بعد أن كانت السقايات مصدرا لإرواء عطش الساكنة وتلبية حاجياتهم الأساسية في الدواوير الصفيحية بالمحمدية، فقد تسببت طرق تدبيرها بين الساكنة والجهات المسؤولة في المدة الأخيرة، في إشعال فتيل المواجهات خاصة بدوار البراهمة، واحد بجماعة الشلالات، وكذا ظهور مشاكل لاتحصى، عنوانها التلوث وغياب المرافق الضرورية، والتأخر غير المبرر لبرامج الترحيل وإعادة الإسكان. لحظات عصيبة طبعها الترقب والقلق، كانت بادية على وجوه ساكنة دوار البراهمة 1 بجماعة الشلالات بالمحمدية، وشكلت قاسما مشتركا بينهم بعد يوم واحد فقط على اعتقال ثلاثة عشر من القاطنين به في أحداث قطع الماء الشروب عن مساكنهم، وماتلاها من مواجهات بين الطرفين ،الأمن والسكان. «حسن» وهو من القاطنين بالدوار كان من بين الحاضرين في ذلك الصباح أمام مقر سرية الدرك الملكي بشارع الجيش الملكي، بالمحمدية. الحشود ظلت تنتظر بفارغ الصبر انتهاء تحقيقات الدرك مع المعتقلين، وإمكانية الإفراج عنهم . حسن لم يصدق ما حدث ،قال بنبرة غضب « كان مشهدا من فيلم مرعب بكل ماتعنيه الكلمة من معنى.. ضرب وتكسير للأبواب ثم اعتقالات »، وهو يصف وقائع أحداث يوم الثلاثاء 12 نونبر الجاري. أما اعتقال شقيقه فقد حول حياة أسرته إلى جحيم وطبع تفاصيلها بالحزن والألم ،ليتحول مطلب إطلاق سراحه إلى هاجس يومي يطارد جميع أفرادها « خويا مظلوم، كان غادي للحانوت ديالوا كيف العادة مافراسو والو .. ومن بعد شدوه..»، يضيف حسن بحسرة وهو يعيد جزءا من شريط الأحداث التي عرفها الدوار في ذلك اليوم، مدافعا عن براءة شقيقه، وبقية المعتقلين من التهم الثقيلة التي توبعوا بها أمام المحكمة. « حرمنا من جميع الحقوق، لاسكن، ولاتشغيل، ولاصحة.. نحن منبوذون وسط قطع من الصفيح.. لماذا يعتقلون أبناءنا إذن »، هكذا صرخت إحدى الأمهات بعينين دامعتين تكادان لاتفارقان مدخل سرية الدرك، عسى أن يظهر من بينها المعتقلون وقد نالوا الحرية. أما إيجاد عذر لإقدام السكان على مد أنابيب بلاستيكية مباشرة من «العوينة » دون موافقة واضحة من السلطات،« كان فخبار القايد أولدي من ورا العيد الكبير، كلشي كان كيدخل الماء قدامهم » تستطرد الأم، وهي تحاول جاهدة أن تبعد تهمة «سرقة» الماء الشروب من السقايات، والامتناع عن أداء واجباته لل«عساسة». أحد المحتجين قال غاضبا « كون ما كانش الماء ماغديش اعرفوا بلي الدوار ديالنا كاين أصلا». الماء .. القصة المؤلمة للماء في حياة الساكنة قصة مؤلمة، عنوانها البحث الدائم عن قطرات وبشق الأنفس لتوفير القليل منه لتلبية حاجياتهم الأساسية. قصة ليست وليدة أحداث الثلاثاء «الأسود» في ذاكرة الساكنة، فندرة الماء تعود إلى سنوات خلت، حيث كان السكان يتزودون من البئر الوحيدة الموجودة بالدوار والمعروفة ب« البير لحلو»، لكن وفي حدود سنة 2005 ومع إحداث جماعة الشلالات سيتم إلحاق دوار لبراهمة 1 إلى الدواوير التابعة للجماعة. أولى الإجراءات التي اتخذها المجلس القروي آنذاك هي محاربة ظاهرة العطش التي يتخبط فيها السكان. المجلس أنجز مجموعة من قنوات المياه الصالحة للشرب بشراكة مع المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، شقت طريقها نحو مجموعة من الدواوير كدوار لبراهمة2 وجامايكا ودوار أولاد سيدي عبد النبي ودوار سيدي علي واركو ونصبت في نهاياتها سقايات. ولتدبير الاستفادة منها بشكل متساو عين على رأسها حراس – حسب السكان- وأمناء – حسب المصالح الإدارية- حيث أصبح دورهم مقتصرا على حراسة السقايات