في طريقي عبر الحافلة نحو المكتبة الوطنية الإسرائيلية في كريات إيدمون بمكان تاريخي بالقدس، فكرت أن أتصل بأمي، وأخبرها في أي نقطة بالعالم أوجد الآن حتى تطمئن. لم أتصل بها منذ يومين بسبب السفر واختلاف التوقيت بين المغرب وإسرائيل (غرينيتش +3)، فالوقت المناسب لي لا يكون مناسبا لها. في آخر مرة اتصلت بها كانت الطائرة على وشك الإقلاع من مطار محمد الخامس بالدارالبيضاء في اتجاه باريس. قلت لها إني سأذهب خارج البلد، دون أن أقول إسرائيل. أتبعتُ ذلك كلاما كثيرا عن الطبيب وداء السكري، وسألتها إن كانت ستقيس نسبة السكر في دمها اليوم، وذكرتها بضرورة الحمية. خضت معها حديثا كثيرا حتى لا تسألني عن وجهتي، ثم ودعتها وأنا أقول لها إن الطائرة سوف تقلع قريبا. "أمي إذا لم أتصل بك بعد يومين أو ثلاثة فلا تقلقي، مسألة وقت وظروف فقط". ثم أغلقت الخط. أنا ذاهب إلى إسرائيل، ولو أخبرتها بذلك سوف تزيد نسبة السكر في دمها، وحتى لو قلت لها إني سأذهب إلى القدس الشريف لأخفف من وطأة الوجهة قليلا، وأربطها بما هو ديني كما يحب المغاربة، سوف تخشى عليّ من الحرب، فالقدس مرتبطة في أذهان الناس في بلدي بالقتلى والجرحى وأطفال الحجارة، هذا ما رسخه التلفزيون، لكنني لم أجد ذلك على أرض الواقع، إلا إذا كنت محظوظا وجئت في وقت عم فيه السلم! أتمنى ألا أكون جئت وقت الهدوء الذي يسبق العاصفة. لذلك تبقى بعض التقية مطلوبة في مثل هذه اللحظات، سيما مع الأشخاص الذين نحبهم، ويخافون علينا من قطرات المطر ولسعات البرد. في الحافلة اتصلت بها، وأخبرتها بأني في القدس الشريف. سألتني في خوف إن كنت في مأمن من الرصاص. طمأنتها بأني في مدينة السلام، حيث تتجاور المآذن والكنائس والمعابد، وأن الكل يعيش بجانب الكل في أمان هنا في القدس، على الأقل هنا، حيث أوجد الآن. والرصاص الوحيد موجود في قلم أدون به ملاحظاتي الآن. "لكني أرى في التلفاز كل يوم تبادل النار والقتلى والجرحى" تقول أمي، وقد شعرت بأنها تبكي خوفا علي. كانت الحافلة مجهزة ب"الويفي"، وبجانب كل مقعد مكان لشحن الهاتف، لذلك شغلت كاميرا هاتفي وأريتها شوارع المدينة حيث لا حرب ولا تبادل لإطلاق النار. "اُنظري، لا يوجد تبادل لإطلاق النار، ولا أطفال الحجارة ولا أي حرب، قد يكون ذلك في مكان آخر، لكن هنا، الدنيا هانئة والسماء صافية ولا ينقصنا سوى النظر في وجهك الكريم". كنت أريها عبر النافذة شوارع المدينة في الطريق نحو كريات إدموند وأنا أصف بنايات المدينة، حدائقها، قناطرها، بنياتها التحتية العظيمة، والناس بين الغدو والرواح في أمن وطمأنينة، وأقسم لها بأني في أمن تام. طوال المدة تركتها ترى المدينة بكاميرا هاتفي، وأنا أحكي لها عما شاهدته هنا، والحرارة المرتفعة، وظروف الصيام في هذه البقاع، وأؤكد لها كل مرة بأن المدينة آمنة جدا، وأن الحرب إن كانت يوما، فقد وضعت أوزارها على الأقل هنا. ولم أودعها حتى توقفت الحافلة قرب المكتبة الوطنية الإسرائيلية. بباب المكتبة كان الأستاذ أحمد في انتظار ضيوفه ليحدثهم عن تاريخ هذه المكتبة ومحتوياتها. وجدت الكثير من اليهود من أصل مغربي داخل المكتبة، فهم في موعد مع ورشة تعليمية في "العربية د اليهود"، مع أستاذ جامعي من مواليد مدينة فاس. لا أعرف إن كانت هذه الورشة تتكرر بشكل دوري، في هذه المكتبة، لكن الكثير من اليهود المغاربة حضروا، وجاؤوا للتعلم وقراءة الأمثال المغربية والقصائد القديمة التي كتبها أجدادهم في المغرب عن اليهود وأحوالهم. تكلفَ الأستاذ أحمد، الذي يتحدث لغة عربية فصيحة، بتعريفنا بمحتويات هذه المكتبة وتاريخها، إذ قال إن نشأة هذه المكتبة تعود إلى سنة 1892، وأنها تضم أزيد من 5 ملايين كتاب، و100 ألف مجلد بالعربية والفارسية والتركية حول الشرق الأوسط، و200 ألف مجلد حول الإسلام واللغة والأدب ودراسة الشرق الأوسط، و3 آلاف مخطوط بالحرف العربي، وبها 8 قاعات للقراءة. فيما تكلفت الدكتورة رحيل، أمينة القسم الإسلامي والشرق الأوسط بهذه المكتبة، بتعريفنا بالشق العربي والإسلامي في هذه المكتبة الكبيرة، سيما أن الدكتورة رحيل درست هي أيضا بمدينة فاس، وحصلت هناك على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية والمقارنة بين الأديان. إلى جانب المخطوطات العربية النادرة الأصلية، التي تتوفر عليها المكتبة، ومن بينها مخطوطات للقاضي عياض وغيره: "صدق الإخلاص في تفسير سورة الإخلاص"، "كتاب الشفاء"، لابن سينا، "ثلاث رسائل لابن تيمية"، "المشكاة والمصباح" لأبي حامد الغزالي...