في مجموعة "الضفة الأخرى " يحاول القاص البشير الأزمي تعرية الواقع التطواني خاصة والغربي عامة، وانتقاده بأسلوب ساخر، وقد تنوعت تيمات هذه المجموعة وتعددت في تشكيلها بين سبعة عشر (17) نصا قصصيا متوسط الطول وسبعة نصوص قصصية قصيرة جدا، حملت عنوان "أبجد هوز". أما فضاءاتها فقد كانت جد متعددة : البيت/المقهى/الحي/الخمارة/المقبرة/المزبلة/الشارع/المدرسة/الشاطئ، بالإضافة إلى فضاء افتراض الحلم (الكابوس). وقد شكل بعضها بامتياز فضاء مدينة تطوان كما جاء ذلك من خلال ما لامسناه من خلال نتف منفلتة "حي الباريو"، "ساحة الفدان" ،"سانية الرمل".. كما أثار قضايا جد حساسة، مثيرة كالخيانة الزوجية والمثلية/واختلاس المال العام/والاغتراب، كما تم توظيف كتابة نفسية كما هو الأمر في نص "حادثة" "جنون" "أوراق ميت " لإبراز ضعف الخدمات الاجتماعية، وخيانة الوطن. بالإضافة إلى كتابة شدرية في نص "فليحيا الحب" ص51. إن المثير في قصص الأستاذ البشير الأزمي، هو اللغة الشفافة والبسيطة التي تخترق بسلاستها المألوف، وتشعر قارئ نصوصه بالألفة، وتمنحه نوعا من الاطمئنان، مطرزة بقوة كبيرة وقدرة على الجذب وبالتالي الإقناع، ونهاية نصوصها المفاجئة والبارقة تعصف بكل التطلعات. يشير القاص مصطفى لغتيري في تقديمه لنصوص المجموعة "بكونها" تتشابك (فيها) هموم الذات والمجتمع، والقاص لا يكتفي بنقل ما تقع عليه فحسب ... بل يتوغل كذلك في دواخل الشخوص، فيعرض ما تغور به من هواجس وتناقضات ص5. وقد ارتأينا تناول بعض نصوص المجموعة بالتحليل، وهي نصوص منتقاة لإبراز سحرها وبالتالي الاستدلال من خلالها على طرحنا السابق. "الضفة الأخرى" بين الواقع والخيال : ففي "قصة موت" ص6، بدأت أحداث النص بوثيرة سريعة، ومن مشهد مثير وقلق من الشارع العام، بدت معه نفسية البطل جد حرجة إلى درجة أثارت شغف القارئ، وتساؤلاته عن أسباب تلك المطاردة اللعينة التي وصلت حد الجنون والتشنج "أعرج على أول شارع، وأميل نحو اليسار ثم الشارع الموالي، ومرة ثانية نحو اليسار ... أصل إلى آخر الزقاق لأجد مخرجاً، أزداد اضطراباً" ص7، ولم تنته معاناة السارد عند هذا الحد فتأججه وحيرته وعذابه ظل مستمراً "خرجت أخيرا من الزقاق إلى الشارع الكبير، اقتربت من واجهة أول مكتبة صادفت... اتخذت واجهتها كمرآة أرى من خلالها ما آلت إليه حالي .. وأنا أحدق في العنوان، أحسست بيد قوية فوق كتفي، التفت بسرعة لأجده هو .. أطلقت صرخة وهممت بالهرب .. وإذا بي أقع" ص6/7. إن العامل الأساسي الذي أثار قلق السارد/ البطل، هو فكرة الحياة بعد الموت، والتي جسدها بوضوح عنوان الكتاب المعروض داخل واجهة المكتبة "هل من حياة بعد الموت" ص7، فأحداث النص دارت داخل حلم السارد، وتأكد ذلك من خلال سقوطه من فوق السرير وهو يتصبب عرقاً، وكذلك من خلال الحوار الذي دار بينه وبين والدته "انهض من الأرض لقد وقعت من السرير" ص8. كما أن مطارده إنسان ميت، "لكن يا ولدي خالد مات منذ ما يزيد عن السنة. "ص8. وقد يعتقد القارئ أن معاناة البطل قد انتهت بعد صحوه لكن تهيؤه لرؤيته ماثلاً