ماذا يمكن لأحرضان أن يضيف إلى ما كُتب عن تاريخ المغرب المعاصر ومرحلة ما قبل وما بعد الاستقلال والحركة الوطنية؟ فقد كتب الشيء الكثير وقدمت شهادات عدة طيلة العقود الماضية، وبعض هذه الشهادات أصبح «تاريخا» شبه رسمي، لأنها صدرت عن رجال شاركوا في تلك الأحداث، لكن كان عليهم أن يظلوا حاضرين في الوقائع التي تلت مرحلة الاستقلال، وبذلك كان عليهم أن يتعاملوا مع تلك الشهادات بطريقة انتقائية أو حتى تحريفية أحيانا. ونظرا لكل ذلك الركام الذي كتب عن تاريخ العقود الماضية بالمغرب، وخاصة منذ الخمسينيات من القرن الماضي، فإن مذكرات أحرضان التي أعلن عن خروج جزئها الأول في لقاء ببيته يوم الجمعة الماضي، قبل صدور الجزئين الثاني والثالث ينتظر منها أمران: تقديم روايته عن وقائع رواها آخرون، وسد ثغرات في وقائع غير مكتملة. الجزء الأول من المذكرات قدم له هوبير فيدرين، وزير خارجية فرنسا في حكومة لونيل جوسبان من 1997 إلى 2002، الذي ارتبط أحرضان بعلاقة عائلية مع والده جون فيدرين وزوجته منذ الخمسينيات. ذلك أن هذا الأخير، الذي شغل عدة مهام بجانب فرانسوا ميتران منذ الأربعينيات، كان متعاطفا مع استقلال المغرب ولعب دور الوساطة بين الملك محمد الخامس والمسؤولين الفرنسيين من أجل استقلال المغرب. فيدرين في مقدمته، تحدث عن بداية علاقته بأحرضان وزياراته المتكررة إلى والماس رفقة زوجته، كشهادة على قوة العلاقة بين الاثنين. يقول عن أحرضان: «ضابط في الجيش الفرنسي لكن وفي بشكل كامل لمحمد الخامس. فأحرضان رجل وفاء، وواحد من زعماء جيش التحرير الوطني، لكنه أيضا صديق لفرنسا بعد الاستقلال، ونموذج متفرد للوطني والمواطن ومثال للانفتاح على العالم والتعددية». أحرضان يستهل مذكراته بمثل مغربي، لعله أمازيغي في الأصل، من المؤكد أنه يعكس شخصيته السياسية وشخصية رجل السياسة بشكل عام، الذي لا بد أن يتعامل مع الظروف بحسب ما يأخذ منها دون أن يخسر. تقول ترجمة هذا المثل: «قال الأسد: سوف أختبئ لكي لا يراني أحد. إذا رآني أحدهم سوف أهرب، لكي لا يدركوني. إذا أدركوني، فسوف يتعرفون علي، فأنا أسد».
