بعد قرار جمهورية الإكوادور في أكتوبر الماضي، أعلنت جمهورية بنما أمس الخميس تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية. وأعلنت وزارة الخارجية البنمية أنها اتخذت هذا القرار وفقاً لمقتضيات القانون الدولي. ويأتي تعليق بنما لعلاقاتها مع جمهورية الوهم في أوج الدينامية الإيجابية التي تشهدها القضية الوطنية، مع تزايد الاعترافات الدولية المؤيدة للسيادة الوطنية على الصحراء، وإنهاء العديد من الدول علاقاتها مع الجبهة الانفصالية، وكذا استعداد الأقاليم الجنوبية لاستقبال تمثيليات دبلوماسية جديدة على غرار التمثيلية الدبلوماسية الفرنسية. وعلى الرغم من أن جمهورية بنما قد تبدو بلدا صغيرا جدا في أميركا الوسطى لكن قرارها هذا ينطوي على رسائل ودلالات مهمة، وقد تكون له تداعيات إقليمية وازنة. يمكن أولا أن نستخلص من هذا القرار أن عودة التيار المحافظ واليميني لمراكز القرار في العديد من دول أميركا الوسطى والجنوبية، كان له انعكاس إيجابي على نظرة هذه الدول إلى قضية الانفصال في الصحراء المغربية. فالرئيس البنمي المنتخب في شهر ماي الماضي خوسي راؤول مولينو كينتيرو، يمثل التيار المحافظ الذي استطاع العودة إلى السلطة بقوة في جمهورية بنما، بعد رحيل الرئيس السابق لورنتينو كورتيزو، الذي ينتمي إلى الحزب الثوري الديمقراطي. وبنما المعروفة بموقعها الاستراتيجي وقناتها البحرية الحيوية، تحتفظ اليوم بعلاقات أكثر متانة وانفتاحا على الولاياتالمتحدة الأميركية والدول الغربية. وينطبق هذا النمط السياسي نفسه على جمهورية الإكوادور التي قررت هي أيضا في شهر أكتوبر الماضي سحب اعترافها بالجمهورية الوهمية. وجاء ذلك بعد أشهر من صعود الرئيس اليميني الشاب دانييل نوبوا إلى سدّة الحكم. لقد عانى المغرب على مدار عقود طويلة من نتائج هيمنة التيارات الماركسية واليسارية على الأنظمة السياسية في أميركا اللاتينية، وحافظت جل هذه الأنظمة على الوهم الثوري، الذي دفعها في لحظة من اللحظات خلال الثمانينيات إلى الاعتراف بجمهورية مزعومة، بإيعاز من النظام الجزائري، وأحيانا مقابل رشوة اقتصادية غير معلنة. وما حدث بالأمس في بنما، هو مجرد تصحيح لوضع شاذ استمر فترة طويلة، ومن المرجح أن يكون له تأثير كبير على مواقف العديد من الجمهوريات الصغيرة المتناثرة في جزر أميركا الوسطى. ومن المؤكد أن الدور الذي لعبته الدبلوماسية المغربية في اختراق هذه المنطقة كان عملا ذكيا للغاية، لأنه طارد وهم الانفصال في بعض أوكاره التقليدية القليلة التي ما زالت تحتفظ بمواقف تعود إلى عقود خلت. في غشت الماضي على سبيل المثال أعلنت جمهورية الدومينيكان اعترافها بالسيادة المغربية على الصحراء، وقررت فتح قنصلية لها في الأقاليم الجنوبية. وجاء ذلك بعد قرار مماثل اتخذته جمهوريتا هايتي وسورينام اللتان افتتحتا فعلاً قنصليتين لهما بمدينة الداخلة. الاختراق الدبلوماسي الكبير الذي شهدته منطقة الكاريبي، لا ينفصل عن هذا القرار البنمي، ويثبت أن المقاربة الاستباقية والنهج المبادر في العمل الدبلوماسي هو الذي يؤتي أكله على صعيد الترافع عن القضية الوطنية، ومحاصرة الأطروحة الانفصالية. وفي هذا السياق يمكن أن يكون لبنما ورئيسها خوسي كينتيرو دور مهم للغاية في التأثير على موقف جمهورية نيكاراغوا المحاذية، والتي تعدّ أحد المعاقل الماركسية التي ما زالت تؤيد التوجه الانفصالي، بالنظر إلى تاريخ رئيسها الثوري في الحركة الوطنية الساندينية. لقد أكدت وزارة الخارجية البنمية في بلاغها أن "جمهورية بنما، التي تعطي الأولوية للمصلحة الوطنية وتظل وفية للمبادئ الأساسية لسياستها الخارجية، تجدد تأكيد قناعتها بالأهداف والقيم التي توجه العمل متعدد الأطراف، وتجدد إرادتها مواصلة دعم جهود الأمين العام والمجتمع الدولي، في إطار الأممالمتحدة، من أجل التوصل إلى حل سلمي وعادل ودائم ومقبول لدى الأطراف المعنية بقضية الصحراء". ومن خلال هذا التأكيد تدقّ بنما مسمارا جديدا في نعش الأطروحة الانفصالية بأميركا الجنوبية، وتؤكد في الوقت نفسه أحد مداخل تعميق هذا الاختراق الدبلوماسي في هذه المنطقة من العالم، التي لطالما شكلت مصدر انزعاج لبلادنا، وظلت عصيّة على التطويع حتّى عندما حقق الوزير الأول والقيادي الاتحادي الراحل عبد الرحمان اليوسفي الذي قاد حكومة التناوب اكتساحا دبلوماسيا مؤثرا لدول أميركا الجنوبية. وهذا المدخل الذي يجب التركيز عليه هو وضع بعض الجمهوريات التي ما تزال تؤيد وهم الانفصال أمام مسؤولياتها المرتبطة بالاختيار بين مصالحها الوطنية واستمرارها في المراهنة على السراب الانفصالي. وفي هذا السياق يمكن أن تؤدي الدول الحليفة والصديقة للمغرب دورا غاية في الأهمية أيضاً.