداخل إلى غابتها واختلطت عليه السبل. يقول السارد عن بطله علي ( عليلو) : " لم يعد يعرف كيف يوازي بين واقعه المر وطموحاته التي لا حد لها ، فسقط في الدرج الأول من السلم ، وبذلك تبخرت أخر طموحاته " (ص 68). وقد تحول في النهاية إلى كائن منهزم ، زاده الأمر ألما .فعلي كان ضحية المظاهر الخادعة التي يراها كل يوم ، وهو الطالب الفقير القادم من الأرياف ، لا يملك إلا طموحاته " (ص69).
إن هذا القتل المعلن يدفع الخريج إلى القبول بأية وظيفة ، وبأي راتب مهما كان هزيلا فقط لسد رمقه ، وهو ما يولد قناعة مبهمة وسخطا جامحا وأبديا ، وتحوله إلى كائن جديد يدور وسط حلقة مفرغة .
ولعل استعراض السارد لحالة علي النفسية تبرز بوضوح تناص العتبة " صمت الكلام " مع واقع معاش بائس يقول : " يركن إلى كرسي وطاولة في أقرب مقهى يصادفها ، يأخذ ورقة وقلما ويبدأ في جرد ما عليه من ديون وواجبات " تتناسل المتطلبات وتكثر الأسئلة " (ص 70) التي يواجهها بصمت مطبق وقد دخل دوامة جديدة ، امتصت فورة حماسه وآماله متطلبات أخرى واقتطاعات غير منتظرة أخرى من راتبه .
" صمت الكلام "عنوان صارخ على المعاناة النفسية للموظف البسيط ، ودلالة واضحة على واقع الملايين من البشر يعيشون برواتب تجعلهم بالقوة تحت عتبة الفقر .
4) علاقات إنسانية في مهب الريح
تتجلى تفاصيل قصة حب قديمة يستحضرها السارد أثناء حلم البطل ، والحلم بهذا المعنى تفجير لمكبوتات الذات ولكل مسكوت عنه ، وهو ما يبرز نهاية النص. يقول السارد : " انتبهت ، لم يكن في البيت أحد بجواري على السرير . كنت أنا ، وحدي فقط .أحسست ببل بارد ، أفسد علي ما تبقى من سكرات النوم " (ص 24).
فالنص بقدر ما يسرد تفاصيل قصة حب قديمة ، يبرز نوعية العلاقة في مرحلة المراهقة وعنفوان الشباب ورعونة الجسد ، ومقاومته التي تذوب أمام جسد بض يقول السارد: " انتابني لأول مرة إحساس بالندم .شعرت برهبة الجمال وجبروته لأول مرة في حياتي ، فانتابني مزيج من الحسرة والذوبان وقليل من الخوف والقلق "( ص 19). فالحب يلف النفس وأيضا بفقدها توازنها ، ويجعلها تتحول بشكل سريع نحو اتجاه معين يلفه الاستسلام والتأمل والخوف والرهبة ، لكن هذا الحب هو نفسه الذي سوف يتحول إلى طوفان جارف ، جراء الغيرة التي يتلوها ندم وحسرة . يقول السارد بعد فراق دام سنوات وهو يسترجع ذكرى قصة حبه الكبير " نعم ...، أقر الآن أنني أخطأت في حقك ، وأنا أصدقك بلا إحساس. أمثلك من توصد الأبواب في وجهها ؟ لست أدري لم اعترتني كل تلك البلادة دفعة واحدة " (ص 23).
وإلى جانب القصص ، نلمس كذلك تفاصيل سير- ذاتية عن مرحلة المراهقة وفورة الشباب .
فيقول: " مرة ونحن صعاليك نجوب أزقة المدينة القديمة ، نتحرش بالفتيان والفتيات على السواء ، وبعض النساء العاهرات والمطلقات الغاويات للمعاكسة ، نستلذ بالبحث ( كما كنا نعتقد) عن مشاجرات للتسلية " (ص 20). وهذا العنف الذي يكون ناتجا عن فورة النفس والاعتداد بها في مرحلة الدراسة ، هو أمر شائع بين مختلف شباب تلك المرحلة . يسوق السارد مشهدا من داخل المؤسسة التي كان يدرس بها قائلا : " منت ميالا إلى العنف يومها ، كحصان بري يحتاج إلى ترويض ، ربما كانت طريقتي المثلى ( في اعتقادي ) لإثبات الذات مع المراهقين من أمثالي " (ص 19).
نص " ارتواء" ، هو في الواقع نفحات من الحكي السير- ذاتي بامتياز ، يسوقها الكاتب على لسان سارده عن قصد ، وقد برز ذلك من خلال صمته لحظة أثناء السرد بحيث يكون مرة على لسان السارد ، وأخرى على لسان حبيبته التي تنطلق باسمه " صدقني أرجوك ، فأنا والله صادقة ...، صادقة ..." (ص22) . أو من خلال التصريح بذلك علانية يقول على لسانها مرة أخرى ، وهو يهم بها في نشوة وفرح " على رسلك يا إدريس ...، أنا الليلة لك .كلني كما تشاء ، وكيفما تشاء " (ص 23 ).
