الحلقة الرابعة كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساءً عندما بلغنا مدينة عكا. مدينة ذات تاريخ عريق ككل المدن الفلسطينية القديمة، تقع على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ولا تبعد كثيرا عن رأس الناقورة ونهاريا حيث كنّا زوالا، ويحدها من الجنوب جبل الكرمل. يسميها المسلمون عكا، أي الرمل الحار، ويسميها اليهود عكو، أي "إلى هنا". عكا من المدن التي فشل نابليون في احتلالها وإن تعاقب عليها غزاة كثر، آخرهم إسرائيل التي احتلتها سنة 1948 في معركة بن عمي. توقف الباص قبالة قلعة الصليبيين، وجدنا رجلين في استقبالنا، كانا يتحدثان الدارجة، أحدهما من الصويرة اسمه ألبيرت مسؤول عن مجمل النشاط التجاري والاقتصادي ببلدية عكا، وآخر اسمه يهودا، وهو أستاذ جامعي من مواليد الدارالبيضاء. هكذا قدمتهما لنا إيڤيلين، وهي تعانقهما بحرارة. علّقت وهي تشير لنا إلى ألبرت، هذا هو الرجل الذي قلت لكم إنه يملك مفاتيح خزائن المدينة وأموالها. رأيت فرحا حقيقيا في وجوههما، وهم يستمعون إلى حديثنا بالدارجة، ويبذلون جهدا في الحديث بالدارجة أيضا. كانت بداية التعرف على المدينة من القلعة الهوسبيتلرية. تتيح هذه القلعة لمرتاديها زيارة مختلف مرافقها، والتعرف على المكان بست لغات حسب الاختيار، العبرية، العربية، الإنجليزية، الألمانية، الفرنسية، الإسبانية، الإيطالية، أو الروسية. وكان من الممكن أن يرافقنا مرشد حفظ عن ظهر قلب ما سيقوله بلغة ما، أو فقط نضع سماعات مثلما هو معتمد في الكثير من المزارات والمتاحف بإسرائيل، لكن ما دمنا مغاربة، فإننا سنحظى بزيارة استثنائية، ومرافقة ألبيرت، مدير هذا المكان الخازن على هذه المدينة والعارف بأسرارها الاقتصادية، ومرافقة يهودا بن سيمون ابن الدارالبيضاء الأستاذ الجامعي الذي يحاضر في الجامعات الإسرائيلية منذ 27 سنة المتخرج في إحدى الجامعات البريطانية. مرافق القلعة كثيرة، والمعلومات التي يجود بها علينا الخبيران كثيرة جدا، لا سيما وأن القلعة بها ستة طوابق تحت أرضية ومازال البحث جاريا لاكتشاف المزيد من أسرار المكان. معلومات القلعة يمكن الحصول عليها عن طريق الإنترنيت بالنسبة للمهتمين، فالأهم هو تلك الدردشات التي تجمعنا بهذا الشخص أو ذاك. يتحدث يهودا عن ذكرياته بأمريكا التي اشتغل فيها قبل أن يذهب إلى إنجلترا لمتابعة دراسته في سلك الدكتوراه ثم يعود إلى إسرائيل كمحاضر في جامعاتها. "كنت أقطن في الطابق 23 في إحدى العمارات بمدينة نيويورك، وكان مكتب السياحة المغربي في الطابق 27، وكان مندوب السياحة المغربي يقطن في الطابق السابع والعشرين في العمارة نفسها بأمريكا، وكثيرا ما التقيت به رفقة شخص آخر في المصعد، كانا يتحدثان بالدارجة المغربية، وكنت أنا أفهم ماذا يقولان، لكنه لم يسبق لي أن دخلت معهما في أي نقاش مدة ستة أشهر. كان ذلك أواخر السبعينيات من القرن الماضي. ذات يوم جمعتني بهما الصدفة مرة أخرى كل واحد منا في صعوده نحو شقته في أعلى العمارة الشاهقة، أحدهما يحكي للآخر نكتة بالدارجة المغربية، ولما أنهاها ضحكت كثيرا، لا أتذكر تلك النكتة الآن فقد مر على ذلك أربعون سنة، لكنني أذكر أنها أعجبتني، وضحكت من قلبي كثيرا. فاستغربا من ذلك، وسألاني عما يضحكني، لا سيما وأنه لا يوجد بالمصعد غيرنا. أخبرتهما أن النكتة كانت مضحكة جدا، فاستغربا من كوني أفهم الدارجة كل هذه المدة ولم أتحدث معهما بها. لم يعرفا بأنني أيضا مغربي، ولدت في الدارالبيضاء في الملاح، وأذكر أنني ضعت يوما في دروب المدينة وعمري ست سنوات، وخرج براح ينادي في الناس من رأى طفلا ضائعا يرتدي ملابس كذا