البداية مع الخطابي يبدأ أحرضان مذكراته بمشاركته في الحملة العسكرية الفرنسية على تونس في بداية الأربعينيات، حين كان مجندا في الجيش الفرنسي، ثم في فرنسا ضد القوات الإيطالية التي غزت فرنسا خلال نفس الفترة بعد انضمامها إلى بلدان المحور إلى جانب ألمانيا النازية، عندما قال له ضابط فرنسي التقاه في تونس، مخاطبا إياه كأمازيغي: «من الطبيعي أن تدفع روما الثمن جزاء اغتيالها لاثنين من ملوككم: يوغرطة وجوبا الثاني». وفي فرنسا التي يتعرف عليها لأول مرة، يلتقي بملازم عسكري مغربي يتدرب هناك يدعى حبيبي، وينقل لنا حوارا دار بينهما، يفهم منه موقف أحرضان من حادثة الهروب الشهيرة للأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي من السفينة الفرنسية في بور سعيد، هذا جزء منه (أحرضان فحبيبي): اسمع جيدا، لدي مسدس معبأ وفي جيبي نقود. سأنثر النقود على الأرض في الطريق وعليك أنت أن تجمعها وتردها إلي لكي نكرر العملية مرة أخرى إلى أن نصل إلى المكان الذي نقصده، وإلا أفرغت رصاصة في رأسك. ولماذا المسدس؟ لكي أطلق عليك إذا رفضت جمع نقودي، وفيما بعد سأقول السبب. هل جننت؟ أتظن ذلك؟(قال أحرضان وأطلق رصاصة في الهواء) اسمع جيدا، الرصاصة الثانية ستكون لك، لأن هذه إرادتي. أنا أنثر النقود، وأنت تجمع. (عند الوصول) ألم أضعك في موقف مخجل. لا، بل أخفتني. ولكن ماذا كنت ستصنع لو لم أجمع النقود؟. كنت سأثقب جلدك دون تردد. ولكن قل لي بصراحة، لماذا هذه المسرحية؟ إذا كنت لا تعرف، سأقول لك الآن. عندما توقف بن عبد الكريم الخطابي في مصر، هرب من السفينة الفرنسية التي كانت تنقله من جزر الأنتيل حيث كان منفيا، وحده الله يعلم إلى أي اتجاه. لكن ما دخلنا في هرب الخطابي؟ إذا لم تفهم المغزى فأتمنى أن تدرك كيف يجب أن تتصرف لكي لا تضع بلدك في موقف مخجل.
قاتل تادلة الحياة تمر هادئة في منطقة الأطلس. انتهت الحرب، لكن لا شيء تغير في معيشة المغاربة الذين كانوا يطمعون في الحصول على الاستقلال إذا انتصرت فرنسا. عادت الأمور إلى رتابتها كما من قبل، وعاد الفرنسيون إلى سياستهم السابقة متنكرين للوعود التي قدموها. حتى الفرنسي «برادين» منتج الجبن في والماس من الماعز، أصبح يتدخل في»السياسة الأهلية». في هذه الفترة، جاءت واقعة «قاتل تادلة»، أحمد الحنصالي، الذي «زرع الفتنة في عقول كل الذين كانوا يظنون أنهم ابتلعوا المغرب دون مضغ». كان الحنصالي يحصد بسلاحه كل من يراه في طريقه دون تمييز في المناطق الجبلية التي كانت تحت الضبط. اعتقل وحوكم وتم إعدامه سريعا. ويقول أحرضان، بعد أن يترحم على قتلاه الأبرياء، إن قضيته أظهرت أن الناس لا يولدوا متساويين وإنه يجب ترويضهم مثل البهائم. وينقل أحرضان روايتين عن الحنصالي، الأولى للفرنسي لويس فوجير، المستشار القانوني للإقامة العامة، الذي روى بأن الحنصالي لم يشعر بأي خوف حين عرف أن حكم الإعدام سينفذ فيه. والثانية لعبد الرحيم بوعبيد، الذي كان نزيلا معه في نفس المعتقل، مفادها أن الحنصالي استقبل خبر إعدامه بالرصاص بدم بارد. في تلك الفترة، كان أحرضان يشغل منصب قائد على منطقة والماس، وفي نفس الوقت ضابطا في الجيش الفرنسي، ومتزوجا من فرنسية من النبلاء، مما كان يعطيه حظوة لدى الفرنسيين، لكنه وجد تلك الوضعية غير