بعد صمت طويل دام عقودا يطلق المحجوبي أحرضان العنان لقلمه لكي يكتب جزءا من التاريخ السياسي المعاصر للمغرب. فقد أصدر قبل أيام الجزء الأول من مذكراته باللغة الفرنسية تحت عنوان»مذكرات»، والذي يغطي المرحلة ما بين 1942 و1961، متعهدا بإصدار جزئين آخرين يشملان المراحل اللاحقة. هذا الجزء من المذكرات يرحل بنا عبر مجموعة من المحطات: المرحلة الاستعمارية وتشكيل خلايا المقاومة، الصراعات السياسية وهيمنة حزب الاستقلال، مؤتمر إيكس ليبان وجيش التحرير. وخلال هذه المراحل يلقي أحرضان الضوء على بعض جوانب العتمة في هذا التاريخ الذي كتب بطرق مختلفة ومن زوايا متعددة، ويتوقف عند بعض الشخصيات التي أثرت في هذا التاريخ لكي يقدم صورة عنها من زاوية المعايشة القريبة، وأحيانا لكي يقدم صورة مغايرة لما اعتاد الناس أن يقرأوه أو يسمعوا به. عندما وصف عبد الكريم الخطيب، رفيق درب أحرضان في المقاومة وفي السياسة بعد ذلك، المحجوبي أحرضان ب»الزايغ»، كان يعني أن الرجل يتميز بالصراحة العارية. وهذه هي الصفة التي تغلبت عليه وهو يسجل هذه المذكرات التي يبدو أنه أرادها شهادة عن مرحلة، وفي الوقت نفسه تعبيرا عن موقف سياسي من المرحلة نفسها. ومرة أخرى، تؤكد لنا هذه المذكرات أن تاريخ المغرب كتبه السياسيون لا المؤرخون، وأن السياسيين هم الذين لا يزالون يتكلمون عنه وقد أصبحوا هم المؤرخين، لذلك يتداخل معنى التاريخ ومعنى الشهادة. مذكرات أحرضان تحمل مفاجآت للقارئ الذي تعود على الرواية الوحيدة، وربما تزعج الكثيرين ممن رسموا في رؤوسهم صورة ذهبية للتاريخ السياسي للمغرب و«الحركة الوطنية»، وتسيء إلى أولئك الذين صنعوا رموزا لا يريدون المساس بها. فبن بركة بالنسبة إليه خائن وقاتل ومجرد طامع في السلطة صفته الوحيدة التي التصقت به هي المكر، والفقيه البصري انتهازي وغادر، والمشاركون في إيكس ليبان خونة ومتآمرون على الملكية، وحزب الاستقلال كان يريد الإطاحة بالملكية. في هذا الملف نحاول تجميع شهادات أحرضان المتفرقة في الكتاب لكي نقدمها إلى القارئ على شكل محطات، مسلطين الضوء على كل ما جاء في هذا الجزء من المذكرات من مفاصل تتعلق بالمرحلة التي يشملها. نحن نعلم أن غالبية من وردت أسماؤهم في هذه المذكرات قد غيبها الموت، لكن هناك بعض الأشخاص الذين ما يزالون على قيد الحياة ممن تعنيهم رواية أحرضان، أمثال محمد بنسعيد آيت يدر، الذي يوجد على لائحة الاتهام في اغتيال المقاوم عباس المساعدي، خصوصا وأن آيت يدر نفسه كتب كتابين عن المقاومة دون أن يتطرق إلى التفاصيل المتعلقة بهذه العملية، ما يعني أن الاغتيال كان يتم الاعتراف به من لدن الجميع، لكن كان يتم التواطؤ على نسبته إلى»مجهول». فجل الذين عاشوا المرحلة وكتبوا عن جيش التحرير اكتفوا بالحديث عن التأسيس والبناء وأعمال المقاومة في الجبال والسهول، لكنهم كانوا يتعمدون السكوت عن المرحلة الأخيرة قبيل حله، خوفا من تحديد المسؤوليات في الاغتيالات وعمليات القتل التي حصلت. أحرضان يفجر الكثير من المفاجآت، صحيح أن الأحداث معروفة لأنها كتبت أكثر من مرة، لكن الزاوية التي يكتب منها أحرضان هي الأهم. فقد صرح بأنه أراد رواية الوقائع «كما هي»، ولعل روايته لهذه الوقائع ستثير الكثير من ردود الفعل، ما عدا فيما لو رغب الآخرون في عدم المواجهة. محمد الخامس يطرد الكلاوي من القصر والحماية تطرد أحرضان في شهر دجنبر 1950، بمناسبة عيد المولد النبوي، تقدم التهامي الكلاوي، باشا منطقة مراكش، للسلام على السلطان محمد الخامس وتقديم التهاني له بمناسبة العيد، وسط جموع الأعيان والشخصيات التي كانت حاضرة. لكن الكلاوي، أثناء الحديث، وجه تحذيرا إلى السلطان من»الوطنيين الأوغاد»، فاستشاط السلطان غضبا وقام بطرد الكلاوي من القصر»مثل شخص عديم القيمة». بالنسبة لمحمد الخامس كان تحذير الكلاوي بمثابة إنذار بوجود مخطط ما. وهكذا رفض في الوقت اللاحق توقيع الظهائر التي كان يقدمها له الجنرال جوان، المقيم العام، كإشارة منه إلى رفضه لكل مناورات الحماية الفرنسية. استغل الجنرال جوان والإقامة العامة هذا الحادث لتوظيفه ضد القصر، فبدأ في التحضير لإقامة تجمع للباشوات والقواد الذين يخضعون للتدريب على أيدي المراقبين المدنيين والضباط الفرنسيين. ويقول أحرضان إنه يوم 21 يناير 1951 توصل باستدعاء مكتوب بالعربية والفرنسية لحضور التجمع الذي عقد في مدينة خنيفرة. وفي خنيفرة وجد أجواء الاحتفالات قائمة، وجميع القياد يلبسون ثيابا بيضاء للمناسبة، وعلى ألسنة الجميع اسم واحد يتردد باعتباره الزعيم المقبل»التهامي الكلاوي». كان بين الحاضرين وزير الدفاع الفرنسي ماكس لوجون، الذي استضافه الجنرال جوان. وكان هذا الأخير يرمي إلى ضرب عصفورين بحجر واحد: إقناع الحكومة الفرنسية في شخص لوجون بالقرار الذي اتخذه، وتقديم الكلاوي أمام القواد المغاربة الحاضرين باعتباره زعيمهم المقبل. يتابع أحرضان: منذ ذلك الاجتماع توالت سلسلة من الضغوطات التي كانت تقوم بها الحماية الفرنسية، بهدف دفع الأوضاع نحو الفوضى. وبعد ثلاثة أيام من ذلك التجمع تلقى أحرضان الذي كان قائدا لمنطقة والماس وفي الوقت نفسه ضابطا في الجيش الفرنسي استدعاء لحضور اجتماع كان سيعقد بملحقة تيداس يحضره جميع قواد دائرة الخميسات، لكي يتم استنطاق كل واحد منهم على حدة من طرف رئيس الدائرة، بوجول، بحضور بعض المراقبين المدنيين. كان الهدف يقول أحرضان هو»الاستيلاء نهائيا على المغرب من خلال دفع المغاربة إلى أن يلعبوا هم أنفسهم أسوأ الأدوار، وهو خيانة عهد البيعة». بعد ذلك اللقاء استدعى المراقب المدني أحرضان لإقناعه بالتوقيع على رسالة محررة، لا شك أنها كانت تتضمن ما يفيد عزل السلطان وتولية الكلاوي. لكن أحرضان رفض التوقيع على الرسالة. بعد ذلك سيتم استدعاؤه من طرف رئيس الدائرة، بوجول، وفي محاولة لإقناعه قال هذا الأخير إن العملية ليس مقصودا بها القصر بل حزب الاستقلال، فرد أحرضان: Istiqlal signifie Indépendance. لأن الكلمتين تعني شيئا واحدا بالعربية والفرنسية. فطلب بوجول من أحرضان أن يأتيه يوم الغد برسالة موقعة بخطه يسجل فيها موقفه مكتوبا بشكل رسمي، بما يفيد أنه ضد الكلاوي. لكن أحرضان ذهب وقرر عدم الحضور في الموعد، ليكون الطلاق. وفي اليوم التالي للموعد المُخلف تلقى أحرضان رسالة تخبره بعدم التقدم أمام المراقب المدني وعدم مغادرة بيته إلى أن يتم أخذ قرار في مصيره. ويتابع أحرضان:»أثناء الاستقلال عرفت، من خلال الاطلاع على الوثائق المتعلقة بجهة الرباط، سبب طردي، وهو(المس بالأمن الداخلي للدولة)». أوفقير..