وكذا، لم يعرفا بأنني وإن رحلت إلى إسرائيل فأنا أحتفظ بمغربيتي، لغتي، ذكرياتي. شرحت لهما بعد ذلك بكل مودة بأنني يهودي مغربي من الدارالبيضاء. فتوطدت علاقتنا بسبب تلك النكتة المضحكة التي سمعتها في المصعد. وقتها كان الحسن الثاني يرغب في إجراء تعديل دستوري حول المسألة المتعلقة بسن ولي العهد، وتغييره من 21 سنة إلى 18، سنة وهو عمر محمد السادس في ذلك الوقت. حتى يتسنى للملك الحالي محمد السادس أن يكون ولي العهد في ذلك الوقت، وكي يحكم البلاد إذا ما وقع أي مكروه لا قدر الله. فطلبوا مني إن كنت أعرف أشخاصا من أصل مغربي يعيشون هنا ليصوتوا لدستور بلادهم هنا في القنصلية المغربية بأمريكا. بذلت جهدا كبيرا في التواصل مع أكبر عدد ممكن من المغاربة اليهود القاطنين بالتراب الأمريكي، وكانت النتيجة 10 آلاف شخص! وهو رقم صعب التصديق نهاية السّبعينيات، لكنه حقيقي. تساءل وزير الداخلية وقتها عن صحة هذا العدد، فهم لا يعرفون سوى الأشخاص الذين أعلنوا عن تواجدهم لدى المصالح القنصلية المغربية، وأنا تواصلت مع كل يهودي من أصل مغربي. فقالوا له إن شخصا لديه علاقات مع يهود مغاربة يعيشون بأمريكا هو الذي تواصل مع هذا العدد. بعد أن تأكدوا أن تلك الأرقام صحيحة، قالوا لي شكرا لك على مساعدتنا، ولهذا نخبرك أنه وقتما تريد زيارة المغرب، فزيارتك على حسابنا. قد يكون صاحب الدعوة، ينتظر مني أن أقول له السنة المقبلة أو الشهر المقبل أو في موعد لاحق، لكن ما أن أتم جملته حتى قلت له بسرعة: "واش ممكن نجي الجمعة الجاية؟" "واش حنا كانضحكو معاك؟" رد عليّ أحدهم ضاحكا. فاتصلوا بالقنصل مباشرة ليقوم باستصدار جواز سفر مغربي لي وكافة الوثائق اللازمة. وجئت رفقة وفد كبير من يهود أمريكا، وكانت تلك أول مرة أزور فيها المغرب بعد أن غادرته قبل سنين طويلة. استمتعت بالأكل والموسيقى ولقاء الناس واسترجاع الذكريات الجميلة في الملاح وفي أماكن أخرى. أما الآن، فأنا أزور المغرب ست أو سبع مرات في السنة". بعد خروجنا من هذه القلعة الفريدة، قادنا مُرافقونا لزيارة مسجد الجَزار وسط مدينة عكا، خرجنا من باب القلعة الصليبية، وعرجنا يمينا، مررنا بمركز شرطة مغلق، وعبر مسافة ليست قصيرة ولجنا باحة بها محلات تجارية، وعلى اليسار مدخل مسجد الجزار الشهير الذي بني سنة 1782. أغلب الظن أن الدخول لا يكون بالمجان؛ إذ رأيت شخصا يحمل تذاكر بمدخل الجامع، إلا أن حديث ألبيرث معه بالعبرية لدقيقتين، سمح لنا بالدخول دون أن يُطلب منا أي شيء، ودون أن نعرف فحوى تلك المحادثة، ونحن كنا مستعدين لدفع ما يطلب منّا، وإن باليورو، فاليوم سبت ولم نجد مكانا لصرف نُقودنا إلى الشيڭل. رافقنا مرشد فلسطيني من سكان المدينة يدعى عيسى صبري داخل المسجد، ليقدم لنا شروحات حول تاريخ المسجد وسنة بنائه والأقوام التي تعاقبت على عكا. كان المسجد مفتوحا أمام الجميع، فقط يشترطون لباسا محتشما، وفيه عبارات توجيهية بالعربية والعبرية، وكان الزوار يتوافدون لتلقي شروحات عن تاريخه، وعدد من الشبان الذين فاتتهم صلاة العصر مع الجماعة يدخلون للصلاة فيه. يبدو أن يَهُودَا، هذا الرجل المرح، أحبنا كثيرا، فقد اقترح على مضيفتنا إيڤلين تغييرا في البرنامج، فبدل أن نذهب مباشرة إلى بيتها حيث تنتظرنا أسرتها لتناول وجبة الإفطار، خاصة وأن موعد صلاة المغرب يقترب، فقد طلب منها أن نزور مكانا آخر يعيش فيه ويشتغل فيه، ولو لنصف ساعة. ملامح التعب بادية على وجوهنا، فاليوم كان طويلا، لكن الحديث مع يهودا وألبرت وهما يتحدثان عن ذكرياتهما بالمغرب كان شيقا وهما يقوداننا إلى مؤسسة تعنى بالمراهقين في وضعية صعبة. كان المكان عبارة