حدثان مهمان لهما دلالة خاصة نشير إليهما في مستهل الحديث عن العلاقات العربية - الإيرانية، أولهما حضور الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى القمة الإسلامية في مكةالمكرمة ولقاؤه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في إشارة إلى تهدئة العلاقات المتوترة بين العرب وإيران؛ وتبع تلك الخطوة إعلان الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي عن اعتزامه حضور قمة عدم الانحياز في طهران في أول زيارة لرئيس مصري منذ عهد الشاه. ونحن نرى أن العلاقات بين الأمتين العربية والفارسية أعمق وأبعد من هذه الأحداث العابرة، فهما معا شريكتان في الحضارة الإسلامية وتاريخها المتألق، كما أن الجوار الجغرافي قد جعل التداخل بينهما أمرا يستحيل تجاهله. وفي ظننا أن هذه العلاقات التاريخية العميقة قد مرت بمراحل من الصعود والهبوط، ولكنها ظلت دائما قوية مزدهرة إلا في فترات معينة، خصوصا عندما تستبد النزعة الفارسية بأهلها فينظرون إلى العرب نظرة مختلفة، وقد يكون الأمر عكسيا عندما تنظر الأغلبية السنية في العالم العربي بقلق إلى دعاوى المذهب الشيعي في إيران، خصوصا بعد قيام الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني. ويهمنا في هذا المقام أن نعرض النقاط التالية: أولا: إن كل من يستعرض تاريخ الحضارة العربية الإسلامية يدرك أن دخول العجم في الإسلام كان عنصر ازدهار للحضارة المشتركة، ولكنه سمح بالدخول المتزايد ل«الموالي»، خصوصا في العصر العباسي، وهو ما يعني أن حساسيات معينة قد ولدت مع التلاحم التاريخي للأمتين حتى وصلنا إلى مرحلة من الازدهار لا نكاد نعرف فيها الأصول الفارسية من الأصول العربية للمفكرين والعلماء والشعراء والأدباء تحت مظلة الحضارة الإسلامية. ولقد نشأت عن تلك الفترة المضيئة عوامل إيجابية في العلاقات العربية الفارسية لا ننكر وجودها، وربما لا تزال رصيدا يمكن الانطلاق منه والبناء عليه؛ ثانيا: إن القومية الفارسية بطبيعتها تقوم على عصبية تاريخية رغم أن العنصر الفارسي النقي لا يكاد يمثل نسبة مؤثرة إلى جانب القوميات الأخرى المكونة للدولة الإيرانية، وفي مقدمها الأتراك، ولكننا لا نستطيع أن نعفي الدولة الإيرانية من نزعات لا تخلو من التعصب العرقي الذي حاول الإسلام القضاء عليه، فالفرس في أعماقهم ينظرون بشيء من الاستعلاء إلى العرب رغم أن الإسلام قد جاءهم من بلاد العرب، فرفع من شأن الأمة الفارسية وجعلها مختلفة عن غيرها من الأمم الآسيوية وصهر القوميات المكونة للدولة الفارسية بشكل أدى إلى تدعيم كيان الدولة وتعزيز انطلاقها؛ ثالثا: إن العلاقة بين الدين والسياسة في توجهات إيران الإقليمية أمر يستدعي التأمل ويثير الملاحظة، خصوصا بعد قيام الثورة الإسلامية عام 1979، فالمذهب الشيعي الإثنا عشري السائد في إيران مكّن الثورة من أن تجد الكوادر السياسية المختلفة بشكل سمح باستمرار إيران كقوة إقليمية ربما أكثر من عصر الشاه ذاته. ولو قارنا الأمر هنا بوصول جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في مصر لوجدنا أن «الجماعة» تفتقر إلى الكوادر ذات الخبرة كما يعوزها الخيال السياسي ووجود رجال دولة من طراز مؤثر في العلاقات الدولية والإقليمية. ولا بد أن نعترف هنا بأن المذهب الشيعي ربما يختلف