الذي يمكن أن يعول عليه خلال الفترة القصيرة التي سبقت نفي السلطان محمد بن يوسف، حصلت اضطرابات وانتشرت الشائعات على نطاق واسع. كانت هناك شائعة تقول إن سلطات الحماية تريد عزل السلطان وتنصيب أحد أبنائه محله. وكانت قوافل القبائل تتجه ناحية الرباط لإعطاء طابع المصداقية للحدث. وفي هذا الوقت عقد لقاء بمراكش ترأسه التهامي الكلاوي لاختيار»إمام» جديد والمطالبة بعزل السلطان الشرعي، تقرر فيه اختيار بن عرفة. خلال ذلك توجه أحرضان إلى والماس»لتقصي الأخبار من منبعها». وفي اليوم التالي عاد إلى الرباط حيث وجد القصر الملكي مطوقا بالدبابات وعناصر من الجيش وهم يغلقون الأبواب الثلاثة للقصر. توجه من فوره إلى مكتب المحامي عبد الرحمان بادو، حيث وجد مصطفى بن زيدان الذي أخبره بأنه قادم لتوه من القصر وبأنه سيعود إليه فورا، عبر باب صغير هو باب»المصلى» الذي يؤدي إلى الساحة التي تقام بها صلاة العيد. دخل أحرضان رفقة بادو القصر حيث التقى السلطان الذي تبادل معهما بعض الكلمات ثم رجعا من حيث دخلا. ويقول أحرضان إن باب المصلى أغلق في اليوم نفسه، ليستنتج بأنه قد يكون آخر من رأى السلطان قبل نفيه. في تلك الليلة نفسها أخبر أحرضان رفاقه الضباط بضرورة اللقاء في بيت الكابيتان أوفقير، الذي كان مكلفا بالمراسيم في الإقامة العامة. ويقول أحرضان إن أوفقير»كان واحدا من القلائل الذين يمكن أن نعول عليهم». حضر اللقاء إلى جانب أحرضان وأوفقير كل من أوبجة ميمون، عبد القادر لوباريز، عبد الغني القباج، وحسن اليوسي، الذي مازال على قيد الحياة. ويروي أحرضان أن المجتمعين جرحوا أصابعهم ومزجوا دماءهم علامة على الوفاء. وتكلف أوفقير بإخبار المجموعة في اللحظة الأخيرة قبيل خطف السلطان من القصر، وتدبير مكان يدخلون منه إليه. فقد كانوا مستعدين لعملية انتحارية «على شرف المغرب». وبقيت المجموعة تنتظر الإشارة لكن الإشارة لم تأت. وقد أقسم لهم أوفقير بعد ذلك بأنه هو نفسه لم يعرف ما الذي حصل إلى أن نزلت الطائرة التي تقل السلطان والعائلة الملكية بجزيرة كورسيكا. المرة الثانية التي يظهر فيها أوفقير في مذكرات أحرضان هي هذه. في والماس كان أحرضان بقاعة الضباط، حيث كان هناك أوفقير والكابيتان بلبشير والملازم لحسن الغول. وفي لحظة معينة تناول مجلة واتخذ له مكانا قصيا إلى جانب زوجته، فاقترب منه أحد الفرنسيين المسؤولين وقال له»ليس لك الحق في أخذ هذه المجلة»، ثم أضاف»أنت لست واحدا منا»، فاقترب أوفقير من الكولونيل الفرنسي وشد بياقة قميصه ورفعه إلى الأعلى غاضبا وهو يقول له»لقد مل الضباط المغاربة من سخرياتكم»، ثم لطمه مع الطاولة التي كانت قريبة وقال متوجها نحو المغاربة الذين كانوا بعين المكان»لم يعد لنا ما نقوم به هنا طالما أن هذا الكولونيل المشاكس هو من يشرف عليه». أحرضان والمقاومة يتحدث أحرضان في مذكراته لأول مرة عن علاقته بالمقاومة المغربية بشكل مفصل. فبعد نفي السلطان محمد بن يوسف انخرط في المجلس الوطني للمقاومة عن طريق عبد الكريم الخطيب، الذي يروي بأنه تعرف عليه وعلى زوجته مفتاحة لأول مرة في بيت مصطفى بالعربي، في اللقاء نفسه الذي تعرف فيه على إدريس المحمدي، الذي سيصبح وزيرا للداخلية ومديرا لديوان محمد الخامس. وذات يوم طلب منه حميدو الوطني وعبد الحميد الزموري تمثيل المقاومة في اللقاء الفرنسي المغربي الذي سيعقد في باريس يومي 7و8ماي 1955، بمبادرة من جون فيدرين، والد وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فيدرين الذي كتب مقدمة هذه المذكرات. وفي ذلك اللقاء سوف يتعرف لأول مرة على امبارك البكاي، الذي كان قد فقد إحدى رجليه في الحرب، وصار يعيش برجل من خشب. يتحدث عنه أحرضان قائلا:»ذلك الرجل هو امبارك البكاي، رجل ناقصة وحظوة زائدة. كان ضابطا ممتازا تعرض للإصابة بشكل بطولي، واستقال من منصبه كباشا لمدينة صفرو بعد نفي السلطان محمد بن يوسف، حيث اختار العيش في منفاه الاختياري بباريس، دون أن يقوم بأي نشاط خاص إلى أن اضطربت الأوضاع في المغرب فقرر بنفسه تلبية نداء الواجب، حيث قام بمهارة بالمهمة الصعبة المتمثلة في إرساء أسس جديدة للعلاقة بين مغاربة وفرنسيين». وعن علاقته بالمقاومة يلجأ أحرضان إلى رواية الخطيب التي نشرها في كتابه»الزايغ». يحكي الخطيب أنه تعرف على أحرضان في بيت إدريس المحمدي في بداية سنة 1950، وأنه بعد أن تعرف على الشهيد الزرقطوني والإخوان منصور وبونعيلات بالدارالبيضاء اقترح عليهما البحث عن أحرضان بسبب تجربته مع السلاح كضابط سابق في الجيش الفرنسي ومكافح من أجل القضية الوطنية. ثم يتابع الخطيب بأنه جال مع أحرضان مجموعة من البلدان الأوربية من أجل جمع التبرعات لشراء الأسلحة للمقاومة في المدن والأرياف. ويقول أحرضان إنه قرر هو والخطيب عقد اجتماع لزعماء جيش التحرير بالرباط للانتهاء مع السرية التي لا تتوافق مع عودة السلطان بن يوسف، وفي الوقت نفسه للتعبير عن إرادتهم بعدم ترك للآخرين الفرصة للسيطرة على شؤون المملكة بشكل مطلق. وقد استقبل السلطان بالقصر الملكي جميع أعضاء جيش التحرير، وكان بينهم إلى جانب الخطيب وأحرضان كل من عباس المساعدي وبلميلودي وعبد الله الصنهاجي وغبوشي والفيكيكي. وفي تلك الليلة يقول أحرضان ولدت فكرة إنشاء مجلس أعلى للتنسيق داخل المقاومة كان أحرضان نفسه على رأسه. وقد فتح الاستقبال الملكي المجال أمام جيش التحرير ليصبح مركز قوة في الحفاظ على الاستقرار. لكن يظهر من هذه المحطة التي يرويها أحرضان أن الاستقبال الملكي للمقاومة هو الذي أقلق السياسيين، خاصة في حزب الاستقلال، حسب ما يبدو من التطورات اللاحقة التي سيرويها. الفقيه البصري.. منفذ المهام الحقيرة من الذي كان يشرف على عمليات التصفية والاغتيالات؟. يجيب أحرضان بأنه كانت هناك أرادتان، الأولى للمهدي بن بركة المشرف على اللعبة، والثانية إرادة الفقيه البصري»الذي يتصرف والسكين بين أسنانه». هذا التحالف كان يفيد الاثنين معا، فالمهدي كان يحاول التباهي بأنه لاحقُ بالمقاومة، والبصري «كان منفذ المهام الحقيرة، فنظرا لأنه كان يعرف بأنه محمي، كان يقوم بتصفية كل من يقف في طريق تنفيذ طموحاته الشخصية»، أما بن بركة فقد كان يقوم له بدور القاتل، إلى حد أنه كان يقدم نفسه زعيما للمقاومة، وقد كان بالفعل يقول أحرضان الناطق الرسمي باسم الملك لدى عودته يوم 20 غشت. مذبحة سوق أربعاء الغرب عن مذبحة سوق أربعاء الغرب، التي حصلت في يناير 1956، يقول أحرضان»كانت مأساة أخرى كنت أنا شخصيا شاهدا عليها، والتي لن أنساها أبدا ولن أسامح». في تلك الفترة كان أحرضان قد عين عاملا لمدينة