في نص " جسد واحد وأمكنة متعددة " (ص 44). بقدر ما نجد حكيا عن الأمكنة التي استأثرت باهتمام السارد ، فإنه في الواقع يسرد معاناة الطفل الصغير " يوسف " بين تمزقه العاطفي وإحساسه بالانتماء للمكان . فبالرغم من تواجد الطفل بالمدينة ، تظل البادية المكان الذي ينفلت فيه من كل رقابة اجتماعية ، حيث الإحساس بالحرية والاستقلالية وتحقق الذات ، أمر انعكس على تصوراته لمفاهيم جديدة ، منها متعة السفر الذي ظل مختزلا في نظرة مبهمة وغامضة ، وهو يرد على سؤال الأستاذ " لكني أسافر ليلا رفقة أسرتي ، مكدسين مع أناس لا أعرفهم ، فيخالجني نوم لا أستفيق منه إلا في الصباح على أصوات الأنعام والفلاحين ، وهم ينشدون مواويلهم الصيفية في الحقول "( ص 47).
إن مفهوم المجال الفاصل بين المدينة والقرية ، يظل بالنسبة للطفل البطل غائبا ، وبالتالي هاجسا تتوزعه الذات المنشطرة في انتمائها إلى مكانين أو أكثر ، معزولين بالقوة لا رابط بينهما سوى ليل بهيم وسيارة نعبر طريقه المظلمة .
وبقدر ما شكلت البادية مجالا فسيحا حيث للنعم بالحرية سيتولد الإحساس بتحقق ذات البطل ، ستظل المدينة بصورها الجامحة وعمرانها المشوه منغصا عليه في أبهى لحظاته. لنتأمل هذه القرينة السردية حيث يقول السارد : " حين يكون في البلدة ، يكون منسجما مع ذاته ، مع أصله ، ومع أصدقاء الصبا ، لكن فجأة وهو يجري بمحاذاة مع الوادي ، يخطر بباله صور أصدقائه بالمدينة : أترى مازال خالد وفيا لعاداته ؟ يتسلل مع ( ولد فاطنة ) بين الركاب إلى الحافلة ، في رحلة خوف رهيب من مراقبين يطاردونهم كالأشباح " (ص47 ).
تمزقات ذات الطفل بقدر ما أبرزتها مواقف السارد ، عبرت عنها بجلاء إشاراته للعديد من الأمكنة والمتناقضة في نفس الوقت ، وهي تبرز الوجه البائس داخل مجالات جغرافية متعددة ( بادية / مدينة ..). ففي بداية النص نلمس صورة مشوهة لبناء العشوائي ( دوار الكارطون ) .. المرمي على أطراف المدينة " (ص 44) ، وهو دوار حسب السارد " دوار قمامة " تجمت فيه نفايات" الكاراجات" المجاورة ، وقصدير المعامل المفككة وعلب "الكارطون " . وبين باديته التي بصورها السارد بشاعرية وحب وحنين ، يقول : " كان يوسف بالبادية يمرح بين أشجار التين والزيتون ، يستمع برؤية العصافير، وهي تحتفل بحريتها فوق الأشجار .وينعم بالظلال الوارفة فيها وبصفاء الثلوج البيضاء شتاء ، يستنشق الهواء النقي على مدار السنة " (ص45 ). ففي القرية نلمس تصالحا مع الذات والدفء والجمال ، بمؤثثات المكان بجباله وأنهاره وطيوره وأشجاره ، يغدو العامل الحاسم في إجراء مقارنة سعيا نحو الأفضلية الضمنية . وهو الإحساس نفسه ، ما شكل الهاجس في الإحساس بعدم الانتماء لمكان محدد سوى ما تحفظه الذاكرة . يقول السارد : " هكذا أصبح يوسف الصغير منقسما ، هو لا يعرف لأي جيل ينتمي ، ولا لأي مكان أو عالم ينتسب : القرية أم المدينة ؟ " (ص 47). فهو جسد واحد تتوزعه أمكنة متعددة ، تنذر بالتمزق وبطفو أسئلة حارقة.
إنها قصص تقيم العديد من المقارنات ، وتبرز مفارقات ساخرة بين بادية غارقة في النسيان ، تضمد جراح ما بعد الاستقلال وإجهاض أحلامها ، ما خلفه ذلك من تبعات المستعمرين الجدد ، ومدينة اختل توازنها واتسعت فيها الهوة بين طبقاتها. لتضحي مجموعة "ظلال حارقة " بهذا المعنى ، صرخة مدوية ضد الاستغلال والوأد الحقيقي للقيم الفاضلة وللكرامة الإنسانية ، ولصور الطفولة البريئة وهي تصطدم بواقع انتقال رهيب من بيئة لأخرى ، ومن قيم لأخرى غزتها قيم الغرب وغاب فيها كل تكافل أو تضامن حقيقيين .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.