في اليوم العالمي لحرية الصحافة، تفرح صحافة السلطة في المغرب. تفرح لما حققت وأنجزت من تقنين وتقييد، ومن اعتقال وتهديد، ومن إرشاء وتحييد. ينبغي أن نعترف لها بما أنجزت لأن « ما لقيصر لقيصر وما لله لله »، ولأن استقامة التحليل والاحتفال بهذا اليوم (والاحتفال سيبقى ما بقيت الصحافة مهنة نبيلة أساسية للتواصل والبناء الديمقراطي) يفرض عدم نهج سياسة النعامة، والاعتراف بواقع أن السلطة حققت هدفها وهو إغلاق الفضاء الصحفي، إلى درجة أنه صار فضاء أحمر اللون، حسب وصف منظمة « مراسلون بلاحدود »، التي وضعت المغرب في الرتبة 123، وصنفته في « المنطقة الحمراء » لحرية الصحافة هذه السنة . للمقارنة، أصحبت تونس اليوم تتقدم على المغرب وعلى كل الدول العربية في تصنيف مراسلون بلا حدود محتلة الرتبة 97. تونس تتقدم، لكن المغرب يتأخر بعد أن كان نموذجا للحريات في المنطقة العربية، وبعد أن كان مواطنون تونسيون يعتبرون المغرب، حسب عدة شهادات، ملاذا يحلم بعضهم بالهجرة إليه هربا من القمع. وتونس اليوم لا تتميز فقط بترتيبها المتقدم في هذا التصنيف، ولكنها تتميز أيضا بتقنينها الجيد لقطاع حساس هو التلفزة، حيث قررت الهايكا (وهي مرادف الهاكا في المغرب) أن توقف مؤخرا بث قناة « نسمة » التلفزية، إحدى قنوات الاستبداد والفساد حسب تعبير خبراء الهايكا، بسبب عدم احترامها لأخلاقيات الصحافة واستغلالها لأغراض سياسية من قبل رئيسها نبيل القروي خدمة للسلطة سواء قبل أو بعد ثورة 2011. لقد صارت صحفنا التابعة لرجال الأعمال والمقربة من السلطة تمتلئ بأخبار الدجالين والبيدوفيليا وهتك العرض.. ومع ذلك تجدها مملوءة بصفحات الإشهار وخاصة إشهار المأكولات في سوبرماركيت رمضان والسكن والبناء. أما الجرائد الجادة التي تعطي أخبارا لها مصداقية وقريبة من الموضوعية تنفع الحياة اليومية للناس ومواطنتهم، فلن تجد فيها أي إشهار تقريبا. هل هذا يعني أن المغاربة صاروا على هذه الدرجة من الحيوانية بحيث لا يفكرون إلا في الأكل وفي النوم؟ ولا يقرئون إلا أخبار القتل والضرب والجرح؟ لا بالتأكيد. ولكنها استراتيجية إعلامية قديمة قدم الزمن هدفها تدجين وتبضيع المرأة والرجل المغربي لإلهائه عن القضايا الهامة. وتشير دراسة لجامعة كامبريدج ومركز الجزيرة في هذا الصدد إلى « استعانة السلطات بالقيود الاقتصادية والسياسية والتعويل عليها لِلَجْمِ قطاع » الإعلام. من حسنات « الربيع العربي » أنه كشف حقيقة عدد من الصحف والمواقع. من حسناته أنه قام، حسب ما يسمى في أدبيات الأحزاب، « بعملية الفرز ». أصبح الفرز واضحا أكثر فأكثر بين صحف السلطة والصحف الأخرى. وصار إعلام السلطة يكشف عن وجهه أكثر فأكثر إلى درجة أن رجاله أصبحوا يقدمون البرامج التلفزية، ويكتبون الافتتاحيات الشاعرية. وأصبح من الممكن أن نلاحظ بسهولة أن خطاب هذا الإعلام مكتوب بنفس الحبر، وبنفس اللغة، ولها نفس خط التحرير. لهذا عليه أن يجتهد أكثر وينوع من أساليبه ليخدعنا بصورة أفضل. يوم تكتب الصحافة في المغرب عن الصحافة، سنقطع أشواطا كبيرة نحو المهنية والحرية. لأن المنطق يقول إنه مثلما تكتب الصحف عن السياسيين والأحزاب والجمعيات، عليها أيضا أن تكتب عن الصحف والصحفيين. ويوم يتطور علم اجتماع الصحافة في المغرب، سنتقدم أكثر نحو فهم الذات، وستعرف النخبة الأكاديمية المكتفية، في غالبيتها، ببرجها العاجي المريح أن وجود الصحافة هو جزء من وجودها، وعدمها هو جزء من عدم البحث العلمي وغيابه. وفي انتظار ذلك اليوم، تبقى صحافتنا اليوم منغلقة على ذاتها لا تستطيع الكتابة عنها، تبقى منغلقة وسط فئويتها المهنية، رافضة أن ترى إلى وجهها في المرآة، ربما لأنها لا تريد أن تكسر المرآة، أو لأنها تتمسك بحماية فئوية تشكل ربما آخر معقل لحماية الذات والدفاع عنها بعد أن سكتت جل الأحزاب، وغالبية الجمعيات والنقابات عن الدفاع عن الحريات، مع أن حماية وفهم الذات يمر أساسا وبالضرورة عبر نقدها صحافة السلطة مثلا لا تحب عزمي بشارة الفلسطيني المسيحي ولا ابن كيران المغربي الإسلاموي. فلا مسيحية الأول، ولا إسلاموية الثاني تشفع لهما ليجدا مكانا في قلبها وفي تنظيرها المعلن لليبرالية. لأن الليبرالية التي تدافع عنها هي ليبرالية انتقائية تتحول بسرعة إلى تسلط ودكتاتورية ضد كل ما يعبر عن إرادة الشعب أو تقدمه العقلاني. وحسب منطقها هذا أيضا، فهي صحافة تحب من فرنسا حرية الجسد وخاصة الصور العارية لتضعها في الصفحات الأخيرة، ولكنها لا تحب ما يأتي من فرنسا من حرية سياسية سمحت، مثلا، لأصحاب « السترات الصفراء » بأن يتظاهروا منذ شهور وسط باريس بدون مشاكل وضمن فضاء ديمقراطي يسمح لجميع الآراء بأن تعبر عن نفسها. صحافة السلطة لا تحب، مثلا، قناة الجزيرة، ولا الأممالمتحدة، ولكنها تحب كرة القدم كثيرا لتلعب بمشاعر المغاربة. وهي تحب الوطن و “تمغربيت” ولكن لتوظفها حسب شهواتها واستراتيجيتها لزرع التفرقة. لأنها ما يهمها ليس الوطن ولكن همها هو التفرقة داخل الوطن الواحد: بين العروبي والريفي والسوسي والصحراوي.. وهي تدافع عن الأمازيغية ولكنها تنتقدها حين تأتيها من الشرق العربي رغم أن المكون الأمازيغي موجودة في قلب تونس والجزائر وغيرها.. وهي أخيرا صحافة لا تحب الحقيقة، وتقدس الخبر الكاذب لأنه محركها اليومي حتى تمارس سلطتها ووجودها. إن الكذب، في العمق، ينطلق من إرادة لتغيير الواقع مثله مثل العمل وأخذ المبادرات. ولهذا فإن السبيل الوحيد لتجاوز استراتيجية الأخبار الكاذبة هو أن « نجعل الواقع يعيش في قلق » حسب المفكرة آنه أرندت.