أمامه في الحافلة، وهو متوجه لاجتياز الامتحان سيعصف بطمأنينة القارئ "رأيت خالداً يصعد، إنه هو وليس حلماً، نزلت بسرعة وأطلقت ساقي للريح" ص 8. لقد استطاع القاص البشير الأزمي، تقديم شخصية مرضية، بامتياز بهلوساتها المثيرة ورؤاها المتضاربة في شكل سوي منذ البداية موهماً القارئ وتوريطه إلى حد التعاطف دون إدراكه أنه كان يوقعه في شرك، عن حسن نية بتقنية سرد عالية ومثيرة جداً. في حين تمحور نص "وفاء" ص9، حول تيمة "الخيانة"، ولعل التناقض البارز بين عنوان النص ومضمونه كان مقصوداً، وهو يرسم ملامح أرملة كافحت بعد وفاة زوجها لتربية الأبناء مبرزاً إياها كشخصية ذات نظرة ثاقبة إلى المستقبل، حذرة جداً، تحسب خطواتها بدقة، مواظبة على زيارة قبره، تترحم عليه باستمرار، مصبغاًً عليها صفة الوقار، وصون الكرامة، غير أن تلك الصورة سرعان ما بدأت تتزعزع بشكل ضمني، جاء على لسان السارد في ص9 "أمنت مستقبل ابنتها بزفها إلى زوجها الميسور، رغم الفارق الكبير، بل المهول بينهما في السن، أملها أن تمتد يد الموت إليه قريباً، فتتحول الثروة التي يملكها وهو المقطوع من شجرة .. إلى ابنتها، وبالتالي لها .." وكذلك من خلال الإشارة إلى تبرجها المفرط "اغتسلت، وارتدت قشيب ثيابها .. لأنها تزيدها جمالا، وتظهر مفاتنها وأنوثتها .. عطرت جسدها بعطرها المفضل، ووقفت أمام المرآة تعدل قوامها" ص10، وكذلك من خلال تخلصها من ابنيها بطريقة ماكرة "نادت ابنها الأوسط، ناولته عشرة دراهم، وأوصته أن لا يتأخر عند العودة من سينما الحي، أخذت الطفل الصغير لتودعه عند جارتها حتى حين عودتها من زيارة المرحوم" ص10. إن كل تلك الاستعدادات لم تكن من أجل الفقيد، ولا سيما أن لزيارة المقبرة طقسها وزيها الخاص، باعتبارها مكان يشعر فيه المرء بنوع من الرهبة، والخوف، والندم، يمتلكه الإحساس بالتفكير في العالم الآخر، من عقاب، وحساب وإحساس بالخير والشر، وبالتالي مراجعة النفس في محاولة للتذكر والاعتبار. وما يبرر عكس هذا الطرح هو أن المرأة، "رنت إلى معصمها، رأت عقارب ساعتها تعلن أن الساعة الخامسة إلا عشر دقائق، نهضت، وبدأت تسرع في خطاها، حتى لا تتأخر عن ميعاد اللقاء بعشيقها" ص10. لم تكن زيارة قبر المرحوم سوى غطاء لتبرير لقاءاتها المتكررة بالعشيق، والتي كانت تتخذ طقوساً دقيقة جداً، واستعدادات مكثفة كجسر العبور نحو عالم المتعة واللذة المفتقدة، ولم تكن تضحيتها مع الأبناء خالية من كل قصد ونية مغرضة، وهو ما فتح مجالا كبيراً لتحررها من قيود المراقبة والعتاب واللوم. فالوفاء لم يكن خالصا لوجه الله مع الأبناء أو لروح الفقيد، بقدر ما كان لنزواتها العابرة ولرغباتها الدفينة ولعشيقها. وبذلك يتمكن القاص البشير الأزمي من تعرية واقع مرير، عنوانه الخيانة والمكر، من خلال شخصية انشطارية تعيش نمطين من الحياة السرية - العادية وهي حالات تكررت في العديد من قصص المجموعة "حسرة" ص 11 التي بطلها زوج مثلي مدمن على احتساء الخمر نابذاً نمط العيش السوي ومنغمسا بكل قواه في حياته الخاصة والسرية، وكذلك في قصة "فحولة" ص15، التي بطلها الجندي الذي فقد "جزء عزيز من جسمه" ص17، ويعيش عذاباً سرمدياً "يذرف دموعاً" ص17، كلما راقب، وهو على شاطئ البحر، "الفتيات وهن تمرحن في بدلات السباحة التي تظهر من أجسادهن أكثر مما تخفي" ص17، ومعاناته كلما تحسس أسفل بطنه ... ليجد (في) مكاناً ما .. فراغاً فيتذكر الأيام التي أضاع فيها ... رجولته ... عندما وقعت قنبلة في منطقة من جسمه" ص17.