مريحة، لأنه يتعامل مع المراقب العام في المنطقة، بينما السلطان في صراع مع المقيم العام في العاصمة، «شيئا من الاحترام على الأقل»، يعلق أحرضان على هذه الوضعية. مؤامرة الكلاوي حصل الانفجار بين السلطان محمد الخامس والإقامة العامة مع قضية باشا مراكش، التهامي الكلاوي، بعد أن طرد السلطان هذا الأخير من القصر. ذلك أن الكلاوي استغل مناسبة المولد النبوي وجاء لكي يقدم التبريكات للسلطان، وخلال اللقاء، قام بتحذير من التعامل مع الوطنيين»الأوغاد». وشعر السلطان بأن ذلك نتاج مؤامرة من الحماية ضده، فتوقف عن توقيع الظهائر. حاول المقيم العام الجنرال جوان استغلال تلك الحادثة والتخطيط لمؤامرة ضد السلطان، فتم التحضير لعقد اجتماع يدعى إليه جميع الباشوات والقواد، بمن فيهم أحرضان نفسه، في خنيفرة، لوضع الكلاوي كبديل للسلطان. بعد ثلاثة أيام من ذلك اللقاء، استدعى «بوجول»، رئيس دائرة الخميسات، جميع باشوات وقواد المنطقة لمعرفة آرائهم حول الاجتماع السابق. وقد طلب من الحاضرين التوقيع على رسالة مؤيدة للكلاوي، لكن أحرضان وآخرين رفضوا التوقيع عليها. وعندما سأل أحرضان بوجول عما إن كان المستهدف من العملية هو السلطان، رد هذا الأخير أن الأمر يتعلق ب»الاستقلال» (نسبة إلى الحزب) وليس بالسلطان، فرد أحرضان بما معناه أن الاستقلال يعني استقلال البلاد وليس الحزب، لأن نفس الكلمة تؤدي المعنيين. بعد ذلك، سوف يقرر أحرضان بشكل نهائي عدم التوقيع على الرسالة، مما نتج عنه إعفاؤه من مهامه كقائد وتعيين شخص آخر محله. ويقول أحرضان إنه لن يعرف التهمة التي أقيل بسببها من مهمته إلا بعد الاستقلال، من خلال اطلاعه على أرشيف منطقة الرباط، حيث كانت التهمة الموجهة إليه هي «المس بأمن الدولة الداخلي». بعد ذلك، قرر الشروع في عقد لقاءات مع القياد الذين تم عزلهم، مثل لحسن اليوسي الذي كان تحت الإقامة الإجبارية في بنسليمان، وأخذ توقيعاتهم المؤيدة للسلطان، بمساعدة محمد حكم، ثم رفع لائحة التوقيعات إلى محمد الخامس، الذي طلب منه تسليمها إلى الصدر الأعظم المقري، لكن المقري رفض تسلم الرسالة إلا بعد الإلحاح، لأنه اعتبر أنها غير ذات فائدة. ويقول أحرضان عن هذا الأخير: «كانت تلك المرة الوحيدة التي تعاملت فيها مع الصدر الأعظم المقري، الذي يجره المخزن معه منذ اتفاق الجزيرة الخضراء عام 1906. لقد نسي بأن خدمة المغرب مقدمة على خدمة فرنسا». مواجهة بين الخطيب وبلافريج ويروي أحرضان أنه خلال فترة نفي السلطان محمد بن يوسف، اكترى في باريس مع عبد الكريم الخطيب غرفة بسيطة قصد تدبير عملية الحصول على السلاح للمقاومة، وذات مرة اقترح الخطيب الذهاب لزيارة رئيس حزب الاستقلال أحمد بلافريج، «الذي كان مقيما بأحد الفنادق الفاخرة». وعند وصولهما استقبلهما بلافريج ببرود وبنوع من التعالي. فقال له الخطيب إنهما يريدان الحصول على السلاح، فسأل بلافريج «ولماذا السلاح؟»، قال الخطيب: «لكي نقاتل»، رد بلافريج «تقاتلون؟ ولكن اسمحوا لي بأن أقول لكما بأنه ليس من عادتنا التعامل مع أشخاص مجهولين»، فغضب الخطيب ورد عليه «وأنت، من تكون؟»، وعند مغادرة الفندق قال أحرضان في إشارة إلى حزب الاستقلال: «إنهم واثقون جيدا بأن تركة الكفاح الجاري ستعود إليهم بشكل طبيعي»، فرد الخطيب «المستقبل بيد الله».
