تحل هذه الأيام الذكرى العاشرة لوفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ورغم الآراء المختلفة والمتضاربة حوله وحول مواقفه، إخفاقاته ونجاحاته السياسية، إلا أنه يظل رقما صعبا و رمزا بارزا في مسار وتاريخ القضية الفلسطينية كما يصفه الكاتب الصحافي البريطاني المخضرم «روبيت فيسك»، فقد استطاع أبو عمار، كما كان لقبه الحركي داخل منظمة «فتح»، أن يخلق صورة أخرى مغايرة للزعيم الرئيس، جعلته محل جدل حتى بعد مرور عشر سنوات على رحليه. عرفات محمد ياسر عبد الرؤوف القدوة الحسيني، عرفات هو اسم الجد، والقدوة هو اسم عائلته، والحسيني هو اسم عشيرته، و«الختيار» لقب في لهجة أهل فلسطين لمن تفشل الكلمات في التعبير عن مدى احترامهم له. وهو طفل يلهو في شوارع وأزقة القاهرة المصرية، اختطفته القضية باكرا، ليجد نفسه في الكهوف والمغارات، أحيانا للفرار من طائرات أو رصاص عملاء جهاز الاستخبارات الإسرائيلي «الموساد»، وأحيانا للتخطيط لهجمات الثوار الفلسطينيين الذين كان يتزعمهم. أعداؤه كثيرون كما أن أصدقاءه أكثر، وفقد منهم الكثيرون بسبب موت طبيعي في المنفى أو اغتيال برصاص الاحتلال الإسرائيلي. سطع نجمه في الجامعة في القاهرة باعتباره طالب هندسة، شاب نشيط ومتفان في خدمة الطلاب، أمر ساهم في جعله قائدا لشرارة المقاومة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي. ليكتب له تاريخ القضية الفلسطينية إطلاق الشرارة الأولى للثوار، عندما أشرف على عملية «نفق عيلبون» كأول عملية لحركة المقاومة «فتح»، لتبدأ معاركه المفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي، والتي لم تنته إلا فوق أحد أسرة المستشفى العسكري الباردة في باريس. طفولة صعبة ومسار حياة أصعب في 24 من شهر شتنبر من سنة 1929 ولد ياسر عرفات باسم محمد ياسر عبد الرؤوف القدوة الحسيني في القدسالمحتلة، وهناك من يقول إنه رأى النور في القاهرة حيث هاجر والده، ورغم التضارب حول مكان ولادته، إلا أن الثابت أن والدته توفيت وهو في سن الرابعة، عاش مرحلة الطفولة متنقلا بين القاهرةوالقدسالمحتلة، بعدما أرسله والده بسبب صعوبات مالية إلى حي المغاربة في القدسالمحتلة. بدأ الوعي لديه بقضية شعب مهجر ومنفي رغما عنه مبكرا، في القاهرة كان يتردد على أحياء اليهود، كما تروي كاتبة سيرته الذاتية بالإنجليزية، وعندما يسأل عن السبب يقول: «أريد أن أتعرف عليهم أكثر». شكلت سنة 1946 أولى بدايات ياسر عرفات في مواجهة المحتل الإسرائيلي، شارك في تهريب الأسلحة من مصر إلى الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، قبل أن يعين ضابط استخبارات في جيش الجهاد المقدس الذي أنشئ حينها لقتال قوات الاحتلال الإسرائيلي. في مصر، سيلتحق بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة بكلية الهندسة، بزغ نجمه في أسوار الجامعة كشاب نشيط يعمل بلا كلل ويتفانى في خدمة الطلاب، وبعد سنة بالجامعة أسس رفقة طلاب فلسطينيين «رابطة الطلاب الفلسطينيين» وانتخب رئيسا لها، كما انتخب فيما بعد رئيسا لرابطة طلاب جامعة القاهرة. سنوات قليلة بعد ذلك، كان للشاب