، تتوفر المكتبة على كل الإصدارات التي نشرت بإسرائيل، بسبب وجود قانون يحتم على كل شخص يصدر مؤلفا في 50 نسخة فما فوق أن يهدي هذه المكتبة نسختين من كتابه بشكل مجاني. وهو قانون تم تعميمه على الأشرطة المسموعة أيضا سنة 2000، رغم وجود قانون مشابه صدر سنة 1933 في فترة الانتداب البريطاني. هذا، إضافة وجود أرشيفات شخصية وموسيقية يهودية جاءت من شمال إفريقيا، ومئات الآلاف من الخرائط والبطاقات. وتتميز هذه المكتبة بوجود قاعة تدعى "مستشفى المكتبة"، وهي خاصة بصيانة كل مجلد أو كتاب تعرض لتلف أو ما شابه ذلك. بعد ذلك حضرت ورشة تعليمية ل"العربية د اليهود"، بالمكتبة نفسها، قام بتأطيرها الدكتور موشي كوهين. كان يتحدث الدارجة مع طلبته ذوي الأصول المغربية. هذا من فاس، وذاك من ميدلت، وتلك من مراكش أو الدارالبيضاء، وكل واحد يفتخر بكونه من هذه المدينة المغربية أو تلك. وفي كل مرة يعلق أحدهم بأن مدينته المغربية التي جاء منها هي الأهم وهي الأجمل. أراهم موشي كوهين، في البداية، مخطوطا قديما بالعبرية كتبه يهودي من أمزميز اسمه مخلوف أبطان، ثم مخطوطا آخر جلبه أحد يهود تينزولين، وفيه معلومات وأرقام عن مجمل النشاط اليهودي التجاري في فترة ما، من بيع وشراء، ومخطوطات يهودية من إمنتانوت، التي وصفها كوهين بأنها "قرية مهمة جدا بالنسبة إلى اليهود، ولا تزال بها مقبرة يهودية، وهي من المقابر التي استفادت من السور لحمايتها بأمر من الملك". كما تحدث كوهين عن مخطوط عبري بعنوان "تاريخ اليهود بالمغرب"، يوجد بهذه المكتبة أيضا، كتبه حاييم نعماني سنة 1925، مضيفا أن هذا اليهودي المغربي قام في عشرينيات القرن الماضي بتلخيص وترجمة كتاب بالفرنسية كتبه إسحاق دافيد عبو حول "اليهود المسلمون في الأندلس"، وهو في ثلاثة مجلدات، فقام حاييم نعماني بترجمته إلى "العربية د اليهود" في ثلاث سنوات، كي يتمكن اليهود من معرفة تاريخهم. وقال كوهين: "إننا في الدروس التي نقدمها هنا للمغاربة حول "العربية د اليهود"، نقرأ منه بعض الصفحات ونحدث الطلاب عنه، وتوجد حاليا ابنة هذا المترجم هنا في إسرائيل، غير بعيد عن مدينة أشدود". وأضاف "حتى العربية د اليهود تختلف من منطقة إلى أخرى، فهناك عربية يهودية خاصة بيهود الشمال المغربي، وعربية يهودية خاصة بالجنوب، وعربية يهودية خاصة بيهود فاس ومكناس وصفرو إلى غير ذلك". ثم تحدث كوهين عن الجرائد اليهودية في المنطقة، مؤكدا بأن عدد الجرائد اليهودية، التي صدرت في الجزائر أكثر من التي صدرت في المغرب، وأن أول جريدة صدرت ب"العربية د اليهود" كانت بطنجة سنة 1915 على يد شخص اسمه بن حيون. وأوضح أن هذه الجرائد كانت تنقل كل ما يهم اليهود وما يحدث لهم في العالم كله، إذ يقومون بقراءة مختلف الجرائد العالمية، وينقلون منها ما يهم يهود العالم في أوروبا وأمريكا وغيرهما. وأشار إلى أن أول جريدة كان اسمها "الحرية"، وأن جريدة أخرى صدرت بين 1922 و1924 على يد الإخوان حديدة، الذين كانوا يملكون مطبعة في الدارالبيضاء، حيث أصدروا جريدة يتم الاطلاع عليها أثناء الصلوات اليهودية بهدف نشر الأخبار والحوادث التي تهم اليهود بالمغرب والعالم. خلال تلك الورشة التعليمية، التي تأكدت بعدها بأنها تتكرر بشكل دوري، مادام المدرس يعرف أسماء طلبته والمناطق التي جاؤوا منها، تم توزيع قصيدة مغربية كتبها شاعر يهودي بعنوان "القمّارة"، كتبت بحرف عبري، لكن بالدارجة المغربية. بدأ الطلاب يتناوبون على قراءة مقاطع منها، فيما كان موشي كوهين يشرح لهم المقصود من كل بيت شعري، موضحا أن القصيدة جاءت لحث الناس على العمل والكسب بدل مزاولة القمار. كما شرح لهم معنى "الصوطة" و"الراي" و"الكابال"، التي جاء ذكرها في هذه القصيدة اليهودية الشهيرة عند يهود المغرب، فقاطعته يهودية من فاس تبدو في الخامسة والأربعين: "اللّي يعرف يلعب الروندا، يعرف شنو هو الراي وشنو هي الصوطة وشنو هو اللاص"...