عن أهل السنّة في أنه يضع تسلسلا تنظيميا للهرم الروحي في إطار المؤسسة الدينية، لذلك وجد الإيرانيون بعد الثورة الوزراء والخبراء وأصحاب التجربة السياسية والأكاديمية والدبلوماسية بسهولة شديدة. من هنا فإن الدين والسياسة في التوجهات الإيرانية وجهان لعملة واحدة، ولقد كتبت منذ أسابيع مقالا تحدثت فيه عن إيران بين السياسة والدين، وخلصت منه إلى أن الجانب القومي يستغل الجانب الديني من أجل تعظيم العائد السياسي للدولة؛ رابعا: إن الثورة الإسلامية في إيران قد أحدثت آثارا دولية وإقليمية لا يمكن تجاوزها وقطعت من الصلات أكثر مما وصلت. ونحن هنا لا نمتدح عصر الشاه، ولكننا ندرك أن الثورة الإسلامية في إيران قد خلقت من المخاوف والتحفظات، الدولية والإقليمية على السواء، ما أعطى إيران ثقلا ولكنه سلب منها تعاطفا، فقد كسبت الاحترام وخسرت الحب! فأصبح الآخرون ينظرون إليها بشيء من الهيبة، ولكنهم لا يشعرون بالميل إليها أو الرغبة في التعامل معها. لقد خشيت دول كثيرة من المد الشيعي، بل وبالغت في تصوير آثاره كثيرا؛ كما أن يد «الثورة الإسلامية الإيرانية» قد امتدت إلى بقاع آسيوية وإفريقية مخترقة العالم العربي في بعض مناطقه الشيعية تحديدا. والأمر هنا يؤكد أن إيران لها أجندة عقائدية وقومية -ولا بأس من ذلك- فلكل دولة توجهاتها وسياساتها التي لا يمكن إنكارها، وهذا حق لدولة إقليمية قوية مثل إيران، بحيث تضع لنفسها أولويات تمضي عليها، وربما لا تحيد عنها، ولكن بشرط ألا يكون ذلك على حساب الآخرين بما يصنعه من حساسيات ومخاوف؛ خامسا: إن أزمة الجزر الثلاث المغتصبة من إيران ستبقى شوكة في حلق العلاقات العربية - الفارسية، والغريب في الأمر أن الإيرانيين يرون أنهم أصحاب حقٍ تاريخي فيها، ولكنهم يرفضون في الوقت ذاته لجوء الطرفين إلى التحكيم! ولا شك في أن دول الجوار العربي لإيران في منطقة الخليج تنظر بحذر إلى السياسات الإيرانية في هذا السياق؛ وعلى الرغم من أن دولة الإمارات العربية المتحدة تحاول التعامل مع هذه المشكلة بكثير من الهدوء والاتزان، فإن ذلك لم يؤثر حتى الآن في حلحلة الأزمة وأبعادها المتداعية. ولا شك في أن دول مجلس التعاون الخليجي تنظر إلى مشكلة الجزر المحتلة باعتبارها عقبة في طريق العلاقات الطبيعية والودية بين العرب وإيران، وتشارك الخليجيين في ذلك دول عربية أخرى تتعاطف مع الموقف الإماراتي وتدعمه، دوليا وإقليميا؛ سادسا: إن ما جرى في مملكة البحرين خلال العامين الماضيين قد خلق من الحساسيات والمخاوف بين العرب وإيران أضعاف ما كان قائما لأنه قد وضع مثالا حيا للتدخل المذهبي الإيراني في شؤون إحدى دول الجوار. ولقد عانت مملكة البحرين من اضطرابات مشهودة تقوم على أساس رفض العرش السني في دولة تزعم إيران أن أغلبية سكانها من الشيعة. ولا شك في أن أطماع طهران تدفعها إلى استغلال الاختلاف المذهبي لتحقيق مكاسب سياسية وإقليمية. وعندما دخلت قوات «درع الجزيرة» إلى مملكة البحرين لحمايتها، تدهورت العلاقات بين العرب وإيران بشكل غير مسبوق، خصوصا في ظل مخاوف كامنة لدى دول الخليج العربي -تحديدا- من تطورات البرنامج النووي الإيراني رغم أن العرب جميعا لا يوافقون إطلاقا ولا يقبلون في كل الظروف توجيه ضربة إسرائيلية أو أمريكية إلى المنشآت النووية الإيرانية، فالروابط