والعناية بها بتكليف من المكتب الوطني للماء الصالح للشرب ،مع تمكين القاطنين من التزود بالمياه بواسطة قنينات وقارورات وبراميل ،مقابل مبلغ مالي بسيط عن كل لتر يؤديه السكان نقدا وفورا للساهرين على السقايات التي ترتبط بدورها بعدادات مائية. لكن نعمة المياه ستتحول إلى نقمة. بعد أن بدأ بعض السكان في تأليب آخرين للامتناع عن أداء واجبات استهلاك المياه للحراس، بمبرر أن الدولة قد أعفت سكان الدواوير من أداء واجبات استهلاك الماء والكهرباء الذي تم ربطه بدوره بالدوار عن طريق عداد كهربائي مشترك تتفرع عنه أسلاك كهربائية موصولة بعدادات فردية بالأكواخ الصفيحية. ويشرف على العدادات المشتركة أمناء تم انتدابهم كذلك من طرف المكتب الوطني للكهرباء، لكن أغلب السكان أصبحوا يمتنعون عن أداء ما بذمتهم من استهلاك للكهرباء للأمناء ، والسبب – حسب شهادات – التسعيرة الخيالية والزيادات التي مبرر لها . أمام هذا الوضع أصبح مطلب السكان الأساسي لدوار لبراهمة واحد هو مجانية الماء بعد الكهرباء خصوصا أنهم يستدلون في ذلك بمجموعة من الدواوير ببلدية عين حرودة المجاورة لدواوير الشلالات والتي أصبحت تستهلك هاتين المادتين بالمجان رغم المحاولات اليائسة التي قامت بها مصلحة " ليدك " بالمحمدية مؤخرا لقطع المياه عن سكان الدواوير. الخطوة ووجهت بانتفاضة قوية من طرف سكان دوار لعين ودوار لجيني ، مما جعل مصلحة " ليدك " تتراجع عن قراراتها وهي الاحتجاجات التي وصل صداها إلى سكان الدوار وغيرها من الدواوير بالجماعة القروية للشلالات. السكان يتساءلون بمرارة « لقد قمنا بإدخال الماء بواسطة أنابيب قبل عيد الأضحى، ولم يتم الاعتراض على ذلك، رغم علم أعوان السلطة بالأمر » ،بل ويضيف البعض منهم « الساكنة تطوعت وقامت بشراء عدادات، حيث كان من المنتظر أن يقوم «العساس» أو الشخص المسؤول عن المراقبة بجولة لقراءة العدادات وتحديد حجم الاستهلاك، كما أن السكان كانوا ينوون الالتزام بأداء مابذمتهم». حراس السقايات يشتكون امتناع السكان عن أداء الواجبات المتربة عن استهلاكهم للمياه لحراس السقايات، لم يمر دون تداعيات. الحراس قاموا بالانسحاب من الحراسة وتحرير شكايات لإبراء ذمتهم من أية محاسبة، وضع دفع السكان الذين عمدوا منذ حوالي ثلاثة أشهر على تمديد أنابيب المياه مباشرة نحو منازلهم بطريقة عشوائية بعد ربطها مباشرة بطرف القناة المرتبطة بالسقاية، و حين قام المكتب الوطني للماء الصالح للشرب بقطع المياه عن منازلهم، مما تسبب في خروج السكان وتنظيم وقفة احتجاجية ،كانوا يتوخون من ورائها قطع الطريق السيار الرابط بين البيضاءوالمحمدية في وجه حركة المرور ، لكن السلطات المحلية بقيادة زناتة كانت بدورها على علم بما يخطط له السكان، لذلك استنجدت بالقوات العمومية والتي شكلت حاجزا بين السكان والمحتجين .لكن حين شرع بعض أعوان المكتب الوطني في اقتلاع الأنابيب العشوائية، اندلعت مواجهة بين القوات العمومية وبعض الشباب والتلاميذ الذين كانوا عائدين للتو إلى دورهم القصديرية، حين استفزهم منظر طالبة وهي تقوم بالتقاط مشاهد للتدخل في حق امرأة وهي تتعرض للتعنيف بعد أن رصدتها عيون بعض عناصر القوات العمومية من هاتفها النقال، بعد أن سقطت المرأة أرضا نتيجة التدخل الأمني العنيف في حقها، وهو ما جلب عليها، حسب شهادات ،غضب عدد من قوات الأمن. أحمد الرطباوي واحد من السكان القدماء بالدوار اعتقل اثنان من أبنائه في نفس اليوم، حيث كان واحد منهما حسب تصريحات والدهما يقوم بدفع