وهي شخوص تم تقديمها من خلال قصص بارعة الحبكة، مستعرضاً تناقضاتها ومعاناتها وحياتها السرية، كحالات مرضية تهدد سلامة المجتمع مبرزاً زيف ادعاءاتها ومظاهرها الخادعة .. "الفضة الأخرى" أو الذات الممزقة : لقد شكل نص "الضفة الأخرى" ص34 واسطة عقد المجموعة، ولا غرابة في اختياره كعتبة للمجموعة، فهو موغل في الذكريات ومتطلع إلى غد مشرق، فالبطل "يستحضر لحظات غابرة من زمن الطفولة" ص34 ويمتح في قتامة الحاضر سخطها وفراغها "عبرت الزقاق المفضي إلى التل المشرف على الميناء" ص35، ونلاحظ أنه تم توظيف الأزمنة بتأرجح بين الماضي والمضارع بالإضافة إلى التطلع إلى المستقبل .. بفعل ثقل الأزمة "جلست القرفصاء قرب شجرة ماتت أوراقها من زمن بعيد، كما ماتت أحلامك في هذا القبر الذي يسمونه الوطن" ص35، بحيث سيبدأ التطلع إلى الضفة الأخرى من خلال سفر عبر الذاكرة والمخيلة "ألقيت ببصرك نحو الأفق حيث تراءت لك في الضفة الأخرى عشرات الأيادي تلوح لك، وعشرات الأحضان مفتوحة مستعدة لاستقبالك" ص35، وهو سفر منحه الإحساس بالقيمة الرمزية وهو يستعرض أسماء المفكرين والفلاسفة والأدباء الغربيين : سبينوزا/نتشيه/هايدجر/ديكارت/كانط/ليبنتز/فيورباخ، ودعوتهم له للعبور، كما أنها لحظات انتشاء عامرة ولذيذة كسرتها مضايقة مرور رجال بلدته الذين اتهموه بالجنون والخبل، بعدما قابل تحيتهم، ونظراتهم القاسية بتجاهل مطلق، وكأنه متصوف أو ناسك يعيش في عوالمه التأملية الطاهرة والصادقة، نابذاً كل ما يدور حوله في الواقع، عابراً بروحه المندهشة نحو الضفة الأخرى وأهلها، ناظراً بإجلال للعلم وعظمة رجاله، باعتبارهم من "جماعة المحروقة كتبهم" ص36، حين كان "المحروقون" إحالة على "من شر ما خلق" ص36، وهي الحكمة البليغة التي طالما رددها والده، عندما كان يسأله عن سبب تقسيم المقبرة إلى قسمين. لقد وضع القاص البشير الأزمي، قارئه في وضع المتسائل دوماً، وتركه يبحث عن فك أسرار اللغز المحير، الذي قدمه على ما يبدو على شكل مقارنة بليغة الدلالات من خلال عنوان النص "الضفة الأخرى، وضمنياً من خلال ما أفرزه ذلك البون الشاسع في ضفته التي امتزجت فيها "رائحة التراب برائحة الأطعمة الصادرة من الدكاكين" ص34، التي شبهها "بشيء شبيه بالطعام" ص35، صعبة الهضم ومسببة للإسهال وهي ثقافة بطيئة بامتياز، في مقابل ثقافة عالمة للروح والعقل، مبنية على أساس المنطق يفصل بينهما بحر ممتد الأطراف .. والسارد يحشر نفسه ضمن مجموعة الضفة الأخرى حسب ما جاء على لسانه ومن خلال تصرفاته "شرزتهم بنظرتك القاسية وقلت "وإذا خاطبهم .." في إشارة إلى الجهلة، والغوغاء من القوم .. ليبقى نص الضفة الأخرى بمفارقاته