الفلسطيني المعروف بنضاله في الجامعة موعد مع التاريخ عندما شارك كضابط احتياط في الجيش المصري إبان العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956. سافر إلى الكويت ليعمل مهندسا وهناك سيؤسس سنة 1957 مع رفاقه الفلسطينيين «حركة التحرير الوطني الفلسطيني» المعروفة ب«فتح»، وكانت أول عملية عسكرية نفذتها الحركة في سنة 1964 أطلق عليها «عملية نفق عيلبون»، وشكلت بداية المقاومة المسلحة لحركة «فتح» ضد المحتل الإسرائيلي. أمر وسع من شعبيته وجعله يحظى بالاحترام في أوساط الزعماء العرب، وفي سنة 1968 اعترف به الرئيس المصري جمال عبد الناصر ممثلا للشعب الفلسطيني. في مارس من سنة 1968 نفذت إسرائيل عملية لاغتياله لكنه نجا منها، بعدما قاد قوات الثورة الفلسطينية ضد القوات الإسرائيلية في معركة الكرامة التي وقعت في الأردن. في سنة 1968 ستعينه حركة الفتح متحدثا رسميا لها، وفي السنة نفسها، تم تعيينه قائدا لقوات الحركة المسلحة، كما انتخب في السنة ذاتها في المجلس الوطني الفلسطيني الخامس رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وظل انتخابه للمنصب يتجدد كل دورة إلى أن أسلم الروح لبارئها. في سنة 1970 ستختاره المجلة الأمريكية «تام» رجل السنة، لكنه سرعان ما اضطر إلى مغادرة الأردن رفقة المجموعة التي كان يقودها بعد اشتباكات بين الجيش الأردني والمقاومة المسلحة الفلسطينية. تدخل العرب يومها، ونجحت بعض الوساطات العربية في أن تجد له مخرجا مشرفا قاده إلى العاصمة اللبنانية بيروت، لكن رصاص الاحتلال تعقبه حتى بيروت، حيث نجا مرة أخرى من محاولة اغتيال إسرائيلية، وفي سنة 1982 احتلت القوات الإسرائيلية العاصمة اللبنانية بيروت وفرضت حصارا لعشرة أيام انتهى بموافقة عرفات على مغادرة لبنان تحت حماية دولية إلى تونس، حيث المقر الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية. بين محاولات الاغتيال وضغوط واشنطن وهو في تونس، لم يأمن من محاولات إسرائيل اغتياله، إذ سرعان ما نفذت طائرات إسرائيلية هجوما بالطائرات على مقر قيادته في منطقة حمام الشط بتونس، نجا من الاغتيال بعد أن أعلم مبكرا بخطط الإسرائيليين لاغتياله. وهو في تونس، أصبحت تحركاته تؤرق إسرائيل وحليفتها واشنطن، حيث سرعان ما أعلن استقلال دولة فلسطين سنة 1988 خلال الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد بالجزائر، وفي نفس السنة رفضت واشنطن منحه تأشيرة دخول الأراضي الأمريكية ليلقي خطابا أمام الجمعية العامة، فاضطرت الجمعية العامة يومها إلى نقل اجتماعها إلى جنيف خصيصا كي يتمكن من إلقاء كلمته، وتغير موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية في شهر دجنبر من نفس السنة، عندما أعلن ياسر عرفات قبول القرار 242 ونبذ الإرهاب، مما دفع الرئيس الأمريكي آنذاك رونالد ريغان إلى فتح حوار مع المنظمة. رفض في سنة 2001 المقترحات الأمريكية التي قدمها الرئيس الأمريكي آنذاك كلينتون للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، بسبب تضمنها التنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتحويل