دأب العديد من السياسيين في المدة الأخيرةعلى كتابة مذكراتهم اتخذت في غالب الأحيان شكل حوارات. ويبدو أن صياغة تلك المذكرات في شكل حوارات صحفية أملته رغبة أصحابهافي توسيع دائرة المطلعين عليها. الملاحظة الأساسية بالنسبة لهذه المذكرات أنها جاءت متأخرة سيكون المعنيون بها قلة من النخبة السياسية القديمة التي عاشت الأحداث السياسية نهاية سنوات الخمسينات وطيلة الستينات وهي بذلك قد تبدو عبارة عن حوار بين الفاعلين السياسيين في تلك المرحلة وقد لاتعني شيئا بالنسبة للأجيال الجديدة التي لم تعد لها أي ارتباطات بتلك المرحلة وذلك ما يعكسه بشكل واضح الضعف الذي تعاني منه التنظيمات الشبيبية التابعة للأحزاب السياسية. قد تكون تلك المذكرات مفيدة بالنسبة للمواطنين لمزيد من الكشف عن ملابسات التطورات السياسية التي عاشها المغرب منذ بداية الحركة السياسية الحديثة والتي ارتبط ظهورها بمناهضة الوجود الاستعماري. في بداية السبعينات كانت هناك مقولة رائجة تدعى أن فهم الحاضر وتغييره لن يأتي إلا إذا استوعبا ما وقع في الماضي وأفضت هذه المقولة إلى أن الذين كانوا على إطلاع بنا جرى في ذلك الماضي ظلوا متحكمين في رقابنا وأعطاهم ذلك الرصيد سلطة الاستمرار في قيادة النضال السياسي واحتلال مراكز القيادة فيه وكان ذلك من بين الأسباب التي أبطأت عملية تجديد النخب. هكذا استمرت تلك النخبة المحتكرة للماضي قرابة خمسين سنة بالنسبة للاتحاد الاشتراكي وأكثر من ذلك بالنسبة لحزب الاستقلال ونفس الشيء ينطبق على حزب التقدم والاشتراكية ونفس الظاهرة عرفتها الأحزاب المسماة آنذاك إدارية في حين كان الاستثناء هو حزب العدالة والتنمية الذي تشكلت قيادته من النخب الجديدة الشيء الذي جعلها أقرب إلى تطلعات الكتلة الناخبة. هل يمكننا أن نعتبر أن التطور السياسي الذي عرفه المغرب منذ أواسط التسعينات ودخوله في تجربة التناوب منذ سنة 1998 بالإضافة إلى تجاوز إشكالية المشروعية السياسية للنظام وانسياب المعلومات وتوافرها نتيجة التطور الإعلامي الهائل قد أدى إلى فقدان النخبة القديمة سلطة احتكار معرفة الماضي والتحكم في المسار السياسي نتيجة لذلك وهو ماجعلها تشرع في كتابة مذكراتها بعد أن كفت معرفتها بالماضي أن تشكل رأسمالا سياسيا مكنها في ماتدعيه من الحنكة والخبرة للاستمرار في تبوء القيادة السياسية رغم استمرار بعضها من حين لآخر في محاولة توجيه مسار الأحداث الجارية عن بعد والسعي إلى التأثير في تشكل القيادات السياسية الجديدة ومثال ذلك الدور السياسي الذي لعبه السيد محمد اليازغي من خلال دعمه لتيار الزايدي ورضا الشامي في المؤتمر التاسع للاتحاد الاشتراكي. أتذكر في بداية السبعينات حين كنا نطرح بعض الأسئلة على القيادة السياسية حول ما جرى نهاية الخمسينات أن الجواب كان باستمرار هو القول بأن الوقت لم يحن بعد لاستجلاء تلك الأحداث والوقائع كما كان يطلب منا قراءة مابين السطور لفهم مواقف الحزب التي كانت تعبر عنها افتتاحيات الجريدة لفهم التوجيهات في زمن كانت فيه الرقابة شديدة ولكن أيضا كانت لغة الإشارة السياسية حاضرة بقوة بين أطراف الصراع. إن هذا الاعتقاد بضرورية فهم ماجرى في الماضي للتمكن من رؤية صحيحة للحاضر يعتبر في عمقه تصورا سلفيا يعطي للماضي استمرارية قوية ويقلل من فعل الدينامية المجتمعية الجديدة والتي راكمت الإنسانية مناهج علمية ومعرفية لفهمها إن ذلك الاستمرار للماضي كان يراد به في حقيقة الأمر استمرار رموزه ذلك أن خمسين سنة التي مضت لا تعتبر في عرف التاريخ جزءا من الماضي بل إنها الحاضر عينه وهو يتحرك في ثنايا المجتمع وفي كافة دوائره ولذلك فإن الجيل الثالث والرابع قد تم إخضاعه وتحكمت فيه بشكل كبير هذه المغالطة الكبرى وقد ترتب على ذلك كما أشرنا تأخر عملية تجديد النخب. إن هذا الذي قلناه قد يطرح عند البعض التساؤل التالي: ما أهمية ما يكتب الآن من طرف النخبة القديمة؟ وما فائدة هذه «الحقائق السياسية» الجديدة إذا كانت قد جاءت متأخرة؟ وهل سيكون علينا أن نوقف الزمن حتى نتعرف جميعا عن أغلب معطيات تلك المرحلة وهو مايعني السقوط من جديد في حبائل مقولة ضرورة فهم ماجرى في الماضي ولنقل تلك المرحلة التي أرادوا أن يسمونها تعسفا بالماضي؟ إن الحقائق التاريخية غير القابلة للتزييف هي تلك الحقائق التي أفرزها الصراع الذي دار في المجتمع منذ نهاية الخمسينات بين القوى التي ارتبطت بالتوجهات الاستعمارية الجديدة والقوى الحديثة في المجتمع والتي تحمل مشروعا فكريا وسياسيا مغايرا ومشدودا إلى المستقبل والذي استبطن كل التيارات التي عرفها القرن العشرين من قومية وليبرالية واشتراكية هذا الصراع الذي تفجر منذ إقالة حكومة عبد الله إبراهيم وأيضا منذ أن انتزع فيها المخزن مبادرة وضع الدستور من المجلس الاستشاري الذي كان يرأسه آنذاك الشهيد المهدي بن بركة. لا يمكن إنكار أن جذور هذا الصراع كانت كامنة في مرحلة النضال ضد الاستعمار كما لا يمكن تغييب كون الفاعلين امتلكوا تصوراتهم المختلفة لمستقبل المغرب مابعد الاستقلال كل حسب مصالحه وارتباطاته وموقعه. إن هذا السياق الذي يحدد «الحقائق الجديدة» التي ترد في مذكرات الساسة من هذا الجانب أو ذلك هل نعتبر تاريخا كل مايقره الفاعلون من مواقع المسؤولية في المؤسسات المدنية والدولة وأيضا مايمحصه المختصون أصحاب الدراية والمعرفة بالكتابة التاريخية أم نضيف إليه ما تحصل في الذاكرة الجمعية من تصورات وتأويلات لتلك الأحداث والوقائع لتلك المرحلة التي ابتدأت منذ 1912 تاريخ إعلان الحماية؟ وهل نستطيع أن نستغني عن القراءة الإيديولوجية التي تستر المصالح وتستبعد الأنا انحيازا للموضوعية التي تستند إلى قدر كبير من العقلانية إن ذلك أمر صعب يرتبط بشكل كبير بفهم للتاريخ يجعله في خدمة المستقبل وذلك أمرا ليس ناجزا على مستوى الثقافة السائدة الآن. إن مايؤكد ذلك هو هذا التشنج الحاصل إزاء المذكرات الأخيرة للسيد أحرضان وعوض أن نتعامل معها باعتبارها تعبر بشكل كبير عن الدور الذي لعبه الرجل إلى جانب المخزن في مواجهة القوى الجديدة نرى البعض يعمل على تسفيهها في حين أنها بلغة عقلانية ومنطقية ترسم ملامح فاعل سياسي استعمله المخزن لتقليص نفوذ القوى الحديثة في البوادي وجعلها محصورة في المدن وذلك ماأوضحه ريمي لوفو في كتابه «الفلاح المدافع عن العرش» وسيترتب على ذلك أن نتقبل توسيع مفهوم الحركة الوطنية ليشمل أطرافا أخرى بغض النظر عن مواقفها اللاحقة، لذلك نعتبر كما أكدنا على ذلك أن «الحقائق الجديدة» التي تتضمنها مثل هذه المذكرات لايستقيم فهمها بدون استحضار سياقاتها السياسية والاجتماعية. في حوار أجرته معه جريدة «أخبار اليوم» قال السيد البروسكي الذي قام بمساعدة صاحب المذكرات أحرضان على مستوى اللغة والسياسة والتاريخ بأن الأجزاء التالية من المذكرات تبين ذلك الانسجام بين السيد أحرضان والسيد عبد الرحمان اليوسفي. الواضح أن السيد البروسكي الذي تحمل في السابق حسب ماقاله في حواراته السنة الماضية على صفحات جريدة المساء مستشارا للمرحوم إدريس البصري يخشى أن يتحدث الأحياء أما الأموات فيمكن أن نقول عنهم مانشاء لكونهم لايملكون وسائل للدفاع وذلك هو الخطأ. حين كتب الحسن الثاني مذكرات ملك بداية التسعينات كان الهدف في نظري التأسيس لقراءة جديدة لما جرى وقد شكلت منعطفا في التحولات السياسية اللاحقة إن السؤال الذي يطرح بإلحاح، هل من خلال تلك المذكرات تحصل وعي سياسي جديد بعد سقوط جدار برلين وتململ المعارضة من خلال إضراب 1990 وملتمس الرقابة وكذلك تجديد الكتلة الديمقراطية، هل كان هناك وعي بضرورة قراءة سياسية جديدة تقوم بها الدولة من خلال الملك سوف تؤسس لاحقا لما اصطلح عليه بالتوافق؟. المؤكد هو أن النجاح النسبي للتوافق السياسي الذي سوف يعرفه المغرب خلال التسعينات كان لابد أن يمر عبر توافق حول تفسير ماجرى في المراحل السابقة. وذلك يؤكد أيضا الدرجة الكبيرة التي تتحكم فيها السياسة في التاريخ وهو مايلزم أن تتحرر منه.