بين العرب وإيران أقوى في النهاية من قبولهم لعدوان أجنبي على المنطقة؛ سابعا: إن دور «إيران الثورة الإسلامية» في الصراع العربي - الإسرائيلي قد اختلف مائة وثمانين درجة عنه في عصر الشاه، إذ أصبحنا أمام دعم إيراني واضح للقضية العربية الأولى وتعاطف مشهود مع الشعب الفلسطيني، ولقد أصبحت العلاقات الإيرانية الإسرائيلية متردية بشكل ملحوظ بسبب ذلك، حيث دخلت أطراف عربية أخرى ذات صلة وثيقة بإيران في غمار الصراع العربي - الإسرائيلي المحتدم، ونشير هنا تحديدا إلى الدولة السورية ودور «حزب الله» في ذلك، وهو ما سوف نأتي إليه في النقطة التالية؛ ثامنا: إن العلاقات الوثيقة بين طهرانودمشق في ظل حكم الرئيسين الأسد الأب والابن، قد أدت إلى وجود محور يخترق العالم العربي، ويكفي أن نتذكر أن دمشق كانت داعمة لطهران في الحرب العراقية - الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي. كما أن ولادة «حزب الله» ودوره الظافر في الحرب مع إسرائيل عام 2006 قد أكسب المحور الإيراني - السوري أهمية في المنطقة، كما أدى أيضا إلى عزلة دمشق نسبيا عن دول الخليج، خصوصا المملكة العربية السعودية، حيث ظهر كما لو أن بشار الأسد يفضل العلاقة بطهران عنها بالرياض رغم أن العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز معروف دائما بتعاطفه مع دول الشام وحرصه على علاقات طيبة بدمشق؛ تاسعا: تردد دوائر عربية دينية، وربما كان في مقدمتها الأزهر الشريف في مصر، أن إيران تسعى إلى نشر المذهب الشيعي في المنطقة، فهم يرددون دائما في طهران أن «مصر الفاطمية» كانت دولة شيعية وأن الأزهر الشريف ذاته قد بني لكي يكون قلعةً للمذهب الشيعي، كما يردد الساسة العرب والخبراء المعنيون بالشؤون الإقليمية أن إيران تتطلع إلى وجود دول عربية تحت السيطرة الشيعية، ويرشحون في هذا السياق من خلال أحلامهم وطموحاتهم جمهورية لبنان أو مملكة البحرين. ونحن نرى أن الوصول إلى هذا الهدف أمر عصي بسبب وجود بحر هائل من أهل السنّة بأغلبية كاسحة في المشرق العربي والمغرب العربي على السواء؛ عاشرا: إننا ننظر إلى العلاقات العربية - الإيرانية بشكل إيجابي في النهاية، لأننا نريد أن يكون كل منهما إضافة إلى الآخر، وأنا ممن يعترضون بشدة على بعض الكتابات المتطرفة التي تساوي أحيانا بين الخطر الإسرائيلي والخطر الإيراني على العرب، فالفارق بينهما لا يحتاج إلى إيضاح، ولقد طالبت شخصيا، في محاضرةٍ عامة بمدينة الدوحة عام 1998، بضرورة النظر إلى علاقات الجوار بين العرب وإيران نظرة إيجابية لتحويلها إلى مصدر قوة وليس مصدر ضعفٍ تخترق منه القوى الطامعة في نفط المنطقة الطريق لإحداث شرخ كبير فيها مستغلة اختلافات قومية أو دينية أو مذهبية. هذه رؤيتنا نتطلع فيها إلى مستقبلٍ أفضل للعلاقات العربية الإيرانية، ونرى أن النظرة إلى الأمام يمكن أن تعفينا من مخاطر لا تحتاجها المنطقة العربية الإسلامية وتجعل في النهاية المظلة المشتركة هي التي تغطي الطرفين، ولا داعي إلى أن يتشدد الإيرانيون بالحديث عن «الخليج الفارسي»، وليتفق الجميع في النهاية على أنه خليج «إسلامي» يطل عليه العرب من ناحية ويطل عليه الإيرانيون من الناحية الأخرى، فالمستقبل يجب أن يقوم على أسس من الجوار المستقر والتعاون المشترك والتنسيق الكامل.