القدس إلى مدينة مفتوحة فيها عاصمتان، واحدة لليهود والأخرى للفلسطينيين، وفي شهر دجنبر من نفس السنة فرضت إسرائيل حصارا على مقر ياسر عرفات في رام الله، وفي مارس من السنة الموالية، أعلن الرئيس الإسرائيلي آنذاك «آرييل شارون» أن ياسر عرفات عدو لإسرائيل وللعالم الحر، واعتبره عقبة أمام السلام في المنطقة، وأمام صموده اجتاحت القوات الإسرائيلية في مارس سنة 2002 رام الله واحتلت مقره الرئاسي وهددت بقصف رام الله والمقاطعة التي يوجد فيها مقره في حال لم يتم تسليمها من تتهمهم بقتل وزيرها في السياحة. رغم تواصل التصريحات والتهديدات الإسرائيلية، رفض ابو عمار الرضوخ، وبدل المهادنة اختار لغة التصعيد ضد إسرائيل وحلفائها، ففي لقاء له مع وزير الخارجية الأمريكية آنذاك «كولن باول» في سنة 2002، هدد عرفات أنه لن يسمح لقوات الاحتلال أن تعتقله أو تطرده في حال قررت اقتحام مقر الرئاسة وأنه بدلا من ذلك سيقاتل ليموت شهيدا في وطنه. وفي سنة 2003، ضغط الأمريكيون بشكل غير مسبوق على ياسر عرفات من أجل تقليص صلاحياته وتعيينه لمحمود عباس أبو مازن. لم يمهله الزمن طويلا في وقوفه ظل الغطرسة الإسرائيلية، فسنة بعد ذلك، أي في شهر أكتوبر من سنة 2004، نقل عرفات إلى مستشفى «بيرسي» العسكري في باريس بعد أن تدهورت صحته، وفي نونبر من نفس السنة، أسلم الروح إلى بارئها، لكن موته لم يعن نهاية صراعه مع إسرائيل، فاليوم وبعد مرور عشر سنوات على وفاته، تواجه إسرائيل اتهامات بتورطها في اغتياله بمادة البولونيوم المشعة. تقارير متناقضة حول وفاته مسموما سنوات بعد موته، كشف خبراء في الطب الشرعي من سويسرا أن الرئيس الفلسطيني قد يكون مات مسموما بمادة البولونيوم المشع، في الوقت الذي تشير فيه سجلاته الطبية في فرنسا إلى أنه مات جراء إصابته بجلطة نتجت عن اضطراب في الدم، وأشار تقرير الخبراء السويسريين إلى وجود «معدلات مرتفعة بصورة غير متوقعة» من مادة البولونيوم المشع، وهو ما يقوي نظرية موته المسموم. رفعت زوجته «سهى عرفات» دعوى ضد مجهول بتهمة القتل، وأمر القضاء بنبش جثة الزعيم الفلسطيني من أجل أخذ عينات لفحصها، حيث تم توزيع 60 عينة للتحليل على ثلاثة فرق من المحققين السويسريين والفرنسيين والروس، ليقوم كل فريق بعمله دون أن يكون أي تواصل بين فرق التحقيق ضمانا للنزاهة، لكن نتائج فرق التحقيق جاءت متناقضة. فالتقرير الذي أعده خبراء سويسريون طرح فرضية الموت بالبولونيوم، وذلك كان نفس رأي فريق اخبراء الفلسطينيين، فيما ذهب تقرير لخبراء فرنسيين وآخر أعده خبراء روس إلى أن عرفات مات بشكل طبيعي ولا وجود لأي مادة مسمومة. التقرير الذي أعده الخبراء السويسريون الذي نشرته كل من «الغارديان» البريطانية وقناة الجزيرة مبني على عينات محدودة، وهو ما جعل الشكوك حوله تتصاعد، وقد أشار معارضو نظرية موته مسموما إلى أن الفارق بين تاريخ الوفاة وإجراء الفحوصات ثماني سنوات، وهو وقت طويل يطرح مشاكل كثيرة في تأكيد وفاته بالسم. أثار التقرير السويسري ضجة بعد صدوره، حيث سارعت زوجته سهى عرفات إلى التصريح بأن الأمر يتعلق بجريمة اغتيال سياسية، مشيرة