الرباط، وكان عليه أن يدخل بهذه الصفة بشكل رسمي إلى مدينة سوق أربعاء الغرب، حيث كان حزب الشورى والاستقلال يقيم احتفالا. كان بعض الشبان قد توجهوا إلى المدينة التي كانت تشهد احتفالا رسميا على متن حافلات، تحت إشراف عبد الواحد العراقي، وكان أحرضان قد غادر مدينة القنيطرة التي كان قد دخلها للتوجه إلى مكان الاحتفال بمرافقة شبان تابعين للاتحاد المغربي للشغل، ومصطفى النجاعي أحد أعيان منطقة الغرب. وقبل وصوله إلى المدينة جاء إليه عدد من المخازنية يخبرونه بأن الوضع سيء وبأن عناصر حزب الاستقلال، المتفوقين في العدد، يقتلون عناصر حزب الشورى والاستقلال. فاقترح عليه النجاعي العودة، فقال له أحرضان»إذا كانت خائفا انزل»، فنزل النجاعي من السيارة. وعندما وصل أحرضان إلى المكان عازما على التدخل كان أول ما فعله إنقاذ شقيقين وجدهما مطروحين تحت حافلة استعدادا لصب البنزين عليهما لإحراقهما، ونشبت مواجهات بين الطرفين قتل خلالها عبد الواحد العراقي وثمانية من الشبان الآخرين. ويضيف أحرضان أن تحقيقا فتح في تلك المذبحة حدد المسؤوليات، لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء. والأكثر من ذلك أن القتلة كانوا يقتلون بوجوه مكشوفة، مما يعني أنهم كانوا يعرفون بأنهم محميون. عندما قال الخطيب لبلافريج:«ومن تكون أنت؟» ويروي أحرضان أنه خلال إقامته بباريس اكترى مع عبد الكريم الخطيب غرفة بسيطة قصد تدبير عملية الحصول على السلاح للمقاومة، وذات مرة اقترح الخطيب الذهاب لزيارة رئيس حزب الاستقلال أحمد بلافريج»الذي كان مقيما بأحد الفنادق الفاخرة». وعند وصولهما استقبلهما بلافريج ببرود وبنوع من التعالي. فقال له الخطيب إنهما يريدان الحصول على السلاح، فسأل بلافريج»ولماذا السلاح؟»، قال الخطيب»لكي نقاتل»، رد بلافريج»تقاتلون؟ ولكن اسمحا لي بأن أقول لكما بأن ليس من عادتنا التعامل مع أشخاص مجهولين»، فغضب الخطيب ورد عليه»وأنت، من تكون؟»، وعند مغادرة الفندق قال أحرضان في إشارة إلى حزب الاستقلال:»إنهم واثقون جيدا بأن تركة الكفاح الجاري ستعود إليهم بشكل طبيعي»، فرد الخطيب»المستقبل بيد الله». بن بركة يفرض سيطرة حزب الاستقلال يكتب أحرضان أنه في مناخ الاحتفال الذي أعقب الحصول على الاستقلال، كان المهدي بن بركة مستعجلا في تذكير الجميع بتفوق حزب الاستقلال، وفي وقت قياسي. ففي الوقت الذي كان المواطنون يتقاطرون على مدينة الرباط للاحتفال بعودة السلطان وضع بن بركة أشخاصا «كوماندوهات» رافعين لافتات كتب عليها»الاستقلال»، من أجل استغلال حالة الغموض والخلط بين الاستقلال وبين الحزب الذي يحمل الاسم نفسه. وكان البكاي، الذي كلف بتشكيل الحكومة الأولى، يجد صعوبة في التصرف، أما المقاومة فقد كانت غائبة عن مراكز القرار، إذ كانت بعيدة عن المدن التي سيطر عليها السياسيون الذين كان لديهم هدف واحد، وهو السيطرة على مقاليد الحكم. ويتابع أحرضان»كان المهدي بن بركة، الذي لا يتعب، حريصا على أن يحتل حزب الاستقلال جميع المواقع التي خسرها خلال العامين الماضيين، بسبب غيابه عن الساحات الحقيقية للمعركة». ووسط هذا الوضع كان البكاي يحاول تحقيق المصالحة المستحيلة. نفهم من كلام أحرضان أن الصراع كان بين معسكر المقاومة ومعسكر السياسيين، وخصوصا حزب الاستقلال. فهو يقول بأنه كان يحاول تقديم المساعدة ما أمكن للبكاي من أجل نجاح مهمته. ومرة قال له عبد الهادي بوطالب، عن حزب الشورى والاستقلال:»إذا كنت تريد التدخل في السياسة فعليك بتأسيس حزبك»، ويقول إن حزب الاستقلال قدم له الاقتراح نفسه. ويضيف أحرضان أنه التقى علال الفاسي بطنجة، بطلب من هذا الأخير. لكن علال الفاسي لم يطلب منه الالتحاق بصفوف الحزب، بل بمد يده إليهم، أي بمساعدتهم في مهمتهم. فقال أحرضان»أليس ذلك ما نفعله الآن؟»، رد علال الفاسي»حسب المهدي، لا، ولكن هل فعلا يستحيل أن تعملا معا؟». فرد أحرضان»أنت تعرف أكثر من أي شخص آخر أن المهدي يستعمل أساليب لا يمكن لأي شخص أن يجعله يغيرها أو يرسم لها حدودا معقولة». وتنتهي المقابلة بأن يطلب أحرضان من علال أن يتدخل لكي يجعل بن بركة يلتزم بحدوده. بعد أيام التقى أحرضان بالحسن اليوسي الذي كان يحمل معه عرضا من حزب الاستقلال، حيث قال له اليوسي»الحزب عاد بقوة، وهو الذي تسلم مقاليد السلطة من يد الفرنسيين، وهو يقترح عليك الدخول في الحكومة مع أوفقير». يسأل أحرضان اليوسي:»لكن لماذا نحن الاثنين؟»، فيرد اليوسي:»أنتما معا كنتما ضابطين، أنت كمقاوم وأوفقير نظرا لولائه ولكل المعلومات التي يمكن أن يقدمها كضابط سابق في المراسيم بالإقامة العامة. وهم يطلبون منك مفاتحته في الموضوع». بن بركة: المغرب لنا يذكر أحرضان لقاء تم بينه وبين المهدي بن بركة والحسين الحاج حمو، إذ كان بن بركة يسعى إلى توحيد الجميع تحت حزب الاستقلال للحصول على السلطة. في ذلك اللقاء قال بن بركة أثناء الكلام»المغرب لنا لا لغيرنا». فرد أحرضان»والآخرون؟»، قال بن بركة»معنا نحن يمكنك أن تقول بأن المغرب لك وليس لغيرك». وبعد ذلك قال بن بركة لأحرضان»أنا لا أهددك، ولكن أحذرك كما فعلت مع أقرب أشقائي، لأن الحزب يبحث عن الوحدة وأنت تريد التقسيم». ثم قال أيضا»عليك أن تعرف بأننا على وشك فرض الحزب الوحيد بجميع الوسائل». وعن عمليات القتل التي وجه إليه الاتهام فيها قال بن بركة»إنها عمليات تطهير بسيطة للمصلحة العامة، علما بأننا لسنا نحن الذين نقتل»، قبل أن يقول بأن»الثورة تأكل أبناءها». خلال اللقاء نفسه، حسب رواية أحرضان، قال هذا الأخير بأنه»لا يريد أن يرى الثورة تحت مظلة حزب الاستقلال»، فيرد بن بركة بأنه يمكنه أن يراها تحت قيادته، مضيفا»بدل أن تفكر في بلافريج الموجود في الأسكوريال أو علال في مصر، اللذين يمثلان كل السوء الموجود كبورجوازيين على رأس حزب الاستقلال». بن بركة.. رجل بلا ضوابط عن المهدي بن بركة يقول أحرضان في مذكراته إنه لم يكن يهتم بما يعرقل تحقيق طموحاته، سواء لمصلحة حزبه أو لمصلحته الشخصية»بالنسبة له كان المغرب متاحا للاستيلاء عليه، فلماذا يتركه يضيع من يده؟ كان مقتنعا بهذا ولذلك لم يكن يترك أي شيء للصدفة. أما الانتصار فلم يكن يعني بالنسبة إليه التصرف وفق ضوابط، وكان هناك مسؤولون كبار يشجعونه على التصرف بهذه الطريقة، بدءا من المدير العام للأمن الوطني، فهذا الأخير لم يكن فقط يسمح له بفعل ما يريد، بل كان يساعده في مهامه من خلال الوحدة العسكرية رقم 9». ويروي أنه مرة تناول العشاء في بيت عبد الرحيم بوعبيد بمدينة سلا، بحضور بن بركة ومصطفى بالعربي وإدريس المحمدي. طلب بوعبيد من أحرضان أن يكون «بديل الممثل»(بديل في حالة حصول طارئ) للحسن اليوسي، وزير الداخلية. وأثناء الطريق في السيارة التي كان بها أحرضان وبن بركة استفسر الأول عن ضمانات الحياد، فقال بن بركة»لا أحد، ولكن أعدك بفعل أي شيء للتفاهم معك، أما بالنسبة للماضي فأنا أعتذر، أنا مجرد آلة». حزب الاستقلال يعترض على تعيينات لمحمد الخامس يروي أحرضان حكاية يرى أنها تلخص موقف حزب الاستقلال من محمد الخامس بعد الاستقلال. يقول: ذات يوم ذهبت إلى القصر فوجدت الجنرال مولاي حفيظ، مدير البروتوكول جالسا على كرسيه وإلى جانبه ورقة لا أعرف ما فيها. فجأة دخل جلالة الملك وسأله»جئت لزيارتنا مبكرا أسي أحرضان؟»، فرد الأخير:»مررت يا صاحب الجلالة لرؤية مولاي حفيظ لمعرفة أخباركم لكن الله منحني فرصة غير منتظرة لكي أقدم لكم احتراماتي».قال الملك:»مرحبا بك في هذا البيت اليوم كما بالأمس»، فرد أحرضان»الأمس هو الماضي، ولكن اليوم لو سمحتم يا صاحب الجلالة، أرى إذا لم أكن مخطئا أن الأمور لا تسير كما ينبغي»، فقال الملك مبتسما:»بل أسوأ، أردت تعيين مسؤولين، عبد الحميد العلوي باشا بالقنيطرة، والحسن بن إدريس عاملا على مكناس، ولكن هؤلاء»الناس» اعترضوا على قراري وأرسلوا إلي برقيات». فطلب أحرضان الإذن في التدخل، لأن القنيطرة تحت سلطته بوصفه عاملا على منطقة الرباط، فسلمه مولاي حفيظ البرقية، وبعد ساعتين كان في مكتب رئيس الدائرة، ميمون بالبشير، بالقنيطرة. يحكي أحرضان:»حرصت على أن تتم دعوة الموقعين على البرقية، واستقبلتهم واقفا وسألتهم: لماذا لم تبعثوا برقيات إلى جلالة الملك تعترضون فيها على تعييني على رأس منطقة الرباط؟». وانتهت المقابلة بتسوية الأمور. بنسودة: فرنسا هي الزوج والمغرب هو الزوجة أثناء اللقاء الفرنسي المغربي الذي عقد بباريس يومي 7و8ماي1955 كان حاضرا أحمد بنسودة، عن حزب الشورى والاستقلال، وعندما أخذ الكلمة بدأ بالقول:»لقد تعلمت الفرنسية في سجن الكريان سانطرال، لذلك أرجو أن لا تعاتبوني إذا عبرت عن أفكاري بطريقة غير سليمة بسبب اللغة»، وهو الكلام الذي أضحك الحاضرين. بعد ذلك قال:»فرنسا والمغرب مرتبطان، فرنسا هي الزوج والمغرب هو الزوجة»، فتدخل أحد الصحفيين الفرنسيين وقال:»ولماذا لا ننظر إلى الأمر من ناحية تعدد الزوجات؟». المقري يتخوف من حمل التوقيعات إلى محمد الخامس بعد حادث طرده من مهامه كقائد لوالماس غير أحرضان»السلاح من كتف إلى كتف»، كما يقول. فقد أصبحت»كل الطرق تؤدي إلى القصر الملكي». إذ شرع في جمع توقيعات القواد الذين طردوا مثله أو تخلوا عن مناصبهم كنوع من الاستنكار للسياسة الاستعمارية اتجاه السلطان. وكان عليه أن يركض ضد الساعة للإسراع في جمع التوقيعات، بمساعدة محمد حكم. بدأ الاثنان جولتهما لأخذ توقيعات القواد المعزولين أو المستقيلين، وكانت البداية من قايد منطقة زعير، وبعده القائد لحسن اليوسي الذي وضع توقيعه قائلا»هذا لن يفيد في شيء، لكن على الأقل يعني أننا نقول للفرنسيين بأننا دائما هنا». بعد الانتهاء من هذه العملية حمل أحرضان قائمة التوقيعات إلى القصر، وعندما قابل السلطان محمد بن يوسف طلب منه هذا الأخير تسليمها إلى الصدر الأعظم، محمد المقري، لكي يتم تسليمها فيما بعد إلى الإقامة العامة، لكن هذا الأخير رفض تسلمها، تخوفا ربما، وقال له»ماذا سأفعل بها؟»، قبل أن يتسلمها في النهاية. ويعلق أحرضان:»كانت تلك هي المرة الوحيدة التي أتعامل فيها مع هذا الصدر الأعظم المقري، الذي يجره المخزن معه منذ التوقيع على اتفاقية الجزيرة عام 1906. لقد نسي منذ وقت طويل بأن خدمة المغرب مقدمة على خدمة فرنسا، بينما التهديد الذي كان يحدق بالقصر كان لا يكف عن الازدياد». وجاء في تلك الرسالة الاحتجاجية:»إننا نستنكر بشكل صارخ التماس الكلاوي ومساعديه ونطالب بمحاكمة ومعاقبة كل من ساهم في خلق الفتنة وسط الشعب المغربي، وفق القوانين الجاري بها العمل. وبنفس المناسبة نعلن تشبثنا الراسخ بجلالة السلطان سيدي محمد بن يوسف، ونجدد ثقتنا في المهام التي يقوم بها بحكمة وشجاعة فيما يصب في مصلحة شعبينا». كيف احتج جيش التحرير على المناورات السياسية؟ في الوقت الذي شكلت فيه حكومة البكاي وبدأت المناورات السياسية، حاول جيش التحرير»الذي أخذ على حين غرة» تنفيذ بعض العمليات التي لم تساهم نهائيا في تغيير المعطيات السياسية. والمقاومة في المدن لم تستطع أن تثق في من كان يرفضها بالأمس، وقد حاولت هي أيضا أن تثير الانتباه هنا وهناك، لكن عمليات تصفية عناصر الهلال الأسود كانت قد انطلقت». فقد كان حزب الاستقلال يغتال كل من لا يعطيه ولاءه. اغتيال الحبيب القدميري تم اغتيال الفنان الفكاهي الحبيب القدميري في بداية الاستقلال في إطار عمليات تصفية معارضي حزب الاستقلال. ويقول أحرضان إن القدميري ذهب ضحية اعتقاده بأن الاستقلال جاء بحرية الكلام. حصل ذلك في مرحلة كان فيها»المسيرون»، وهم مفتشو حزب الاستقلال المكلفون بخلايا الحزب، يستطيعون فيها القيام بما يريدون، بما في ذلك فرض إتاوات على أصحاب الثروات»حيث كانت بطاقة الحزب كفيلة بتحويل أي خائن إلى مقاوم وبتحويل أي مقاوم إلى خائن». في إحدى اسكيتشات القدميري على أمواج الإذاعة تقول الأم لولدها: قل لي يا وليدي، آشنو هو هاذ الكنز اللي لقيتي حتى وليتي تلبس هاد الشي؟ فيرد الابن: أنا وليت مسير. وكانت تلك الكلمة التي قتلت القدميري، الذي اختطف واغتيل. حكومة البكاي الأولى عن حكومة البكاي الأولى يروي أحرضان أنه ذات يوم، في الوقت الذي كان البكاي يشرح أمامه بحضور آخرين نتائج مشاوراته السياسية دخل أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال بشكل مفاجئ، وبعد لحظة صاح المهدي بن بركة»لقد وجدنا وزيرنا في الداخلية»، فرد البكاي»وزيركم؟، ولكني لم أطلب منكم ذلك». رد بن بركة»صحيح، ولكننا، سعادة الرئيس، تجنبنا أن نطلب منكم ذلك». وبعد ذلك قال بن بركة»لحسن، وها هو حاضر معنا، وأضيف، هو ولا أحد غيره»، فقال البكاي»من تعني؟»