كرسي متحرك كانت تجلس عليه أمه المعاقة التي كانت قادمة إلى الدوار بعد قضائهما لغرض إداري، كما تم اعتقال شقيقه الآخر الذي رافقهما حين صادفهما في الطريق ، وكانت حصيلة الاعتقالات 12 شخصا من ساكنة الدوار من بينهم نساء ورجال وشباب وقاصر وطالبة بكلية بالمحمدية ،والتي قالت مصادر أمنية في شأنها إنها «ضبطت بالجرم المشهود حين التقطت لها صورة وهي ممسكة بحجارة كانت ترشق بها القوات الأمنية». اختناق وترحيل معلق شهادات السكان بخصوص أوضاعهم لاتلخص في مشكل التزود بالماء فقط ،فعلى بعد أمتار قليلة ومن الجهة الشرقية للدوار يوجد معمل للصلب وإعادة تذويب الحديد. الوحدة الصناعية الضخمة حولت حياة الجميع إلى جحيم، فمداخنها الشاهقة تطل مباشرة على دورهم القصديرية، وتلقي بسمومها السوداء وهي عبارة عن غبار أحمر ينفث في السماء ولفترات، مصحوبة بضجيج لايتوقف ليلا ونهارا. « منذ بداية المعمل أصيب معظم القاطنين بأمراض في الجهاز التنفسي نتيجة استنشاقهم لهذه الأدخنة » يقول محمد وهو يعلق بمرارة على المعاناة الصحية للساكنة، والتي لم تنفع الشكايات المتعددة إلى الجهات المعنية في الحد منها، خاصة أن الدوار لايبعد كذلك كثيرا عن مقر شركة التبغ والتي تنفث بدورها أدخنة بشكل متواصل في الهواء، ينضاف إليها مشكل تراكم الأزبال في محيط الدوار، والذي يشكل بدوره محنة لاتطاق، وسببا مباشرا لانتشار عدد من الأمراض في الدوار، حيث لازال حادث اختناق تلاميذ مدرسة غير بعيدة عن الدوار منذ سنتين عالقا بالأذهان. لكن المشكل الحقيقي حسب محمد في الغليان الذي بات يشهده الدوار في الآونة الأخيرة، هو التأخر في ترحيلهم إلى مناطق الإسكان الجديدة لقاطني دور الصفيح « لم نستدع لحد الآن للاستفادة من البقع أو الشقق، رغم مرور مايزيد عن عشرين سنة عن آخر إحصاء .. خاصة أن الدواوير المجاورة شرع في أجرأة عمليات الاستفادة ». أبعد من ذلك فإن المشكل حسب محمد يعود إلى « أن افتعال مشاكل الماء، والتدخل بقوة لفرض إجراءات محددة، ماهي إلا وسيلة للضغط علينا لقبول شروط إعادة الإسكان، وحرمان المئات من الأسر خاصة التي لم يشملها الإحصاء من حقها في السكن اللائق». أما مصطفى وهو فاعل جمعوي بالدوار فقد أكد أن ماوقع كان من الممكن تفاديه منذ سنوات لو تم تدبير ملف إعادة إيواء سكان الدوار بشكل عقلاني في إطار البرنامج الوطني لمحاربة دور الصفيح، حيث كانت كافة الدواوير بجماعة الشلالات وجماعة بني يخلف والجماعة الحضرية بالمحمدية معنية بهذا الملف الذي وقع منذ سنوات خلت بين رؤساء الجماعات المذكورة وتوفيق احجيرة الوزير السابق لوزارة السكنى والتعمير وعامل سابق لعمالة المحمدية ، حيث كان مقررا لهذه الجماعات أن تعرف نهاية سنة 2008 القضاء على دور الصفيح لكن البرنامج مني بالفشل بسبب مجموعة من الإكراهات، يبقى أهمها عدم وجود ميزانية مرصودة لهذا البرنامج سواء من طرف الجماعات أو الوزارة ،بالإضافة إلى عملية المتاجرة في دور الصفيح. أما الأمطار التي تهاطلت في الأسبوع الماضي، ورغم كميتها القليلة، فقد كانت كافية لإغراق أزقة الدوار في برك من المياه والأوحال. مشهد رغم أنه مألوف إلا أن كميات المياه المنسابة لم تكن وحدها مياه الأمطار ، يعلق أحد السكان وعلامات الاستغراب بادية على محياه « لقد تسبب نزع الأنابيب من لدن أعوان المكتب الوطني للماء الصالح للشرب في تسرب وضياع كميات كبيرة من المياه، أغرقت الدوار وهي كميات تكفي لشهر كامل من الاستهلاك ». محمد عارف / أحمد بوعطير