يعرف محمد أنقار في أوساط التلقي المغربي والعربي بكونه كاتبا للقصة وناقدا وروائيا، وقد سمح له هذا التراكم المتنوع بأن يشغل مكانة مرموقة في ذاكرة التلقي للقصة والرواية والنقد، ومساحة في المشهد الثقافي المغربي. وطالما أن المجال لا يسمح بالحديث عن إنجازاته في مجال النقد والرواية والتعرض لها نقديا، فإننا سنقتصر في هذه المقاربة على تناول متنه القصصي «زمن عبد الحليم»، مع التوقف قليلا عند أبعاده الجمالية والفنية، وعند كل ما يمكن أن يثيره هذا المنجز القصصي من أسئلة نقدية. «زمن عبد الحليم»، قصص قصيرة، هو عنوان المجموعة القصصية للقاص المغربي محمد أنقار، تقع المجموعة في (86) صفحة من القطع المتوسط، وتضم (8) قصص قصيرة. وقد صدرت عن منشورات جمعية الأعمال الاجتماعية والثقافية لكلية الآداب بتطوان. يطرح عنوان المجموعة القصصية لدى القارىء سؤالا رئيسيا حول احتمالاته الدلالية وكذا علاقته بالمتن القصصي، خاصة وأن الدراسات النقدية الحديثة لم تعد تنظر إلى المنجز الإبداعي بمعزل عن العنوان. ومن هنا تبرز أهمية العنوان في الدراسات النقدية مع ما يمكن أن تقدمه من مفاتيح للدخول إلى العوالم النصية للنص القصصي . ورد في المعجم العربي الأساسي أن «زمن»، مصدر زمن،وجمعها أزمان وأزمن»(1)، نقول مثلا: «زمن القصة» أو «زمن الربيع». والزمن هنا لا يأخذ معنى واحدا، فهو يرد بمعنى المدة، وتارة يشار إليه بالدهر والفصل، فيما يشير «عبد الحليم» إلى اسم علم، وعبد الحليم بطلا رئيسا يتخفى داخل المجموعة بملامح عدة ولا يقتصر على ضمير واحد، لكنه مع ذلك فهو يرمز إلى الاسم المغربي المثخن بالأحلام والتطلعات. إن العنوان الذي قدم به القاص محمد أنقار متنه القصصي يعبر عن جمالية رفيعة لها رمزيتها الخاصة، كما يعبر أيضا عن حمولة ثقافية وتجسيد للإنساني الذي لا يمكنه فصله عن الواقع والمعيش. فهل يمكن اعتبار زمن عبد الحليم زمن كل عربي؟ تتكون المجموعة القصصية من (8) قصص جاءت على النحو التالي: الفيل والنملة / القطتان والطفل/ صبي الرمانة / كلمات الليل / العسل الحر / عودة الحبيب / المشي على الأربع / مقبرة الفيلة. ويلاحظ القارىء أن نصوص هذه المجموعة تتوزعها موضوعات مختلفة ومتنوعة من حيث الشواغل، كما تتناول فضاءات: الذاتي/ الغيري والغيري/ الذاتي، العمومي، الطفولي. وتخرج عن دائرة هذا التقسيم الجمالي القصة الأولى من المجموعة بالرغم من مغزاها الإنساني، نقصد قصة الفيل مع النملة إلى جانب مادار بينهما من حواردال و ممتع انتهى بانتكاسة نفسية، وفي ظل هذا الوضع يظل الفيل يجرب ويتشبت بنفس الحلم فيلجأ مرة ثانية إلى النملة الشقراء محاولا، فأمام ممانعتها أيضا يشعر الفيل بخيبة أمل فيعيش على أمل طلب يد «برغوتة». نقرأ في القصة الأولى: «لم يستطع الفيل أن يخفي خيبة أمله إزاء ما سمعه، ولم يدر أي طريق يتخذ عندما انصرفت عنه النملة»(2) رأى الفيل النملة الشقراء وهي تودع رفيقة لها وتأخذ طريق العودة..وكمن عند منعطف خال يتربص مرور النملة»(3) غدا سأجرب مع برغوتة(3). إن هذه القصة ببنيتها النصية المفارقة للواقع تطرح جملة من الأسئلة من حيث الدلالة، في الوقت الذي يرفض فيه نمط الحياة ومنطقه المتعارف عليه وقوع زواج بين فيل ونملة. لذلك تظل هذه القصة مصدر ترميز منفتح يحتمل دلالات كثيرة. يمكن تلخيص دلالة هذه المفارقة في: غياب التواصل الإنساني داخل المجتمع الواحد الذي أصبح ينتصر للمزاجية والانكفاء حول الذات بدل الانصهار المجتمعي. تعايش داخل القيم الواحدة لكائنات محكومة بالاختلاف. تشييد الكائن البشري لنفسه عالما مفارقا بعد أن يكون الأول من يصدقه. إن الاستعانة بالرمز يعكس بصراحة مظهرا جماليا من مظاهر جماليات النص القصصي الذي يتوسل بلسان الحيوان لتبليغ رسالة ما. ولعل القارىء للقصة الإنسانية يدرك جيدا كيف استطاع الكاتب» أوغستو مونتيروسو» في حكاياته المعنونة «بالنعجة السوداء «la oveja negra» أن ينال النجاح ويثير إعجاب القراء، خاصة وأن ما يميز كتابة هذا القاص «الأمريكولاتيني»، قدرته القوية على تصريف - عبر الحكاية طبعا- مواقف ساخرة ومفاراقات عجيبة. فهل يمكن اعتبار هذا النص القصصي نصا ساخرا من حيث أبعاده الاجتماعية في ظل التداخل القائم بين المفارقة والسخرية من حيث التحديد المفهومي؟ الفضاء الذاتي الغيري، والغيري الذاتي/ إن نجاح «زمن عبد الحليم» يكمن في قدرتها على التوغل في أحراش النفس البشرية على طريقة المبدعين الكبار، وتجسد ذلك عبر عين راصدة ولغة عالمة تتطلب الكثير من التأملات والوقفات، واللافت أن هذه السمة لا تقتصر فقط على القصة الواحدة، إذ سرعان ما يجد القارىء لها امتدادات داخل المتن القصصي العام. يقول السارد في القصة الثانية: «جاشت في أعماقي أحاسيس مبهمة» ص(14)، ويقول في القصة الثالثة :»بحلقت عميقا في سطل، وغشت عيني غشاوة فسطلت ص(27)، «رمقت بدوية واقفة كالسهم» ص(27). إن القصة الحقيقية لا ترتكن إلى الفضاء الواحد، لذلك لا غرابة أن تجدها متحركة في الزمان والمكان، تعيش وتساير وتلتقط وتجسد وتدقق في كل التفاصيل بجميع أنواعها وهذا سر من أسراراها، ومجموعة» زمن عبد الحليم» هي الأخرى لا تخرج عن مثل هذه الحدود. في القصة الثالثة يرحل القارىء إلى فضاء السوق بضجيجه و لعبة الدهاء التي غالبا ما تطبعه، ليقرأ ويطلع عن تفاصيل مثيرة من حياة فئة اجتماعية منسية وهامشية، وقد اعتمد القاص المغربي محمد أنقار على تقنيات سردية ملفتة للنظر ساهمت في تحويل القصة إلى لوحة تنضح بكثير من الحياة والتناقضات التي غالبا ما تطبع لغة السوق اليومية. من ضمن هذه التقنيات اعتماد القاص على توظيف: الصورة البصرية نقرأ» لكن قبالة السوق، وبالذات عند حدود سوره الخارجي، ثمة شجيرات رقيقة الأغصان، واهنة الأوراق، مغبرة، توفر قليلا من الظل اتخذ منه الباعة الجبليون مربطا لبغالهم وحميرهم»، القصة الثالثة ص(27). الصورة الرمزية «قصة «القطتان والطفل» التي تنطوي على البعد الأخلاقي، إلى جانب صور متنوعة أخرى، وجميع هذه الصور تستحضر أسلوب التشبيه بتنويعاته. الحوارية: و نقصد بها هنا الحوارية الداخلية «المونولوغ» ص(14)، والخارجية ص(16)، ص(28)، (28).... التشكيل النصي ويقصد به الشكل الفني للنص القصصي، إذ يلاحظ القارىء خضوع نص «كلمات الليل» ص(34). والعسل الحر» ص(46). لتقطيعات تجمع بين الترقيم والنقط، وهو تقطيع لا يخضع للاعتباطية بقدر ما يعبر عن جمالية فنية تتغيا فتح وتشييد مساحة زمنية أمام القارىء للاستدراك والتأمل، كما تحيل على الانتقال، ومن داخل هذا التشكيل النصي المتعدد يمكننا أن نطرح السؤال التالي: هل يتعلق الأمر بتجريب في الشكل القصصي؟ إن فرضية هذا السؤال تكمن في كون الفترة التي كتبت فيها المجموعة القصصية لمحمد أنقار كانت فترة تحولات تعيشها القصة القصيرة على مستوى: الشكل، اللغة، والتيمات. خاصة وأن القاص المغربي محمد أنقار يعتبر قارءا ومتتبعا للمشهد الإبداعي المغربي. أسلوب الحذف نقرأ،..لكن قلبي يتطلع إلى نسمة حالمة، ويد تشتاق إلى لمسة حنان ناعمة،تخففان عني وطأة المقادير...» القصة الأولى ص(9)، ونقرأ أيضا في قصة الصبي الرمانة ص(32)، « ومضى الثلاثة في الممر النظيف الممتد، صاحبة الجلباب والصبي إلى جانبهما، في حين كان يمشي خلفهما قزم زائغ النظرة...»، وهو أسلوب يعتمده الكثير من كتاب القصة القصيرة لإشراك القارىء في بناء الأحداث أو لغاية جمالية يراها القاص ضرورية في تشييد بناء قصصه. وبهذا المعنى يضمن القاص لنصوصه المزيد من الحياة . سؤال الفضاء الطفولي تجسد قصة «القطتان والطفل» في شطرها الثالث حالة نفسية مأساوية يعيشها بطل القصة يتجاذبها القلق والتوتر والخوف من الآتي، وذلك بعد أن كاد يتعرض الابن الصغير إلى خطر السقوط من أعلى. إن هذه القصة تجسد بحق حالة من أقسى حالات النفس البشرية التي تعيش على أعصابها خصوصا أمام الشعور بالفقدان وركوب المغامرة الملفوفة بالمخاطر.