الصاخبة يعالج إشكالا جوهرياً ويطرح واقع المثقف الجنوبي بمعاناته وتطلعاته، ورغبته في الانعتاق والتحرر من قيود الجهل والتخلف. لكن ما يجب استخلاصه بصدق من هذا النص هو بلاغة رسالته التي يهمس بها الكاتب في آذاننا، بكوننا لا ننظر بعين الرضى إلى ثقافتنا الإسلامية، نستصغر شأنها بل نحملها كل نكباتنا، ونعلقها على مشجبها، ننبذها وراء ظهورنا، لا نأخذ منها سوى القشور والمظاهر، التي تخدم مصالحنا الآنية كما يبرز ضعف معرفتنا بها، ولها في نفس الوقت. فلفظتي "المحرقون" و "المحروقة كتبهم" إشارة و إحالة على الصراع الإيديولوجي الذي كان قائماً بين " العقليين" و "النصيين" بين" المرابطين" و الموحدين" الممثلين ب"ابن رشد" من جهة و "الغزالي" من جهة أخرى.. حيث تم إحراق كتب "ابن رشد" و كان من نتيجة هذا الصراع تأخر و تقهقر المسلمين و العرب.. في حين لمسنا نوعا من التآزر و التماسك بين التيارات الفكرية الغربية، رغم الاختلاف الإيديولوجي القائم بينها... إننا باختصار فاقدون لكل هوية، ودائمو البحث عنها، وعن أنفسنا في ثقافة الآخر التي أضحت تمثل النموذج الذي يجب الاقتداء به في ظل أزمتنا الخانقة، فصرنا في منزلة بين المنزلتين ممزقين بين فكرين وثقافتين وواقعيين، كما أن مخاطبة "الجمجمة" في نهاية ا لنص: ترمز لمساءلة الذاكرة والتاريخ و محاسبتها على ما آل إليه الوضع الحالي.من تمزق..وهو تمزق حبك قصته بدقة متناهية وبنقد لاذع الأستاذ البشير الأزمي. أما بخصوص النصوص القصيرة جدا كقصة "دال" مثلا، ص62 ،التي كتبها الأستاذ البشير الأزمي، فهي تدخل ضمن عتبة كبيرة " أبجد هوز" التي سوف أتناولها بالدراسة و التحليل لما لامست فيها من عمق و دلالة و قدرة على اقتناص لحظات منفلتة من بين ثقوب الزمن. القصة الرابعة، تنتقد بشدة الديناصورات الحزبية و الزعامات التاريخية التي ترفض الانقراض مستمرة غير متزحزحة من مكانها رغم أنف الجميع حتى الموت، بنوع من السخرية و بصيغ جمالية و تعبيرية قل نظيرها: " صعد إلى المنصة، اقترب من الميكروفون.. أخرج النظارات من جيب بدلته.. ناوله مساعده الأوراق.. لما لاحظ الحاضرون أن شفتيه كفتا عن الحركة، أخرجوا أناملهم من آذانهم.. وقفوا و صفقوا طويلاً و بحرارة... ص: 62. فإيقاع النص كان تصاعدياً و منطقياً، تخللته نقط الحذف التي لها أكثر من معنى و تطرح العديد من الأسئلة... مع الاقتصار في تقطيع الفقرة على فاصلتين فقط دون نقط نهاية. إن تشكيل فضاء هذا النص القصير تم بانفعالية و دقة، فاسحاً المجال للخيال و الاستطراد و التصور و الزيادة و التساؤل بشكل كبير ، فالصور و إن كانت بليغة و مرتبة إلا أنها تمنح القارئ فسحة للتخيل و تصور أشياء أخرى موازية لها. كما أن جمل النص القصيرة و هي جمل أغلبها فعلية: صعد، اقترب، أخرج، ناوله، بدأ، أخرجوا، وقفوا، صفقوا...