، رد بن بركة»لا أعني أحدا بعينه، ولكن المنصب يستحق وزيرا وليس كاتب دولة». ويقول أحرضان إن البكاي كان قد اقترح عليه، يوما واحدا قبل ذلك اللقاء، منصب كاتب الدولة في الداخلية. بعد أيام تم تشكيل الحكومة التي حصل فيها حزب الاستقلال على نسبة 45 في المائة، وحاول حزب الشورى والاستقلال لمحمد بن الحسن الوزاني الاحتجاج على هيمنة الاستقلاليين. ويقول أحرضان»لم يكن لدى حزب الاستقلال برنامجا سوى إيكس ليبان التي تم نقلها إلى المغرب، وهذا يعني السير بكل بساطة نحو»الحزب الوحيد بجميع الوسائل». أما الضحية الأول فقد كان حزب الشورى والاستقلال، الذي كان هو نفسه قد شارك في مؤتمر إيكس ليبان. ويضيف أحرضان:»كان البرنامج المسطر في إيكس ليبان من طرف سلطة الحماية السابقة على وشك التنفيذ نقطة نقطة، وبينما كان البكاي فرحا بنجاح مهمته كان حزب الاستقلال يتصرف منذ وقت طويل كالسيد الآمر، أما حزب الشورى والاستقلال فلم يكن يستطيع أن يمثل توازنا رغم نوعية ممثليه». بعد ذلك بدأ حزب الاستقلال يطالب بحكومة منسجمة»الأمر الذي كان يعني أن البكاي لم يعد مقبولا. وهذا ربما كان صحيحا بلا شك، لأنه لم يكن يتوفر على حزب سياسي يستند إليه، ولذلك كان مقيدا. وبدون بوصلة، سار في التوجه الذي يريده الحزب وزعماؤه، الذين كان هدفهم هو أن يفرضوا مواقفهم وبرنامجهم على الملك، بل الأكثر من ذلك، حضورهم في جميع المجالات». وأمام الضغوط اضطر البكاي لاقتراح تعديل الحكومة، بعد أن وضع استقالته التي كتبها أحرضان نفسه وكان على أهبة تقديمها، ولكن الوزراء الاستقلاليين قالوا له»سعادة الرئيس، نحن لسنا متفقين معك، ارحل». حزب الاستقلال يعتقل البكاي بين 20 و 28 يوليوز 1955 عاد امبارك البكاي إلى المغرب من فرنسا، بدعوة من المقيم العام الجديد، حيث أمكنه ملاحظة كيف يتصرف حزب الاستقلال»الذي يمثل المهدي بن بركة، الذي لا يتعب، النموذج الأكثر تشربا للمناورات السياسية». وخلال إقامته بالمغرب تم إسكان البكاي في بيت أحد الاستقلاليين»الأكثر خضوعا. كان الحزب يقوم بحصاره». ويقول أحرضان إنه وموحا اليوسي قررا المبيت في غرفة البكاي لكي يضعاه في صورة ما يجري في البلاد لأنه كان يجهل التحولات التي حصلت منذ نفي السلطان. وفي أحد الصباحات حضرت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال بشكل مفاجئ، بجميع أعضائها ما عدا علال الفاسي الذي كان ما يزال في القاهرة. كان المهدي بن بركة يريد الانفراد بالبكاي، لكي يفسر له بأن الأمور كلها تحت سيطرة حزب الاستقلال. ويروي أحرضان أنه دخل مع بن بركة في مشادة كلامية بسيطة، ثم يصفه قائلا»هذا الرجل الغريب، القادر على كل الانقلابات الفجائية، الذكي، المهاجم، البهلوان». قبل أن يقول فيما بعد:»حصل لي، في أوقات لاحقة، مناسبات تعاركت فيها مع المهدي، الذي أتأسف بصدق لاختفائه. لقد كان رجلا يملك الكثير مما يقوله ويفعله، وقد كانت وفاته خسارة، مثل كثيرين ممن ذهبوا ضحايا رغبتهم في فرض الحزب الوحيد، تلك الإرادة التي كان هو نفسه، بشكل من الأشكال، ضحيتها». ميراي دوكاسكيط..زوجة أحرضان عن حكاية زواجه من فرنسية يروي أحرضان أنه أثناء سفره إلى مدينة نيس الفرنسية، كضابط في الجيش الفرنسي، خلال الأربعينات، حضر حفلا للضباط بأحد فنادق المدينة، وهناك تعرف على والد ميراي دوكاسكيط، الذي كان يشغل منصب كولونيل بالجيش الفرنسي. بعد ذلك ذهب لمقابلتها بباريس، حيث كانت تمارس الرقص التقليدي، وتم التعارف. وبعد مدة قصيرة زارت المغرب بدون إخبار والديها للقاء أحرضان الذي أسكنها في بيت عائلة عباس بركاش بمدينة الرباط، تفاديا لاختطافها. يقول أحرضان: كان قد تقرر إرسالي إلى الهند الصينية للتفريق بيننا، ولكي يتجنب هذا الخيار قرر الزواج على الطريقة الإسلامية، وقدم طلبا بالموافقة على الزواج وحصل عليه، وحتى يتخلص من إرساله إلى الهند الصينية تصنع المرض واستفاد من رخصة طويلة. أصبحت العلاقة بين زوجة أحرضان، التي صار اسمها مريم، وزوجة عبد الكريم الخطيب، مفتاحة، وطيدة. وبفضل شقيقة مصطفى بالعربي، عائشة، تعرفت زوجة أحرضان على الأميرة عائشة، ابنة السلطان، فأصبحت تدخل القصر. ومرة حذر المراقب المدني كلود دالييه أحرضان من أن زوجته ترافق الأميرة، وأضاف قائلا له بأن هذا الاحتكاك مع الأميرة ليس في مصلحة زوجته، ولكي يؤكد له التحذير قال له»تجنبوا القصر». ويعلق أحرضان في مذكراته:»عرفنا من ذلك إلى أي حد وصلت المناورات لعزل جلالة السلطان عن باقي البلاد». زعيمنا السياسي، سيدي علال الفاسي! أثناء جولة للملك محمد الخامس في بداية الاستقلال بالأطلس المتوسط، حيث كان أحرضان برفقة الموكب، وعندما تقدم هذا الأخير من مدخل مريرت، كان هناك بعض الأعيان جالسين، فتوجه إليهم أحرضان غاضبا»كيف تجلسون ولا تقومون إلى جلالة الملك لتحيته؟» فرد الآخرون»وبأي وجه سنذهب إلى هناك؟» وعرف أن حزب الاستقلال انتزع منهم خيامهم، وقال أحدهم»إنهم لم يأخذوا خيامنا فقط، بل أخذوا حتى نساءنا». وفي أجدير نصبت خيام بشكل دائري، حيث كانت تجري رقصات أحيدوس، لكن وسط الضجيج ارتفعت الشعارات»زعيمنا السياسي، سيدي علال الفاسي».ويقول أحرضان إن الدعاية كانت تنشر أن علال الفاسي هو زعيم الشعب»لقد بدأت نوايا الحزب تظهر أكثر فأكثر، إنه يريد السيطرة على الحكم. كان المثال التونسي حاضرا وكان علال الفاسي يمثل بورقيبة». ثم يضيف بأن علال الفاسي سمح بتعليق صورته الرسمية في المحلات التجارية بالمواقع الرئيسية في الرباط، بل إن صورته كانت تعلق في مكان أعلى من صورة الملك في بيوت بعض أغنياء المدينة. ويشير أحرضان إلى أن صورة علال وهو بالزي العسكري، التي نشرتها جريدة»العلم» في الصفحة الأولى في ذلك الوقت، كما لو كان رئيسا للأركان، فقد كان حزب الاستقلال يريد الهيمنة على سلطة الملك، حتى أنه يذكر أن امحمد الدويري قال مرة بأن ثلاثة أمور هي ما يهم في المغرب»اللغة العربية، والإسلام، وحزب الاستقلال». ويتهم أحرضان حزب الاستقلال بالتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي مع سوريا والعراق وليبيا والجزائر. علال الفاسي: فليموتوا بالآلة! في بداية الاستقلال بدأت عمليات تصفية الحسابات في الدارالبيضاء وخاصة في منطقة الشمال، حيث كان في تطوان معتقل سري رهيب يسمى»جنان بريشة»، الذي كان عبارة عن حديقة مسورة حولها حزب الاستقلال إلى معتقل ثم إلى مقبرة بعد عمليات القتل التي حصلت بداخله. ويقول أحرضان إن الجميع كان يتحدث عن هذا المعتقل ولا يزالون»ولكن كيف ننتظر أن تقول العدالة كلمتها إذا كانت الثورة تأكل أبناءها، كما يقول المهدي بن بركة؟». وينسب أحرضان إلى الخطيب أن علال الفاسي استقبل، عند عودته من بلد عربي، استقبالا حاشدا قريبا من»جنان بريشة»، حيث كانت فرقة أندلسية تعزف، فقال الخطيب لعلال»هناك أناس يموتون قريبا من هنا والناس تعزف طرب الآلة؟»