تطرقت المقالة السابقة للدوافع و الأسباب الكامنة وراء اهتمام الولاياتالمتحدة بمنطقة الخليج العربي، و ما تواجهه وحدة دوله من تحديات جمة جراء تواجدها بين مطرقة الولاياتالمتحدة بجشعها، و السندان الفارسي بتجلياته التوسعية الطائفية، ذات الخلفية التاريخية العرقية، الهادفة لإعادة إحياء المجد الإمبراطوري الفارسي زمن الضعف العربي، مستغلا بذلك ما حل بالمنطقة من نكسات مستمرة منذ سقوط بغداد عام 2003، ومن هذا المنطلق كان السؤال عن موقع دول الخليج العربي في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية و ما يمارسه ذلك من تأثير سلبي على الأمن الإقليمي للخليج العربي؟. فإذا كان النهج الغربي مبنيا على سياسة ابتزاز دول الخليج العربي، و ذلك بدعوى توفير الحماية و الأمن لدوله، فإن إيران تعتمد آليات ضغط مختلفة لفرض نفوذها و إيديولوجيتها على دول الخليج العربي، و من بينها آلية الضغط المذهبي، التي تستغلها لكسب تأييد الفئات الشعبية داخل مجتمعات دول الخليج التي لم تنصفها سياسات بلدانها، و إلى جانب هذه الآلية فقد استغلت إيران الفراغ العسكري الذي تركه انهيار نظام صدام حسين، لفرض نفسها كقوة إقليمية بديلة بعد تمكنها من تطوير برنامجها النووي، إبان انشغال العالم بالقضية العراقية. فالتناقضات التي يعرفها الخليج العربي، سواء منها السياسية أو الاجتماعية، مكنت إيران من النجاح في إستراتجيتها لحد كبير تجاه العرب، حيث تمكنت من زرع المذهب الشيعي في خمس دول عربية بشكل رسمي، بل و أصبح مذهبها يمثل تهديدا خطيرا لدول الخليج التي كانت معروفة بالاستقرار المذهبي مثل البحرين و السعودية و الإمارات و الكويت، و الأخطر من هذا هو قدرة إيران و تمكنها من إيصال مذهبها حتى إلى الدول العربية البعيدة عن محيطها الإقليمي، مما يعني أن إيران لا تسعى فقط لضبط أمن محيطها الإقليمي، و إنما تهدف أيضا وراء سياستها تجاه العرب إلى توسيع نفوذها خارج حدودها الإقليمية، و ذلك بتوسيع مجالها الحيوي، عن طريق نشر المذهب الشيعي، خارج الحدود الإقليمية للخليج العربي ليشمل بذلك دولا عربية لم تكن تعرف عبر تاريخها فكر التشيع؛ و خير مثال على ذلك ما يعرفه المغرب اليوم من خلال ما يسمى بشيعة المغرب الأقصى، رغم أن المملكة المغربية لها ميزتها الخاصة المتمثلة في إمارة المؤمنين التي يجسدها شخص جلالة الملك حفظه الله. إن الدولة الإيرانية لم تكتف بهذا فحسب، و إنما عملت جاهدة- و لا تزال- على تغذية الخلافات العربية -العربية كما هو الحال بين المغرب و الجزائر في قضية الصحراء المغربية، حيث لا تنفك دولة المرشد في مد جبهة البوليساريو و حاضنتها الجزائر بالمعدات و الخبراء، دون أن ننسى التدخل الإيراني في الشأن المصري، و كذا في القضية الفلسطينية التي تستغلها الدولة الإيرانية بشكل مهين لخدمة مصالحها، سواء بشكل مباشر في الخطابات السياسية لزعمائها، أو غير مباشر عن طريق حزب الله، الذي نجح إلى حد كبير في استقطاب بعض التعاطف من الرأي العام العربي، إن لم نقل أغلبيته، خاصة وأن الحزب يقدم نفسه كبديل للمقاومة و كمدافع عن القضية. وكل ما سبق ذكره يؤشر إلى أن السياسات الإيرانية تجاه العرب تشكل تهديدا خطيرا للدول العربية سواء في مستقبلها الحضاري أو استقرارها المذهبي، بل إنها تمثل تهديدا متناميا لأمنها القومي، و هو ما تجسده اليوم الحالة السورية و العراقية و اليمنية، بغض النظر عن اللبنانية التي أصبح فيها المذهب الشيعي من ركائز المؤسسة السياسية، خاصة و أن إيران تمتطي مطية الدين الإسلامي لنشر فكر إيديولوجي ظاهره رفعة الإسلام و الديمقراطية، و باطنه الطائفة و المذهب، مما يعطي لخطابات عملائها صدى و تجاوبا قويين لدى عوام الشعوب العربية الأقل وعيا والأكثر عددا ، و عليه يمكن التساؤل- دون أدنى تحفظ – عما إن كانت إيران دولة راعية للإرهاب الدول و الشعوب؟، كما وصفتها تقارير الخارجية الأمريكية، أم أنها دولة ساعية وراء رفعة الإسلام و رخاء المسلمين؟ و إلا فكيف ستفسر دولة المرشد تخصيص سبعين في المائة من نفقات ميزانيها للتسلح و لتصدير المذهب الشيعي؟. هذا من الجانب النظري، أما من الناحية الواقعية فنجد إيران تحتل مساحة كبيرة من الخليج الشرقي، كما لا يخلو الساحل الغربي من نفوذها، خاصة و أنها تسيطر على الجزر الإماراتية الثلاث، بل و تعتبر دولة البحرين جزءا من التراب الإيراني، و هذا الأمر يجد تفسيره، بشكل غير مباشر، فيما تعاني منه البحرين اليوم من مشاكل داخلية مرتبطة بالمذهب الديني الشيعي، تصاغ بقالب اجتماعي و سياسي. و بالتالي فالتعقيدات التي تشوب العلاقات العربية الإيرانية ليست وليدة هذه اللحظة، و إنما لها جذورها التاريخية و السياسية و الدينية فضلا عن الاقتصادية التنافسية، بل و حتى المفاهيم المرتبطة بتسمية الخليج، فالإيرانيون يصرون على تسميته بالخليج الفارسي، في الوقت الذي يلح فيه العرب على تسميته بالخليج العربي، و هي دلالة و إشارة كافية لتفسير مدى عمق و تجدر الصراع بين الطرفين. وتشكل قضية البرنامج النووي الإيراني أهم العقد التي تواجهها العلاقات الإيرانية مع جيرانها العرب، إن لم نقل إن تلك القضية هي المحدد و المتحكم في آن واحد في مصير ومستقبل تلك العلاقات، خاصة بعد استشعار الإيرانيين التهديدات الأجنبية المتمثلة في الوجود الأمريكي بالمنطقة منذ حرب تحرير الكويت، ثم احتلال العراق و أفغانستان. ويضاف لهذا ما تمثله إسرائيل لدولة المرشد من تهديد مستمر ما فتئ يتزايد يوما بعد آخر، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما تمر به دولتي سوريا و اليمن العربيتين، من ظروف حرجة قد تكون لها تداعيات مستقبلية تعيق المد الإيراني في المنطقة و تحد من طموحاته التوسعية بعد نجاح تثبيت القدم الفارسية في بلاد الرافدين، و فوق هذا كله لا يمكن لرادار الاستشعار الفارسي إغفال ما يلتقطه من المؤشرات الصادرة من الدول النووية المجاورة كالهند و باكستان الحليف التقليدي للمملكة العربية السعودية. وبالتالي فهذه الرؤية توضح أن أمن الخليج من وجهة نظر السياسية الإستراتيجية للجمهورية الإسلامية يتطلب الدعوة إلى رفض التدخل الأجنبي بالمنطقة، كمناورة سياسية لكسب نوع من التأييد الإقليمي، خاصة من شعوب المنطقة التي ستنظر لإيران بعين المخلص الرافض للتبعية الغربية، خاصة و أن ساسة طهران متأكدون تماما من الرفض الرسمي لدول الخليج العربي لسياسات إيران في المنطقة، هذا من جهة، و من الناحية المقابلة تحاول إيران كسب الود الغربي بإبداء مرونتها من خلال ما تسميه بتعاونها لإخلاء الخليج من أسلحة الدمار الشامل، هادفة من وراء هذه الازدواجية الحصول على فرصة تاريخية تسمح لها بخلق مظلة أمنية برعاية غربية تشكل فيها إيران الفاعل الرئيس، مما سيمكنها بالتالي من تحقيق نفوذها السياسي و الاستراتجي و الديني بالمنطقة. وختاما فلعل كل هذه المعطيات مجتمعة، هي التي تدفع بالباحث العربي في هذا الموضوع الآني لطرح أسئلة كثيرة حول طبيعة العلاقات الإيرانية العربية، لعل الإجابة عنها ستشكل أساس بناء البرج العالي لاستشراف مستقبل أفضل للأمن القومي العربي، وذلك بتوفير رؤى استشرافية لصانعي القرار السياسي يمكن تقديمها كبدائل استرشادية في إدارة مثل تلك المدخلات التي تخلقها التدخلات الإيرانية في الشأن العربي، كما هو الحال لأثر التسلح الإيراني على الجيران العرب الخليجيين، سواء من الناحية السياسية و الأمنية، الذي يبقى من أقوى و أخطر المدخلات التي تواجها الدبلوماسية العربية برمتها، و ليس فقط دول الخليج العربي، و في هذا المضمار لابد من التنبيه إلى الخطر المستقبلي الذي يشكله البرنامج النووي الإيراني على منطقة الخليج بوجه خاص، و على الوطن العربي و البشرية بشكل عام، و بالتالي التساؤل عن ماهية الأهداف الإيرانية الحقيقية من وراء برنامجها النووي؟ من هذا المنطلق، فقد أصبح لزاما على الدول العربية التعامل مع التهديد الإيراني بحزم وتكاثف، و إلا فعواقب التقاعس ستكون مخزية و محزنة للجميع. وذلك بتقنين و مراقبة المجال الديني، و بتفعيل دور المجتمع المدني من جمعيات و أحزاب و غيرهما من المؤسسات و الهيئات للقيام بواجبها الوطني و الاجتماعي لصون الدين الإسلامي الحنيف و القيم الحضارية العربية الراسخة. و بتشجيع المراكز البحثية في كل أرجاء الوطن قصد القيام بدورها في إبراز التراث العربي الأصيل و صون قيمه و نشرها بين أفراد المجتمع، وذلك بالتشبيك بين مختلف المراكز و المنظمات العربية قصد تمكين الشعوب العربية في التقارب و التلاحم فيما بينها، بتعريفها بوحدة تقاليدها و أصول حضارتها الراسخة القائمة على الإسلام الحنيف بمذاهبه السنية المتسامحة الرافضة للتطرف و الطائفية عبر تاريخها التليد.