في صيغة الماضي... و هو توظيف جميل وذكي.. فحتى الشخصية المحورية هي من زمن ولى و رغم ذلك تلح على الاستمرار و لو أنها عاجزة على المسايرة نظراً لكبر سنها و ضعف بصرها... فالرجل المسن يرفض التنحي عن الأضواء و لازال يؤمن بجدوى تواجده رغم انف الآخرين، الذين يجاملونه بشكل ساخر دون الجرأة على مواجهته " أخرجوا أناملهم من آذانهم... وقفوا و صفقوا طويلاً و بحرارة..". فالنص يبرر كريزمية الزعيم و ولاء الأتباع المطلق و خشوعهم البئيس... و تمزقهم الداخلي و ضعف شخصياتهم، كما يظهر بجلاء مدى تفسخ المشهد السياسي بالبلاد بطريقة ساخرة و لاذعة دون المس بالكرامة. فحب الظهور و الاستمرار و التمسك بالمقعد حتى في أرذل العمر"أخرج النظارات من جيب بذلته...ناوله مساعده الأوراق.." يبرز أن اختياراتنا كانت دوماً و ستبقى إلى الأبد خاضعة فقط للمحاباة و النفاق لا للكفاءة و القدرة و الاستطاعة.. و هذا الانتقاد اللاذع و الخاطف صور بحس جميل و بدقة متناهية. أما في قصة "ألف" فالبطل يتصارع مع ذبابة مزعجة لاحقته و قضت مضجعه بل أوصلته إلى حد من الهوس و الجنون.. و هو يصور الصراع الكبير للبطل مع الذبابة بشكل ضمني و مزعج "ليست المرة الأولى التي تلاحقه..حاول تحاشيها لمرات عديدة.. أسرع في مشيته... لما تأكد أن لا وجود لها... "، فالصراع محتد منذ البداية مع أنثى تجعل القارئ يعتقد أن " البطل" مطارد من طرف امرأة أقل ما يمكن تصوره عنها أنها مجنونة... جعلت إيقاع النص يعج بحركة سريعة و ذروة متناهية القوة أحس معها البطل في لحظة من اللحظات بالفوز... و هو يجلس بالمقهى...لكن هذا التوتر الذي توقف للحظة سرعان ما سيستمر بقوة أكبر لما فتح الجريدة ليجدها ماثلة أمامه يواجهها، بكل ما أوتي من قوة، بقبضة يده، و هو سلوك أثار رواد المقهى و النادل على السواء؛ الذي دوماً كان ينبهه إلى كونه يزعج رواد المقهى بطريقة قتله الذباب، و هذه النهاية غير المنتظرة المرأة/ الذبابة... داخل دائرة الإيهام تحدث نوعاً من الصدمة و المفاجأة لدى القارئ، فالصراع لم يكن قط مع امرأة بقدر ما كان مع ذبابة... لن أتوقف و أنا أحلل النص عند هذا الحد بل سوف أحاول إبراز شخصية هذا الرجل المريض الذي صور في صورة " مستر بين" بشكل ساذج في نهاية القصة، على عكس مقدمتها التي تبرزه في شكل رجل ذكي يتحايل من مطاردهن و يهرب منه، مستعملاً كل ما أوتي من حيل و مقالب.. و هي صورة كاريكاتورية بامتياز. و" ألف" أو السيد ألف هو اسم فضفاض على وزن السيد "x" أو "سين" و هذا العنوان رغم ما قد يظن البعض عدم ارتباطه بالنص فهو بالعكس نكرة شمولية و عامة لأسماء أشخاص تافهين جداً و حالتهم المرضية تستدعي أكثر من وقفة أو تدخل.. و هي صورة أخرى لأنموذج بشري يعاني متجرعاً جنونه و حمقه داخل عالمه الخاص و المغلق... في قصة "باء" ص: 60، يسير المبدع البشير الأزمي على نفس النمط الوامض و الخادع، فالمتلقي لا يصاب بالدهشة من خلال انتظاريته لنهاية القصة، فكل ما كان يتحدث عنه القاص ضمن متن النص يكون في الأساس موجهاً و مقصوداً لأجل بناء صورة و موقف و نهاية غير منتظرة تماماً... فالقاص أوهم القارئ أنه يتحدث عن الزوجة في حين يصاب بالاندهاش من كون المتحدث عنها مجرد قطة حنون. و النص يعطي صورة عن الرجل الأعزب الذي يعيش مع حيوان أليف و كيفية تعامله الراقي معه و درجة الاهتمام العالية به، فالقطة تبوأت مكانة المرأة...