إيكس ليبان الفصل الأهم في الجزء الأول من المذكرات هو الذي يخصصه أحرضان لمؤتمر إيكس ليبان، الذي جمع بين الفرنسيين وممثلين باسم الحركة الوطنية. فهو يتهم المشاركين في المؤتمر بأنهم كانوا يريدون أداء مسرحية معدة سلفا من أجل إنقاذ صفحات وجوههم، أكثر مما كانوا يسعون إلى حل للأزمة التي كانت توجد فيها البلاد. فقد ذهبوا إلى هناك دون أن يكون همهم قضية العرش، «كانوا يطالبون بابتعاد بن عرفة وليس باستقالته». وينقل أحرضان ما كتبه جورج سبيلمان في كتابه «من الحماية عن الاستقلال» بخصوص نفس الموضوع، ما يعني أنه يتبنى نفس المواقف. يقول سبيلمان: «لقد أعلن المخاطبون المغاربة أنهم لا يريدون بشكل مسبق عودة سيدي محمد بن يوسف إلى العرش». ويضيف أحرضان أن مشروع المؤتمر كان يؤكد على تعيين مجلس للعرش، لسد الفراغ في الحكم، يكون له حق تنصيب حكومة تتحاور مع فرنسا، «لقد لاحظت من خلال تحليل المحاضر بأن الجميع تقريبا أهمل بشكل إرادي القضية الوطنية في شموليتها، إلى حد وضع كل من محمد بن يوسف وبن عرفة على قدم المساواة. ذلك أن نقل الأول إلى نيس وابتعاد الثاني دون استقالته يعني عدم التأكيد على شرعية العرش، بانتظار نضوج مخطط فالاط (مدير الشؤون السياسية بالإقامة العامة) وبونيفاس (رئيس منطقة الدارالبيضاء) أو أشخاص آخرين من الجمهورية الفرنسية بالمغرب، بما يشبع جشع هؤلاء السادة (المغاربة المشاركون في المؤتمر)». ويضيف أحرضان «لقد كان هدف هؤلاء في الواقع هو خدمة مصالحهم، لكي يصبحوا هم الزعماء». ويقارن بين تصريحات امبارك البكاي، التي يرى أحرضان أنها تعكس موقف جيش التحرير، وبين موقف محمد الزغاري وعبد الرحيم بوعبيد عن حزب الاستقلال. إذ قال البكاي ردا على سؤال «كيف يمكن إنقاذ العلاقات المغربية الفرنسية؟»، بما يلي: «إن غالبية المغاربة قد طرحوا عليكم قضية العرش، ولذلك لن أطرح أي سؤال سابق على هذا وبالأحرى سؤال بديل، فهناك مغاربة يفكرون في إرجاع محمد بن يوسف إلى العرش، وأعتقد أنا شخصيا أن القضية مفروغ منها». في المقابل قال الزغاري:»من المستحيل إرجاع بن يوسف إلى العرش في الوقت الحالي، لأنه يجب أولا بناء المؤسسات قبل ذلك». ويعلق أحرضان «كأن السلطان المنفي يمثل عائقا أمام ذلك». أما مذكرة حزب الاستقلال إلى المؤتمر، فقد جاء فيها ما يلي: «مهما كانت أهمية العرش، فإنها في الحقيقة مسألة عارضة». بينما قال بوعبيد للفرنسيين الذين كانوا يريدون ضمان الأمن: «إن أعينهم مركزة على المدن، ونحن يمكننا ضمان المدن». ويعلق أحرضان على كلام بوعبيد قائلا: «أمام هذه الأقوال الموجهة إلى مسؤول فرنسي، فكرت في مقتل علال بن عبد الله وفي هؤلاء المقاومين الذين رفضوا رفع أي يافطة سياسية»، ثم يضيف في نوع من السخرية المرة «وسط هذه التصريحات والتصريحات المقابلة لم تعد فرنسا نفسها تعرف من ستعين مقيما عاما للجمهورية في المغرب».