ليلة أمس تناولت العشاء مع وزير التعاون الإقليمي، تساحي هنغبي (Tzachi Hanegbi)، في إحدى المقاهي البسيطة بشاطئ يافا. لم يكن قادما في أي موكب، ولا مرفوقا بأي شخص ولا أي حراس. وحدها نادلة المطعم طلبت منه أن تلتقط معه صورة بعد انتهاء العشاء الذي كان إفطارا بالنسبة لي بعد يوم رمضاني طويل ومشمس تنقلت فيه كثيرا. ودون ذلك فقد جاء وغادر مثل أيها الناس. كان الحديث عن المغرب وعن "العلاقات تحت الطاولة" التي تربط المغرب بإسرائيل، وسمعت بعض المغاربة الذين كانوا معي يقترحون عليه تعاونا على المستوى الاجتماعي في مشاريع الكهرباء والماء والري وغير ذلك. كان لبقا في أجوبته، لكنه عبر على أن "إسرائيل مستعدة للتعاون مع المغرب في جميع المجالات، مستعدة للتعاون مع الجمعيات والهيئات، لكن أن يتم ذلك بموافقة الدولة المغربية وعبرها". واليوم ها آنذا أصل مدينة أشدود الساحلية أيضا. بلغت المدينة في حدود الخامسة مساءً، ما يزال الكثير من الوقت لبلوغ موعد الإفطار. التعب والإعياء أخذا مني كل مأخذ، ولا يبددهما سوى الفضول في اكتشاف المدينة، كنت رفقة صديقي عصام، تجولنا في شوارع المدينة ذات العمارات الشاهقة، ووجدنا بالصدفة معرض كتب، زجينا الوقت قليلا بالتجول في أروقته، وقد أثارني ثمن الكتب المرتفع، فأغلب الروايات والكتب العلمية بالعبرية ثمنها 100 شيڭل، أي 265 درهما تقريبا. لكن عندما تعلم دخل الفرد يزول العجب. لم يكن في المعرض أي كتاب باللغة العربية، كل الكتب بالإنجليزية والروسية، والكم الأكبر منها بالعبرية. عكس مدينة القدس أو عكا أو حيفا حيث تجد مظاهر إسلامية من مساجد ومزارات إسلامية وأماكن لإفطار المسلمين ومقاه بها عرب مسلمون يدخنون الشيشة، ففي هذه المدينة لم نعثر على محل يقدم وجبات الإفطار، كنت مع صديقي عصام بعدما تخلصنا من مرشدنا اليهودي من أصل صفرو، الذي اتفقنا معه على لقاء قبالة مركز كبير للتسوق بعد الإفطار. لم يكن أمامنا سوى الإفطار في محل للبيتزا غير بعيد عن مركز تسوق. كانت النادلة لا تتحدث سوى اللغة العبرية وبعض الكلمات القليلة بالإنجليزية فقط، ولم نكن نحن نفهم العبرية، وما كنا نستطيع أن نطلب الطعام الذي نريد بالعبرية، ولم يكن أمامنا سوى أن نشير بأيدينا نحو زبائن، ونخبرها عبر تلك الإشارات بأننا نريد مثل ما طلبه ذلك الرجل أو تلك المرأة. ونحن نحدد طلبنا، ونسخر بيننا بالدارجة من هذا الوضع، سمع حديثنا تونسي كان غير بعيد عنا، فحيانا بالفرنسية، وعرض علينا خدماته في الترجمة نحو العبرية بعدما سمع حديثنا بالدارجة. "أعرف أنكما مغربيان، زوجتي أيضا من الدارالبيضاء، سأعرفكما عليها الآن، قولا لي فقط ماذا تريدان وأنا أتكلف بإفهام النادلة". عرفنا اليهودي التونسي على زوجته الكازاوية الجميلة التي كانت تنتظره في مائدة في مكان مطل على الشارع في هذا المقهى، دردشنا معهما قليلا، ثم اعتذرنا لهما، فالجوع كافر. سابقا كنت أعتقد أن الإفطار الذي لا توجد فيه الحريرة والتمر والشباكية و"خبز تادونت" والقهوة والبيض والكاميرا الخفية والقفشات غير المضحكة للتلفاز المغربي، إفطار غير سليم ومكروه، لكن السفر والتنقل يجعلك تقبل بأي شيء في سبيل أن تملأ بطنك. أيجوز أن نردد باسمك اللهم أفطرت حتى ونحن نزدرد البيتزا الإسرائيلية والعصائر المعلبة؟ سألت عصام، لكنه لم يجب، كان يضحك بينما يحشر تحت أنفه بما تيسر من الطعام. بعد ذلك وجدنا مرشدنا ينتظرنا قرب مدخل السوق التجاري، ليرافقنا لحضور سهرة غنائية خاصة بمغاربة إسرائيل تحييها مغنية من أصل تنغيري اسمها نتاع قايم. مسرح أشدود الكبير به قاعات كثيرة، ولم نكن نعرف في أي قاعة توجد "نتاع بنت تنغير" التي اشتهرت بأغانيها في إسرائيل، وخلقت لنفسها معجبين كثرا يتهافتون على أغانيها الجديدة والمغربية التي تعيد غناءها في المحافل والسهرات. لكننا سنترك زمام القيادة لمرشدنا ابن صفرو. كانت معنا تذاكر بها رقم الصف ورقم المقعد، لكنني مع ذلك اعتقدت أن الأمر مجرد ترف بلا معنى؛ ففي المغرب كثيرا ما سافرت في حافلات جيدة وعندما أبحث عن رقمي أجد شخصا فيه، فيقول لي: اجلس أنّى شئت فالحافلة فارغة، وإذا أصررت على أن تجلس في المقعد الذي يحمل رقم تذكرتك قد يدخل معك في نقاشات لا تنتهي عن العياقة وقلة مايدار وتعقاد الأمور. أما الحافلات "السواقية"، فالبحث عن رقم المقعد سوف يجعل منك أضحوكة في نظر الركاب. في مدخل القاعة المظلمة وجدت شابا طلب مني تذكرتي ودلني إلى الرقم الذي يوجد بها، وجدت مقعدي فارغا، كما أن مقعد صديقي عصام بقي هو أيضا فارغا في انتظاره، وكذلك مقعد مرشدنا شلمون ابن صفرو، وكل حسب الرقم المسجل في تذكرته. حتى عندما زرنا صديقتنا إيڤيلين في كريات آتا نواحي عكا، وجهت السائق ليركن سيارته في مكان بعيد لأن كل الأماكن في المربد الخاص بهذه العمارة مرقمة حسب شقق العمارة، وكل قاطن يستفيد من مكان لركن سيارته، فلا جارا يستولي على مكان آخر، ولا عراكا ينشب في الحي حول "الباركينغ". وجدنا السهرة الفنية قد بدأت، ومقعدينا أنا والمرشد شلمون في آخر القاعة، فيما صديقي عصام في الوسط، لكن الرؤية جيدة على كل حال. القاعة غاصة عن آخرها بالمتفرجين، أغلبهم تجاوز الأربعين من عمره، وأكثر. رجال وسيدات، والمغنية نتاع قاييم تغني أغان مغربية قديمة لزهرة الفاسية، تلك المغنية المغربية اليهودية التي ولدت بصفرو سنة 1905، ثم رحلت إلى إسرائيل، وانتقلت إلى دار البقاء سنة 1994 فيما ما تزال أغانيها في قلوب المغاربة، المسلمون منهم واليهود. غنت نتاع قايم "أ لالة ماما، إذا عصينا حنا لله تايبين الزين الزين ما نفوتو واخا ونموت بالحديد. وتكون السنسلة عليا ويكون رسامها جديد ويكون رسامها جديد دڭ الخلالة خراص كبار ونبالة وميات ريالة باش نكافي حسان ماما" كان التفاعل كبيرا، حتى إن المغنية عندما أنهت وقف لها جميع الحاضرين الذين تأثروا بأغانيها المغربية القديمة. كنت وقتها أفكر في هذه الأغنية القديمة التي سجلتها الزهرة الفاسية أول مرة، ولا يُعرف من نظم شعرها ولا في أي سنة، أكان هذا الشاعر المجهول الذي نظم كلمات الأغنية يقصد حبيبة اسمها "ماما"؟ ما دامت الإناث يحملن هذا الاسم في مناطق عديدة من المغرب؟ وإلى حد الساعة في الجنوب الشرقي ما تزال مداشر كثيرة تسمي "ماما" اسم الدلع لاسم فاطمة. غنت نيتاع قايم أغنيات عديدة كلها من ريبيرتوار الراحلة الزهرة الفاسية، وقد أسر لي مرشدنا بأن شخصيات ثقافية يهودية تسعى إلى إقامة مهرجان كبير باسمها في صفرو، مكان ولادة هذه المطربة اليهودية التي أمتعت أجيالا من المغاربة. أزيد من ساعتين من الأغاني المغربية القديمة، وجمهور كبير من يهود المغرب غصت بهم قاعة كبيرة، تنقلهم نتاع بصوتها الجميل وأدائها ورقصاتها ليتذكروا سنوات بعيدة في ملاحات مغربية كبيرة، لا سيما الذين ولدوا في المغرب، وبعضهم انتقلت إليه هذه الذكريات عن طريق الحكي وحنين الوالدين إلى المغرب. فالأشخاص يرثون الطباع والأذواق والأمنيات والخيبات والحنين للملاح والدوار ومعقل الأجداد.