وهو ربما إحساس بالفراغ العاطفي أو مجرد حب لنموذج من حياة مختلفة تماماً ليكون التواصل فيه مع الحيوان أبلغ منه مع البشر... في قصة " هاء" يبرز نوع من السلوك المحترف للموظف المتعلق دوماً بأشياء الآخرين اعتقاداً منه أن امتلاكها قد يشكل قيمة مضافة له.. لكن العكس هو الذي حدث. و قد أبرز ذلك، الأستاذ الأزمي، بشكل ساخر من خلال الموظف الذي وضع الولاعة الذهبية ، لمديره، في جيب بدلته.. و هو سلوك منحرف و مرضي.. و بدخوله دورة المياه نظر إلى المرآة و هو يبتسم منتشياً من نصره الفريد، لم ترد صورته المنعكسة على المرآة ابتسامته ليطأطئ رأسه و يخرج. و القصة تفضح أصحاب النفوس المريضة و تكشف بشكل ساخر و كاريكاتوري زيف اعتقادهم و تصرفاتهم و نشوتهم الخاطئة، و قد شكلت المرآة وجه الحقيقة بل الحقيقة فرفضها لعكس ابتسامته يعني تحققه من زيف أفكاره و تصرفاته الخاطئة.. فالسارق سارق و مهما سرقنا فلن يغير ذلك من بشاعة تصرفنا قيد أنملة، فالإحساس بالذنب كان ضمنياً، فالنشوة ممزوجة بالخوف و الندم "طأطأ رأسه و خرج" و هذه حالة مرضية أخرى تم إبرازها بكثير من الدقة و بصورة عميقة و دالة. في قصة " واو" لم يكن البطل، في نظري سوى رجل الأمن الذي حل فجأة بالمدينة فارضاً بها منطقه و تصوره للأمور، فالنص يقدم هنا بجمالية جديدة مستعملاً الحوار كما هو الشأن بالنسبة للرواية و المسرح بهدف الاستجابة للغرض... خلق دينامية داخل النص، و جعله مباشراً و حياً وفق منطق الحياة / الشاعر. و فضاء الشارع هو فضاء رحب و شاسع لكن رجل الأمن أراده أن يُؤَثث وفق تصوره و منطقه. و هنا يحاول البشير الأزمي الزج بنا في متاهات غابة الإسمنت بكل مخاطرها فاتحاً قوساً للتأمل و منتقداً منطق السلطة و جورها في تلفيق مختلف التهم المزوة للإيقاع بالمواطن و سلبه حقوقه بالقوة و تحت الإكراه. "تقارب القصة ظاهرة الرفق بالحيوان بشكل بسيط في شكل انتقاد و حنق من عابرة سبيل لرب حمار بقولها: " كيف تريد أن يجيبك؟" من الحمار أنت أم هو.." كما تفضح سذاجة كثير من الناس الذين يعتقدون أن الحيوان يفهم لغتهم و منطقهم. فقد كان الرجل يضع الحمار، في خطابه، على مستوى متساو مع الإنسان... كتبت هذه القصة برمزية عالية جداً و باقتضاب كبير. "وقفت المرأة قبالة البحر..تنظر إلى الأفق و الدموع تنسكب من عينيها، تنتظر عودة المركب الذي يقل زوجها، في حين كان الطفل يرسم قارباً على الرمل، تتقدم الأمواج، تخرج لسانها و تبتلع المركب الذي رسمه الطفل ". انتظار الزوجة و تساؤلها جسده جوابها رسم الطفل للمركب الذي تبتلع الأمواج.. لقد مات زوجك، ابتلعه البحر.. غرق.. و هي رسالة جسدتها براءة رسم الطفل و غدر البحر و أمواجه الجائعة. لقد تضمنت القصة أجوبة لأسئلة المرأة.. وفق بناء تميز باحترافية عالية دون الإغراق في التفاصيل الملة. كتبت النصوص بين مدينتي العرائش و تطوان بين 2006 و 2007. و لعل القارئ اللبيب لمتون هذه النصوص القصيرة جداً يستشف مدى رحابة فضاءاتها و تنوعها ) الشارع/الشاطئ/ البيت/ المكتب...