«نيطع» و«عميت» زوجان يهوديان شابان من أصول مغربية يعيشان في إسرائيل. ميزتهما الإحساس الفني المرهف، الذي وثق رابطتهما بالمغرب. في كلامهما نفور واضح من السياسة التي زرعت الحواجز والحدود.. ومحبة للسلام والوطن. عندما طرح السؤال على «نيطع القايم» حول الوطن، انحبست الكلمات في حلقها.. وفي صدرها تضاربت مشاعر كثيرة، دفعت بدمعتين إلى الانفلات من عينيها، ثم بذكاء كبير راوغت السائل وأجابت: موطني هو «عميت» (زوجها)، لم تستطع أن تختار بين إسرائيل حيث نشأت والمغرب حيث يرقد أجدادها. «عميت» نفسه كانت إجابته أكثر وضوحا عندما قال إن في المغرب يوجد أكثر من 2000 سنة من تاريخ أسلافه، أما في إسرائيل فعمر هذا الوجود لا يتجاوز 60 سنة. رحلتهما كما وثق لها شريط الجميل كمال هشكار على دوزيم، تحت عنوان: «ف عينيك.. نشوف بلادي»، انطلقت من إسرائيل للمشاركة في مهرجان أندلسيات بالصويرة.. غير أن الرحلة في الحقيقة تجاوزت كل الحدود.. حدود الجغرافيا.. حدود السياسة.. حدود الروح.. حدود العشق المغربي.. بل تجاوزت أيضا حدود تنغير حيث ولد وعاش أجدادهما. أنا نص شلحة.. تقول «نيطع».. ثم عندما تعجز عن استكمال النصف الآخر.. ينقذها «عميت» من المأزق: أنت باختصار يهودية مغربية.. الثقافة المغربية لم تغب قط عن تنشئة الزوجين.. ترانيم الحب للوطن حولاها إلى موسيقى تنهل من التراث، لذلك عندما طلبت منها المسنة «حنينة» أن تغني لها شيئا صدحت: «خليوني مع حبيبي...». هي نفسها تقر بأنها رغم ولادتها في إسرائيل إلا أن الثقافة المغربية لم تغب قط عن بيئتها.. تتكلم الدارجة بطلاقة وبها تغني لابنها «إيليغ» كل ليلة قبل أن يسلم جفنيه للنوم. وفي كل مشهد من مشاهد الشريط الوثائقي، كانت الأغاني الشعبية المغربية تصدح لتحرك ما ركد على امتداد سنوات العيش بإسرائيل إلى أن بدأت رحلة الزوجين إلى المغرب. وهنا عندما تتنفس عبق الوطن تقول: «عندما وصلت إلى المغرب شعرت أني أنتمي فعلا إلى هذا البلد.. تجولت في أسواقه وسط كل هؤلاء الناس الذي يتكلمون بالعربية. أنا نشأت في جو يطبعه الخوف من الآخر». ثم تغني «ضيعت شبابي على وحيدة...» ومع كل حكاية.. ومع كل سرد.. ومع كل سفر داخل الشريط.. ينبثق الإيقاع نفسه الذي يدفع برعشة إلى خلق خليط من مشاعر الحب والحنين. لكأن الخيط الرابط بين كل هذا الشتات هو ذلك الإيقاع المغربي الجميل، الذي ما إن ينطلق حتى تتحرك قشعريرة خفيفة في جسد الزوجين، وترتسم الكثير من علامات الاستفهام في عينيهما: «ما الذي يجري؟».. «لماذا كل هذا الكم الهائل من المشاعر؟». تختلط المشاعر والأحاسيس المرفقة مع كل أغنية.. مع كل إيقاع.. لتبلغ أوجها عندما يغني لهما المعلم الكناوي في الصوريرة ترانيم كناوية يهودية... الدهشة لا تفرهما وهما يبلغان أقصى بلدة في تنغير.. يحتضنها الجبل والأهالي.. يرافقهما الشبان بحثا عن المكان الذي عاش فيه أسلاف «عميت». في المقبرة ينفجر «عميت» بكاء.. لم تكن دموع الحزن على الراحلين فقط.. بل هو حب هذه التربة أو الأسلاف.. والأرض التي ينتمي إليها والتي لم تطأها قدماه مطلقا. هو الانتماء للوطن الذي يوقظ هذه المشاعر وسط دوامة الحياة والشقاء والانشغال بالناس وبعلاقاتنا الاجتماعية، وينتشلنا أحيانا من الإحساس المادي ليوثقنا برباط قوي غير مرئي لا تعرف كيف يحيط بك ويحتضنك.. يعبر عن نفسه في كل مرة بنفس الرعشة ويبلل العيون. وفي تنغير وسط الجدران الطينية والناس البسطاء تتعالى ضربات الطبل والقراقب من فرقة غنائية اصطفت بعناية وانخرطت في العزف على إيقاع موسيقى محلية. وفي الصويرة وبين أحضان جمهور الأندلسيات تغني نيطع: مولاي ابراهيم صاحب الفقرا راه يقضي حوايجي ونقولو لفعالة دڭو الخلالة خراص كبار ونبالة وميات ريالة باش نكافي حسان ماما هاك آ ماما عطي لماما آ للا ماما، اذا عصينا حنا لله تايبين الزين الزين ما ندوزو واخا ونموت بالحديد وتكون السنسلة فعنقي ويكون رسامها جديد.. هل هناك حب للوطن أكثر من هذا يمكن أن يرقد بين هذه الضلوع؟