ولهاته "الفلسطين" القدرة المرة بعد الأخرى على تذكيرنا بألا شيء تم، وأن هناك شعبا بأكمله موضوعا على رف العنصرية والاحتقار ينتظر انتهاءنا من كل شيء لكي ننتبه إليه. علي الدوابشة. للصغير أشهر إثنا عشر فقط، ولوجهه المضيء وجه أي صغير من عائلاتنا جميعا، ولموته حيا وهو يحترق القدرة على صفع أي إنسان فينا بالسؤال الكبير: أحقا أنت إنسان؟ في السابق من الوقت كانت جريمة مثل جريمة قتل الصغير علي محروقا ستخلق على الأقل بعض المظاهرات، بعض الظواهر الصوتية، بعض الصراخ للتنفيس عن الغيظ، سترفع شارة هنا ولافتة هناك وقد تسير مسيرة إلى مكان ما قبل أن تتفرق ويذهب الكل إلى حال سبيله.. اليوم لم يعد هذا الأمر ممكنا بسبب ما وقع لفلسطين بيد أبناء فلسطين، ثم بيد المتاجرين بقضية فلسطين. الأبناء قسموها فيما بينهم إلى قسمين: واحد يصفونه ظلما وعدوانا بالإسلامي ويقولون إنه سيكون بداية انطلاق (الجهاد لتحرير القدس ورمي اليهود في البحر ثم تخليص العالم منهم جميع ودنما استثناء) إلى آخر الخرافات العنصرية والمتخلفة والمخجلة التي يرددها المتطرفون ويتبعهم في قولها القطيع دون فهمها. ثم قسم ثان فيه بقية منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت يوما ولم تعد، والتي أصبحت مجرد أطلال يتراءى منها ظل الختيار أبي عمار الذي لن نعرف أبدا كيف مات، ثم البقية أبو جهاد وأبونضال وأبو أياد وبقية الآباء الذين أقنعونا ونحن صغار أن تحرير فلسطين لن يتم إلا عبر الصراخ باسمهم في كل الساحات، قبل أن نستيقظ ونفهم أن الحكاية ليست مثلما تظهر على شاشة التلفزيون، وأنها في جانبها المظلم والداكن المختفي في الظلال أكثر إثارة وأكثر تأثيرا بالفعل ثم هناك يد المتاجرين بالقضية، أولئك الذين حولوها إلى رسمهم التجاري الذي يخرجهم إلى قبالة البرلمانات أو إلى الشوارع لكي يقطعونها وهم يحملون قارورة المياه المعدنية، ويضعون الكوفية الأنيقة فوق الكتفين، ويحرصون على وضع قبعة الرأس خوفا من ضربة الشمس، وبعد الانتهاء يدلفون إلى أقرب مطعم لكي يأكلوا سمكهم، ويشربون معه "أبريتيف" النضال لذلك ضاعت فلسطين، ولذلك مات علي الدوابشة محروقا دون أن ترتعد فينا الفرائص الداخلية أن رضيعا صغيرا يموت بهاته الطريقة لعلنا قلنا في قرارة أنفسنا إنه قدر الفلسطيني وكفى أن يموت بكل الأشكال، حتى أكثرها رعبا، وأن نجد الأمر عاديا في الختام رحم الله تلك الأرض من أبنائها ومن أعدائها ومن المتاجرين بها، الذين حولوها حقا إلى ملحوظة لا علاقة لها بماسبق ملحوظة لها بعض العلاقة بما سبق أقصي منتخبنا الأولمبي من كأس إفريقيا ومن الأولمبياد، والأمر أضحى عاديا بالنسبة لنا. ثم اشتبك صغارنا مع شرطة تونس في عراك جديد، والأمر أيضا أصبح عاديا لنا كرتنا لم تعد قادرة على تقديم مايشكر لا كرويا ولا حتى أخلاقيا، وهذا هو أسوأ ما في الموضوع ككل