( و مدى قدرتها على احتواء أشكال تعبيرية و جمالية أخرى ) الحوار...النكتة/ جيم /،كاريكاتور/ "دال" الرسم على الرمل /"زاي" و هي تشكيلات صورت لغوياً لتساند المعنى و لتعزز الصورة المراد بناؤها كحاملة لمضمون النص،.. كما أن "أبجد هوز" العتبة الرئيسية للنصوص الأخيرة من المجموعة و التي توزعت مرتبة أ – ب- ج – د – ه - و – ز، لها أكثر من دلالة فهي الفضاء الرحب و الكبير)اللغة( الذي استوعب كل الفضاءات الأخرى و أثثها بكل ما هو دال ،و معبر. كما أن شخوص هذه النصوص، قيد الدراسة، لم تكن منتقاة من قبل، بقدر ما جاءت بشكل عفوي، و رغم ذلك ، فقد شكلت نماذج لمجموعة من الشخوص الهامشية ، و المجتمعية و التي يعاني بعضها في صمت )الرجل مع الذبابة(،)المرأة في انتظار الزوج قرب الشاطئ(،)الزعيم الذي يرفض التنحي رغم بلوغه من الكبر عتياً(/)الموظف اللص أو المريض...(، كما صورت نماذج أخرى تعيش في وضع خاص )الرجل/ القطة( . بعض النصوص يشترك في البطولة، مع شخوصها، حيوانات أو حشرات... ذبابة في "ألف"، قطة في "باء" و حمار في "جيم". خلاصات واستنتاجات : إن ما يميز مجموعة "الضفة الأخرى" هو تنوع تيماتها، وتعددها، وقوة اختراقها وتغلغلها سواء داخل الواقع، أو في نفسية الشخوص، واستعراضها لتفاصيل دقيقة ومتميزة، ومعقدة في نفس الوقت، وهي سمة قلما نجدها لدى قاص مبتدئ مما يحيل على الاعتقاد كون تجربة الكتابة عن القاص البشير الأزمي هي متجدرة، وتنم عن تكوين متين وحسن، وبتحكم كبير في آلياتها وتقنياتها، لتبقى نصوص المجموعة كطبق لفواكه البحر، مبهرة، ومتميزة، ومثيرة عجيبة وساحرة، ومختلفة من حيث الطول والقصر (قصص، قصص قصيرة جدا) وقد عزز القاص والروائي مصطفى لغتيري ذلك بقوله:" أننا "نلمس اهتماماً لافتاً بالجملة القصصية فجاءت اللغة رشيقة، أنيقة، وسردية بامتياز" ص6. كتبت أغلب النصوص بحس انتقادي جمالي وبسخرية لاذعة لبعض مظاهر العنف المجتمعية ضد الحيوان "الحمار" في "ألف" ضد السائق في "واو"،ضد النفس في "ألف" و "هاء" ضد المجتمع و المصلحة العامة في "دال" وضد الأمل في "زاي". و قد اتخذ هذا العنف مظاهر متنوعة و مختلفة لكنها مقلقة و رصدت ذلك بشكل جيد. و في الأخير لا بد من الإشارة إلى القيم التربوية و الأخلاقية و الجمالية لهذه النصوص و لأنها لها دلالتها العميقة و حسها الانتقادي الساخر يجعل منها بامتياز نصوصاً تربوية أساسية في مقرراتنا التعليمية لسهولتها و قصرها و بلاغة مضامينها.. بما تثيره في نفس القارئ من شغف و تساؤل عميقين. كما لامسنا بناءً وتأثيثاً جمالياً متميزاً وشذرات نفس روائي سلس، قوي، وجذاب، يخترق القارئ، ويقحمه فضاءات القص الرحبة بعفوية دون تكلف، ممزوجة بقدرة رهيبة على الإقناع مع تناسل لأحداث جانبية داخل كل نص بالإضافة إلى عمق الوصف ولذته، والإثارة وتشويقها الضارب في الأعماق، وهو أمر يؤهله بامتياز للكتابة في هذا الجنس الأدبي وقد تجلى ذلك من خلال نصوص كثيرة نأخذ منها على سبيل المثال لا الحصر نص "آخر الديناصورات ص 39/41 وأوراق ميت ص 47.