عن مأوى لكل الشباب الذين لا يملكون سكنا وعملا، أو لهم مشاكل مع آبائهم. فضاء واسع بحديقة كبيرة وقاعات للأكل وللقراءة والترفيه، مثل فندق من 5 نجوم. لم نجد داخله ولو مراهقا واحدا، أخبرنا يهودا بأن أغلبهم ذهب لقضاء يوم العيد (السبت) رفقة معارفهم وعائلاتهم، وما تبقى فهو خارج المأوى حاليا. بعد ذلك عشنا تجربة إفطار فريدة جدا، لقد جمعتنا مائدة واحدة مع يهود صائمين من عائلة إڤيلين، في بيتها بالطابق السابع بكريات آتا، نواحي حيفا. كنت أجلس بجانب الفلسطيني الذي كان يسوق بنا، وكان هو أيضا صائما، وإلى جانبي مغاربة مسلمون ويهود من أصل مغربي، بينما تجتهد زوجة إبن إڤيلين رفقة فتاة أخرى في ملء المائدة بمختلف الأطباق من حريرة وشباكية وسلطات وخبز مخصص للسبت عند اليهود، وأطباق كثيرة متنوعة. لم أسمع أذان المغرب، لكن السائق الفلسطيني بجانبي، وهو أعلم بمواقيت الصلاة في البلد، وما عليّ سوى تقليده. كانت لحظة مفعمة بالأحاسيس الجميلة، وإيڤلين تستضيفنا كمسلمين في بيتها وسط عائلتها، واشتركنا معا في إفطار رمضاني، حتى ودياناتنا تختلف. إيڤلين اليهودية تُقرب لي الحريرة كي أفطر وأنا المسلم الصائم، وأقرب خبز السباط الخاص بيوم السبت ليهودي متدين يجلس إلى جواري على المائدة نفسها، كنت أقوم بمعتقداتي، وكانوا هم يؤدون شعائرهم، أما من على حق ومن على صواب، فذلك من اختصاص الله، ولا يحق لنا أن نتدخل في شؤونه. كنت أرمق الحاضرين بنظراتي وهم غارقون في سرد ذكريات مضحكة عن المغرب تعود إلى عقود خلت. وقتها تذكرت قصة وقعت في الستينيات من القرن الماضي. فقد زعم الرواة أن يهوديا يُدعى مُوشِي وُلد وعاش في إحدى القُرى نواحي ورزازات، وعندما بدأت هجرة اليهود نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة، اختارت زوجته الذهاب بعدما فشلت في إقناعه، كما رحل كل أقاربه إلى "أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنا وعسلا"، كما جاء في التوراة. بقي هو رافضا أن يذهب رغم كل الإغراءَات. بقي موشي وحيدا وسط المسلمين في تلك القرية التي عاش فيها أجداده. مرت الأيام والشهور، ذات يوم اتفق بعض جيرانه أن يُدخلوه للإسلام، فاقترحوا عليه أن ينطق الشهادتين، ويعلن دخوله للإسلام، مقابل أن يُزوجوه مسلمة منهم، تهتم به، وتبدأ معه حياة جديدة في ظل الدين الجديد. طلب موشي من الذين جاؤوه بهذا الاقتراح العظيم أن يُمهلوه أسبوعا ليفكر في الأمر. فالأمر ليس بالسهولة التي يتصورون، تغيير دين إلى آخر لن يتم بسلاسة بين ليلة وضحاها، خاصة بالنسبة ليهودي متدين. فالأمر ليس بالسهولة التي يعلن بها مسيحيون مزيفون دخولهم للإسلام في مسجد ما، من أجل أن يتزوجوا في المغرب، أو كما يتنصر مسلم في سبيل أن يجد فرصة للهرب من هذه البلاد. عند انقضاء الأسبوع، ذهبوا إليه ليسمعوا جوابه، فقال لهم: "لقد فكرت في الأمر كثيرا، لا يمكنني أن أقضي سنواتي الطويلة في طاعة الله، ثم أعصى ربي اليوم لمجرد أن أتزوج من امرأة". وإذا كان جواب اليهودي قد صدم الكثيرين منهم، واستذر عليه سخريتهم، لإيمانهم الراسخ بأن دينهم هو الصحيح وبقية الأديان متهافتة ومزيفة، فإن ذلك الجواب في الوقت نفسه فتح أعين الكثيرين وجعلهم يفهمون لأول مرة أن ما تعتبرهُ أنت طاعةً لربك، قد يكون معصية كبيرة عند غيرك، وأن كل مؤمن يرى أن معتقداته هي الأقوم وهي سبيل الرشاد، لكن من يملك الحقيقة المطلقة؟ مُوشي أم الذين اقترحوا عليه دخول الاسلام؟ إيڤيلين التي تصوم السبت، أم أنا الذي أصوم شهر رمضان؟ من سيدخل النار ويدخل الجنة؟ تقدير ذلك عند الواحد القهار، فلنترك كل شخص وشأنه ونترك محاسبته لخالقه.