، فرد علال»فليموتوا بالآلة». عدي أوبيهي.. من الزعامة القبلية إلى مستشفى المجانين كان عدي أوبيهي في رواية أحرضان وجها أسطوريا. وكان يتميز بالهيبة والكرم، إذ كان يعطي بدون حساب من ماله ووقته. وكان مسموع الكلمة في القبائل التي كان يرأسها، بحيث كان محبوبا ومطاعا فيها. وخلال عمله كقائد على منطقة كراندو، تم توشيحه بوسام الشرف من طرف المراقب المدني في عهد الحماية، واعتقد أوبيهي أنه الوحيد الذي وشح لذلك الوسام. لكن بعد فترة وكنوع من خلق التوازن وشحت الحماية قائدا آخر يسمى «بابا سيدي»، كان هو الآخر زعيما في قبيلته، ونظمت بالمناسبة حفلة كبيرة حضرها مسؤولون في الشؤون الأهلية وجميع القواد العاملين في منطقة الأطلس. قلق عدي أوبيهي لما حصل وقرر أن يسخر بطريقته لكي يقلل من ذلك الحفل، فنظم حفلا ضخما ليلة يوم غد دعا إليه مسؤولي الشؤون الأهلية. وفي صبيحة اليوم التالي وبعد تناول وجبة الفطور، طلب من ضيوفه الوقوف في صفوف كما بالأمس، وغاب لحظة قصيرة ثم عاد ومعه كلب سلوقي علق على عنقه وسام الشرف الذي وشح به من قبل. وكرد على هذا التصرف، إضافة إلى سلوكات أخرى سابقة، تم إيداعه بمستشفى المجانين بمدينة برشيد، حيث بقي هناك إلى حين عودة الملك محمد الخامس من المنفى، حيث عين فيما بعد عاملا على تافيلالت، مهد الدولة العلوية ومخزن القبائل المحاربة. كان أوبيهي رجلا شجاعا، وكان يعتقد أن مجيء الاستقلال سيرد إلى المغاربة كرامتهم المهدورة ويخلصهم من الهيمنة أيا كانت، وكان لا يرى سوى السلطة الملكية ويرفض التعامل مع الحكومة. ونظرا للعلاقة التي كانت تربطه بالحسن اليوسي، وزير الداخلية في الحكومة الأولى للبكاي، فقد قرر الاستمرار في التعامل معه حتى بعد إعفائه وتعيين حدو الشيكر مكانه، لأن الشيكر كان محسوبا على حزب الاستقلال ومقربا من بن بركة الذي فرضه على البكاي، وفي الوقت نفسه عاملا في الديوان الملكي. وذات مرة أرسلوا إلى أوبيهي من الرباط بعض القواد المقربين من حزب الاستقلال وغير الأكفاء، من أجل تأطير قبائل الجنوب، لكن أوبيهي رفض التعامل معهم. ثم قرر أن يعزل قيادته عن الجميع فاحتل بعض المرتفعات وأنشأ منطقة عازلة بمساعدة أعيان الأطلس الذين كانوا أيضا يعتقدون أن العرش مهدد من طرف حزب الاستقلال. ويضيف أحرضان:»وكان جلالة الملك محمد الخامس يتوقع أي شيء، إلا هذا التصرف من أوبيهي». تم إرسال مبعوثين إلى أوبيهي، وأجريت معه مفاوضات في ميدلت، حيث كان مركز قيادته، شارك فيها الفقيه بالعربي العلوي والجنرال بالعربي الكرار والحمياني وآخرون، الذين كان أوبيهي يعتبرهم غيورين على البلاد. ولكن في هذا الوقت صدرت تصريحات للحسن اليوسي عبر أمواج الإذاعة الوطنية تعلن بأن أوبيهي خارج القانون، فأدرك أوبيهي متأخرا أن فخا نصب له، ومن تم ألقى السلاح من دون أن يطلق رصاصة واحدة، وأعطاه الملك الأمان، فنقل أوبيهي إلى القصر الملكي الذي بقي فيه بضعة أيام قبل أن يتم سجنه. ويروي أحرضان أن أوبيهي نقل إلى المستشفى بعد إصابته بوعكة صحية، حيث ذهب إلى عيادته، وأبدى له أوبيهي استغرابه من وجوده في المكان نفسه، مع أنه ليس مريضا ولا متعبا، وأسفه على إبعاده عن رفاقه. لكن في اليوم التالي أعلن عن وفاته»بكل ما في الأمر من بساطة»، يوم 31 يناير 1961. ويعلق أحرضان:»إذا لم يكن الأمر يتعلق بسكتة قلبية، وهذا بعيد الوقوع، فيمكن أن يكون ذلك عملية اغتيال أخرى تضاف إلى لائحة طويلة من الاغتيالات ضد الأسماء المؤثرة». إيكاس ليبان.. خيانة السياسيين يتهم أحرضان المشاركين في مؤتمر إيكس ليبان بأنهم كانوا يريدون أداء مسرحية معدة سلفا من أجل إنقاذ صفحات وجوههم، أكثر مما كانوا يسعون إلى حل للأزمة التي كانت توجد فيها البلاد. فقد ذهبوا إلى هناك دون أن يكون همهم قضية العرش»كانوا يطالبون بابتعاد بن عرفة وليس باستقالته». وينقل أحرضان ما كتبه جورج سبيلمان في كتابه»من الحماية إلى الاستقلال» بخصوص الموضوع نفسه، ما يعني أنه يتبنى المواقف نفسه. يقول سبيلمان:»لقد أعلن المخاطبون المغاربة أنهم لا يريدون بشكل مسبق عودة سيدي محمد بن يوسف إلى العرش». ويضيف أحرضان أن مشروع المؤتمر كان يؤكد على تعيين مجلس للعرش، لسد الفراغ في الحكم، يكون له حق تنصيب حكومة تتحاور مع فرنسا «لقد لاحظت من خلال تحليل المحاضر بأن الجميع تقريبا أهمل بشكل إرادي القضية الوطنية في شموليتها، إلى حد وضع كل من محمد بن يوسف وبن عرفة على قدم المساواة. ذلك أن نقل الأول إلى نيس وابتعاد الثاني دون استقالته يعني عدم التأكيد على شرعية العرش، بانتظار نضوج مخطط فالاط (مدير الشؤون السياسية بالإقامة العامة) وبونيفاس(رئيس منطقة الدارالبيضاء) أو أشخاص آخرين من الجمهورية الفرنسية بالمغرب، بما يشبع جشع هؤلاء السادة(المغاربة المشاركون في المؤتمر)». ويضيف أحرضان:»لقد كان هدف هؤلاء في الواقع هو خدمة مصالحهم، لكي يصبحوا هم الزعماء». ويقارن بين تصريحات امبارك البكاي، التي يرى أحرضان أنها تعكس موقف جيش التحرير، وبين موقف محمد الزغاري وعبد الرحيم بوعبيد عن حزب الاستقلال. إذ قال البكاي ردا على سؤال»كيف يمكن إنقاذ العلاقات المغربية الفرنسية؟»، ما يلي:»إن غالبية المغاربة قد طرحوا عليكم قضية العرش، ولذلك لن أطرح أي سؤال سابق على هذا وبالأحرى سؤالا بديلا، فهناك مغاربة يفكرون في إرجاع محمد بن يوسف إلى العرش، وأعتقد أنا شخصيا أن القضية مفروغ منها». في المقابل قال الزغاري:»من المستحيل إرجاع بن يوسف إلى العرش في الوقت الحالي، لأنه يجب أولا بناء المؤسسات قبل ذلك». ويعلق أحرضان»كأن السلطان المنفي يمثل عائقا أمام ذلك». أما مذكرة حزب الاستقلال إلى المؤتمر فقد جاء فيها ما يلي:»مهما كانت أهمية العرش، فإنها في الحقيقة مسألة عارضة». بينما قال بوعبيد للفرنسيين الذين كانوا يريدون ضمان الأمن:»إن أعينهم مركزة على المدن، ونحن يمكننا ضمان المدن». ويعلق أحرضان على كلام بوعبيد قائلا:»أمام هذه الأقوال الموجهة إلى مسؤول فرنسي فكرت في مقتل علال بن عبد الله وفي هؤلاء المقاومين الذين رفضوا رفع أي يافطة سياسية»، ثم يضيف في نوع من السخرية المرة»وسط هذه التصريحات والتصريحات المقابلة لم تعد فرنسا نفسها تعرف من ستعين مقيما عاما للجمهورية في المغرب». من قتل عباس المساعدي؟ في نهاية اللقاء الذي وصف فيه المهدي بن بركة بلافريج وعلال الفاسي بالبورجوازيين، سيقول بن بركة لأحرضان»والآن، لكي أثبت لك حسن نيتي قبل أن نفترق أطلب منك أن تفكر قليلا، وتبدأ بمنع واحد من أصدقائك من وصفي بالخائن، وأنا أتحدث عن عباس المساعدي، من جيش التحرير». ويقول أحرضان إنه عندما التقى المساعدي روى له هذا الأخيرة قصة ما وقع. عندما خرج بن بركة من السجن ذهب إليه المساعدي لتهنئته، وفي الوقت نفسه طلب منه بعض المساعدات لفائدة مجموعة من المقاومين، فطمأنه بن بركة وحدد له موعدا للقاء. وعندما توجه المساعدي إلى بيت بن بركة في الموعد خرجت إليه خادمة وقالت له مهددة»إذا لم تذهب في حال سبيلك ستأتي الشرطة». هذا الموقف جعل المساعدي يشعر بأنه أصبح مهددا بالاغتيال. ومرة رافق كلا من أحرضان والخطيب إلى القصر لمقابلة الملك محمد الخامس، وقال له»صاحب الجلالة، إنهم سيقتلونني، أنا أعرف ذلك، وأشعر به، أطلب من جلالتكم فقط أن تأخذوا ابني تحت حمايتكم». ثم يعلق أحرضان»تعيدني ذكرى عباس إلى المرحلة التي كانت حياة بعض الأشخاص مهددة. فهو والمهدي صارا شهادتين للتاريخ. وقد حصل أنهما معا، كل منهما في مكانه، كان يثور بدون وضع حساب لشيء، الأول بطلقات السلاح من أجل تحرير البلاد، والآخر أصبح نوعا من الغوريلا التي تطارد في كل وقت، بسبب الإخفاقات.الأول مليء بالشجاعة، والثاني مليء بالمكر. عباس كان الهدف في واضحة النهار، بينما المهدي ينصب الفخاخ في الظلام. وفي الأخير مات الاثنان موتا عنيفا. الأول ضحية الثاني، والثاني ضحية نفسه بعد ذلك». في بداية الاستقلال بعد إنشاء الجيش الملكي كانت هناك محاولة لإدماج عناصر جيش التحرير فيه، فاتخذ بن بركة قرارا بزيارة معسكراتهم بما فيها تلك التي توجد في مناطق صعبة الولوج على رأس الجبال، مرفوقا بالفقيه البصري. ومن معسكر إلى آخر بدأ الاثنان يقتربان من المركز الحساس في أكنول، حيث المعسكر الذي يشرف عليه عباس المساعدي. كان هذا غائبا عن المعسكر، فبدأ بن بركة والبصري في نقاش مع الحاضرين، وفجأة ظهر المساعدي قادما وعندما رأى بن بركة صرخ في وجهه»أيها الخائن، جئت لكي تشاهد بعينيك كيف أصبح المقاومون الذين رفضت مساعدتهم؟ تريد اليوم بعد أن انتهى كل شيء أن تجني أمجاد المقاومة التي كنت تحاربها؟». بعد ذلك وجهت دعوة إلى المساعدي للعشاء في فاس من طرف شخص يدعى حجاج، كان رفيقا له في جيش التحرير. توجه المساعدي منفردا إلى الموعد، وبعد ذلك تم تكبيله وحمله على متن سيارة، وبعد خمس دقائق قتل، وكان ذلك يوم 26 يونيو 1956. أراد جيش التحرير في الريف النزول إلى فاس للانتقام، الأمر الذي كان يهدد بكارثة، فتدخل الأمير الحسن وقام بزيارة تازة حيث قابل مساعدي المساعدي، وكان أحرضان حاضرا، بينما تم تكليف الكوماندان إدريس بن عمر بزيارة معسكرات جيش التحرير لتهدئة النفوس باسم الملك وولي العهد الذي هو الناطق الرسمي. ويقول أحرضان إنهم عندما وصلوا إلى أكنول وجدوا هناك جماعة من الرجال المسلحين الذين كانوا على أهبة التوجه إلى فاس للانتقام لمقتل المساعدي، وواجهوا صعوبة كبيرة في إقناعهم بالعدول عن قرارهم. لكن اغتيال المساعدي لم يفتح فيه ملف قضائي»لأن ذلك كان من شأنه أن يضع في قفص الاتهام الحزب الوحيد». تم تكليف أحرضان والحمياني، المدير العام للشؤون السياسية في وزارة الداخلية، بالتحقيق في الاغتيال. وقد قاد التحقيق مع العديد من الأشخاص إلى التعرف على اسم القاتل، الذي كان يدعى ولد عبد الله، من عصابة حجاج، ولم يكن سوى تاجر لا علاقة له بالمقاومة، كان دوره هو التجسس. كان حجاج قد هرب بعد عملية الاغتيال، لكنه بعد أن تعب من ملاحقته سلم نفسه وتم الاستماع إليه من طرف ولي العهد شخصيا بحضور أحرضان والحمياني. كشف حجاج أنه لم يوافق على الاغتيال رغم الأوامر التي أعطيت له، وأن البيت الذي كان سيتعشى فيه المساعدي يعود إلى شخص يدعى الحاج بن عبد الله، وأن بنسعيد آيت يدر مساعد الفقيه البصري جاء لكي يشرف بنفسه على التطبيق الحرفي للأوامر. وقال حجاج أيضا إن مسؤوليته تحددت في تكليف بعض رجاله باختطاف المساعدي، بينما يترك لبنسعيد آيت يدر حرية اختيار طريقة القتل. ويضيف حجاج أنه عندما رجع سأل عن المساعدي فقالوا بأنه قتل ودفن، ثم أخذ الطريق بجانب آيت يدر إلى الرباط لمقابلة بن بركة، بينما واصل آيت يدر الطريق نحو الدارالبيضاء لإخبار الفقيه البصري وأصحابه. ويقول أحرضان إن حجاج اعتقل لبضعة أشهر، دون محاكمة، وبأنه دافع عنه ما استطاع. وبعد الإفراج عنه استفاد من مأذونيات النقل الخاصة بالحافلات، وقصر صغير كسكن، وبعد زمن طويل مات مع ابنه في حادثة سير. ثم يروي أحرضان أنه قبل ثلاثة أيام من اغتيال المساعدي قال له الفقيه البصري كما لو كان يخبره سلفا بما سيحدث إن لقاء عقد في تطوان عن المساعدي تحت رئاسة علال الفاسي. أما عملية إدماج أعضاء جيش التحرير في الجيش الملكي التي بدأت يوم 2 يوليوز 1956 فقد انتهت يوم 5 غشت من السنة نفسها. ويوم 5 يوليوز دخل ولي العهد الحسن القصر الملكي واقفا على متن شاحنة عسكرية وخلفه يجلس كل من أحرضان والخطيب وعبد الله الصنهاجي. وفي اليوم نفسه دخل أعضاء جيش التحرير القصر عبر الباب الكبير حيث قاموا بتحية العلم تحت رئاسة ولي العهد. بروكسي *: لا يمكن نسيان دور زوجة أحرضان في صناعة «كاريزميته» بعد طول انتظار خرجت مذكرات القيادي الحركي المحجوبي أحرضان إلى الوجود، التي تسلط الضوء على حقبة تاريخية زاخرة بالأحداث، إذ رصد الجزء الأول جوانب من تاريخ المغرب السياسي في الفترة الممتدة ما بين 1942 و 1961، معززا بالصور والوثائق التي تختزل مساره كشاهد على العصر في كثير من الأحداث التي عرفها مغرب ما قبل الاستقلال والمغرب المستقل. في هذا الحوار تسائل «المساء» رجلا لعب دورا في صدور هذه المذكرات، ويتعلق الأمر بلحسن بروكسي الرجل الذي عهد إليه أحرضان بهندسة السيرة الذاتية وتنقيحها على المستوى اللغوي والتاريخي وحتى السياسي على امتداد سنة كاملة. حاوره - حسن البصري - ما هو الدور الذي لعبته في مذكرات المحجوبي أحرضان؟ أشعرني المحجوبي أحرضان بأنه بصدد إنجاز مذكراته، رحبت بالفكرة واعتبرتها إضافة نوعية لمساره السياسي ومساهمة في قراءة للتاريخ المغربي. أخبرني بأن الهدف من مذكراته هو تسليط الضوء على مرحلة هامة من تاريخ المغرب، لأنه عاشها عن قرب وشارك فيها، فهي كما قال ليست محاكمة لأي شخص، لذا على الرأي العام أن يتعامل مع هذه المذكرات بعقلية نفعية وهي استخلاص العبر من سطور هذه الكتب الثلاثة، إنها في اعتقادي دروس في التاريخ السياسي للجيل الحالي. صعب جدا أن يحكي زعيم حزبي كبير عن فترة زمنية مليئة بالفتن والتصفيات والمعارك والحروب الباردة والحارقة. هذه المذكرات ليست صادرة عن رفاق درب أحرضان أو أي شخص آخر، بل صادرة عن رجل ساهم في صنع الحدث وليس مجرد شاهد. المذكرات تتضمن ثلاثة أجزاء، الجزء الأول خرج إلى الوجود في ندوة صحفية، ويخص مرحلة زمنية صعبة بين 1942 و1961. أغلب الوقائع تمت في عهد الملك الراحل محمد الخامس، بينما الجزءان الثاني والثالث، وهما الآن قيد الطبع في فرنسا، يتحدثان عن الفترة التي تلت عام 1961 وإلى غاية 1999. شخصيا كان لي شرف المساهمة في هذا العمل قبل أن يطلع عليه الرأي العام. مساهمتي لم تتجاوز التنقيح اللغوي والتاريخي والسياسي أيضا، من خلال جلسات استشارة وعمل متبادل انتهت بهذا الميلاد الذي لا يمكن لأحد أن يتنكر لقيمته التاريخية والمعرفية. - لماذا اختارك أحرضان لتشتغل إلى جانبه في هذا العمل؟ المحجوبي أحرضان هو ابن منطقتي. تقريبا لا تفصلنا إلا كيلومترات قليلة عن بعضنا البعض هو في ولماس وأنا في تيداس، لقد درس مع والدي رحمه الله وكان صديقه، وفي سنة 1956 كنت أدرس في ثانوية مولاي يوسف، وهو كان يقطن في طريق زعير، وهذا ما جعلني أتردد على بيته. تعرفت على أحرضان منذ الطفولة وهو يختلف عن كثير من القادة السياسيين، لأنه لا يحفظ الوقائع في ذاكرته فقط بل كان يدون أبسط التفاصيل الخاصة بحياته في دفاتر، وكان يحتفظ بها في خزانته أو ما يعرف عندنا بالربيعة. - هذا يعني أن المذكرات تستمد قوتها من هذه المسودات التي ساعدت على إنجاز العمل؟ اتصل بي ومسودة النسخة الأولى كانت جاهزة، قال لي بدل أن أتوجه إلى شخص آخر «مصالحش ليا» فضلت أن أتعامل معك، سيما وهو يعرف إلمامي بالكتابة خاصة السير الذاتية باللغة الفرنسية. قال لي إنك ابن منطقتي وعايشت أغلب الأحداث التي عشتها في مساري السياسي، وعليك أن تشرع في العمل لتنوير القارئ. تريث شيئا ما قبل أن أقبل العرض، لقد عشت تجربة السيرة الذاتية في كتابي عن علاقتي بالبصري. لكن ما شجعني على الانخراط في هذا المشروع الذي لا يجادل أحد في قيمته التاريخية والسياسية هو وجود مادة خام، وهي مسودات كتبها ووضعها في خزانته. القضية كانت سهلة بالنسبة إليه لقد نفض الغبار عن ذاكرة مليئة بالأحداث بفضل تلك المسودات. - هل كان لك رأي حول المنهجية المتبعة في سرد الوقائع؟ أحرضان كتب مذكراته، فهو يجيد اللغة الفرنسية التي اختار الكتابة بها، أنا قمت بهندسة المذكرات حتى يعيش القارئ تسلسلا تاريخيا، فأحرضان كان يكتب كما يشعر بالوقائع الآن، كان يركب الأحداث، لكننا اتفقنا على التسلسل المنطقي والكرونولوجي للأحداث. المرحلة الثانية هي المنهجية في بناء الأحداث حتى تتجاوز الحكي الذي يستحضر الوقائع ويتموقف منها. كنا نتوقف كلما شعرت بنوع من الغموض. وأطرح مجموعة من الأسئلة. لقد كنت بمثابة القارئ المحتمل والمصحح اللغوي والمنقح. لقد عشت مجموعة من الأحداث التي تضمنها الكتاب بأجزائه الثلاثة، سواء حين كنت طفلا في تيداس أو حين التحقت بالاتحاد الوطني لطلبة المغرب. - كنت مع أحرضان في حزب الحركة الشعبية؟ نعم كنت مع أحرضان في الحزب بعد أن غادرت وزارة الداخلية، حيث اقترح علي إدريس البصري دخول البرلمان، ولأنني سأترشح في تيداس منطقتي، فإنه من الطبيعي أن ألبس لون الحركة الشعبية التي تسيدت المشهد السياسي في زمور. - كم تطلب منك هذا الجهد؟ حوالي سنة تقريبا، لقد كنت أتردد عليه في منزله بسلا بالقرب من الشاطئ، هناك جو رائع للاشتغال، كنا نقضي ساعات في السجال، صدقني فقد استفدت من المذكرات لأنها تتضمن دروسا في التاريخ السياسي، وجعلتني أقف على فحولة قادة الزمن الجميل. - كيف عالج أحرضان قضية المهدي بن بركة وهل كان لك رأي فيها؟ تضمن الكتاب حوارا غريبا بين المهدي بن بركة والمحجوبي أحرضان، حيث طلب منه المهدي الانضمام للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، نظرا لمواقفه الشجاعة. لكن أحرضان رد عليه قائلا: كيف تطلب مني الالتحاق بجناح ثوري وأنت القائل بأن الثورة تقتل أصحابها، لقد تبين أن الإعجاب متبادل بين طرفين يشتركان في الكاريزما والمواقف المتشددة والصامدة ضد قوى تريد للمغرب أن يظل مستعمرا، رغم اختلافهما الإيديولوجي. لقد كان الرجل رغم ما يعرف عنه من مواقف صلبة رجل الحوار، لقد قال إن المهدي بنبركة لو قدر له أن يعيش اليوم لكان ملهم الجماهير. في سيرته يصر على تسمية علال الفاسي بالسي علال، بل إن الجزء القادم سيكشف عن الانسجام الحاصل بينه وبين اليوسفي إلى درجة الانصهار الفكري. فلا المحجوبي ولا المهدي ولا اكديرة ولا ملين ولا علال الفاسي ولا بوطالب كانوا أقوياء في مواقفهم في سجالهم العميق، عكس زعامات اليوم. للأسف الزعامات الحالية لا تملك هذه القوة الغريبة. - هل أعطاك أحرضان مقابلا عن هذا العمل؟ لا أبدا، أخلاقي لا تسمح لي بنيل مقابل مالي، كل ما في الأمر أن أحرضان ساعدني حين كنت مريضا في إحدى المصحات بسبب أزمة في المسالك البولية، لقد علمت أنه تكفل باقتناء أدوية لي لا توجد في المغرب بل جلبها من فرنسا، ربما قيمتها المالية 800 دولار. لست ممتهنا لحرفة الترجمة والتنقيح لأتقاضى عنها أجرا، لابد من الإشارة إلى شيء مهم وهو أن مرضي جعلني أتابع المذكرات إلى حين الوقوف عند محطة المسيرة الخضراء حينها دخلت المصحة، وبعد ذلك اطلعت على مسودة السيرة الذاتية. الأهم بالنسبة لي هو متعة القراءة عن زعماء حقيقيين. أنا معجب بهؤلاء القادة وحين ستقرأ الجزأين الثاني والثالث ستقف على علاقة الزعماء السياسيين بالحسن الثاني، وما طبع المفاوضات، «كانوا عندنا السبوعا»، في الجزء الثاني ستقفون على مواقفهم في حضرة الملك الراحل الحسن الثاني وصلابتهم. - السيرة الذاتية غالبا ما ترصد الجوانب المضيئة في حياة كاتبها، ألا ترى بأنها تقفز على بعض الوقائع؟ أحرضان عرض لكثير من المواضيع فقط لأنها جزء من التاريخ، صحيح هناك ذاتية لصاحبه ووجهة نظره حول الأشخاص شئنا أم كرهنا. من يقرأ السيرة الذاتية لأحرضان، سيقف على صلابة مواقف الرجل الذي يلح على كتابة بعض الفقرات رغم أنني كنت أحيانا أنبهه من بعض الجرعات الزائدة في مواقفه، فيقول لي لا تتصرف في الوقائع، لو أراد أحرضان أن يقفز على الأحداث لما كتب مذكراته. - من هم رجال الظل في هذه المذكرات؟ لا يمكن أن نغبن زوجته مريم وهي ابنة جينرال فرنسي تزوج بها في عهد الاستعمار، لكنها تشبعت بالروح الوطنية، هذه السيدة رافقته في مساره السياسي ولقد خصص لها بعض الفقرات اعترافا بما قدمته، ليس لأحرضان بل للقضية الوطنية، لقد تجرأ أحرضان في تجمع لجبابرة القواد من أجل التوقيع على رسالة تطيح بالملك محمد الخامس وقال لا للتوقيع على مذكرة تعادي القصر رغم أنه ضابط فرنسي. مريم هي التي منعته من التوقيع، ولقد خصص لها فقرات في سيرته، فقد قيل وراء كل عظيم امرأة. لقد قال أحرضان لأتباع الباشا لكلاوي إن الوطنية تفرض عدم الانخراط في المؤامرة، الأكثر من ذلك أنه احتفل وهو ضابط في الجيش الفرنسي في مدينة نيس الفرنسية بعيد العرش في عهد الاستعمار، بل موقفه دفع كولونيلا فرنسيا للمساهمة المالية في الحفل. * المنقح اللغوي والتاريخي لمذكرات أحرضان