إلى أنه «ثبت علميا أنه لم يتوف طبيعيا.. ولدينا دليل علمي أن هذا الرجل قتل». بالنسبة لتقرير خبراء الروس، فقد نفي أي وجود للمادة المسمومة، وسرعان ما صرح مسؤول روسي أنه لم يتم العثور على أي أثر لمادة البولونيوم، مضيفا «لا يمكن أن يكون قد توفي مسموما بالبلونيوم». وعلى عكس الخبراء السويسريين، استبعد خبراء فرنسيون أن يكون عرفات قد مات مسموما بمادة البولونيوم المشع، وكشف خبراء القضاء الفرنسي أن ياسر عرفات يرجح أنه مات ميتة طبيعية، ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مصدر من المستشفى أن «هذا التقرير يستبعد فرضية التسميم ويصب في اتجاه فرضية الوفاة الطبيعية بسبب التقدم في السن والإصابة بالالتهاب، وبعد صدور تقرير الخبراء الفرنسيين، اعتبره الإسرائيليون أنه لم يشكل مفاجأة لأن إسرائيل لم تغتل الرئيس الفلسطيني، على حد تعبيرهم». بدورها كشفت اللجنة الطبية الفلسطينية التي أشرفت على التحقيق في وفاة الرئيس عرفات أنه مات مسموما، وأشارت إلى أن تحقيقها كشف عن وجود المادة السامة التي قتل بها، وأظهر تقرير اللجنة الطبية أن الأعراض التي أصابت عرفات قد تكون نتيجة تعرضه لعنصر البولونيوم أو لغيره من العناصر السامة. وانتقدت اللجنة التقرير الفرنسي الذي نفى أن يكون عرفات مات مسموما بمادة البولونيوم، حيث وصفت تقرير الخبراء الفرنسيين بالناقص وغير المتكامل، كاشفة أن المستشفى الفرنسي الذي عولج فيه عرفات رفض تزويد لجنة التحقيق بالمعلومات الكافية، نظرا لما أسماه التقرير «الظروف المحيطة». بدورها سارعت إسرائيل إلى نفي تهمة قتل الرئيس الفلسطيني بالسم، حيث اتهم المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية السلطة الفلسطينية بإنتاج مسلسل تلفزيوني، مشيرا إلى أن هناك ثغرات تعتري نتائج التقرير الذي أشرف عليه سويسريون، ومن بين الثغرات يضيف المسؤول الإسرائيلي هو عدم التمكن من الوصول إلى بيانات المستشفى الفرنسي، حيث توفي عرفات وحيث يوجد سجله الطبي، وكان التقرير الطبي الفرنسي قد أشار إلى أن عرفات أصيب بالتهاب بالأمعاء وتخثر «شديد» للدم، لكنه لم يوضح أسباب الوفاة. كان ياسر عرفات لم يبلغ سن الأربعين بعد عندما أطلق عليه لقب «الختيار»، وهي كلمة لا تعني فقط كبير السن، بل يعني بها أهل فلسطين في لسانهم الدارج «كبير القوم»، فالرجل كان له الكثير من الأصدقاء كما من الأعداء، من الإسرائيليين كما من العرب والفلسطينيين، كما يشير الكاتب الصحافي البريطاني المختص في شؤون الشرق الأوسط «روبيرت فيسك» إلى أن أكبر تحدي يواجه المحققين في حال ثبت موت عرفات مسموما هو العثور على من قتله، إذ أن للرجل أعداء من الجانبين من إسرائيل ومن فلسطين ومن العرب، مشيرا إلى أن أعداءه من العرب والفلسطينيين كثيرون أيضا، وتساءل الكاتب إن كانت إسرائيل لجأت إلى طلب مساعدة من الروس، الذين يقتلون عملاءهم بنفس الطريقة من أجل اغتيال عرفات بعدما فشلت مرات في قتله. اعتبر الكاتب البريطاني أن عرفات كان فقط رمزا وشبحا للقومية الفلسطينية، بعد أن تم القضاء عليه سياسيا عندما تم استدراجه للموافقة على «اتفاق أسلو».