تالله لست أدري لماذا نطت أمامي صورة الوزير خالد الناصري عندما تهادى إلى سمعي نبأ استقالة فؤاد عالي الهمة من حزب الأصالة والمعاصرة، وإعلانه اعتزال العمل السياسي اعتزالا شاملا مانعا جامعا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. فبدا لي الرجل مرحا نشوانا، عيناه تفيضان فرحا وارتياحا، وهو يحرث بمحراثه الخشبي حقول اللغة، ويرفع يديه إمعانا في التوضيح، والكلمات تنساب من بين شفتيه مفرغة من معانيها، لا تعني أي شيء، مجرد لغو أجوف من عيار كلام الليل الذي يمحوه النهار.. حاولت ربط الأسباب بالمسببات، عساني أفهم داوعي هذا الخلط غير المقصود، فأنا لست أميا سياسيا إلى درجة تختلط علي فيها “العراريم” كما يقول المغاربة، فأساوي في لحظة جهل مركب، بين حزب الأصالة والمعاصرة وحزب التقدم والاشتراكية، الذي يشغل الوزير خالد الناصري منصبا في ديوانه السياسي.. كما أني أعلم أن معالي الوزير لم يكن من “المهمهمين” بالواضح، قد يكون كغيره من الأطر الحزبية الأخرى “تهمهم” بالمرموز خوفا وطمعا، بعد أن استقال فؤاد عالي الهمة من وزارة الداخلية، وحصد ثلاثة مقاعد برلمانية دفعة واحدة، وأنشأ جمعيته البكر “حركة لكل الديمقراطيين”، ثم صال وجال مستظلا بظل الملك، يسلب الأحزاب أطرها وبرلمانييها ومستشاريها، ويتركها “ربنا خلقتنا” جالسة على “عيدان الوضوء” كما يقال.. فأصبح بحكم سطوته تلك، فزاعة توزع الرعب بالعدل على بعض القلوب المريضة، خاصة تلك التي رأت فيه وفي حزبه سفينة نوح مغربية، قد تنقذ البلاد من الطوفان الإسلاموي القادم، عليها يتوقف مستقبل المغرب السياسي، الذي شاخت أحزابه التقليدية وترهلت بنياتها، ولم يعد بمقدورها التصدي للزحف الأصولي بشقيه، المعتدل والمغالي.. غير أن الوزير خالد الناصري ليس معنيا بهذا بشكل مباشر، قد يكون معنيا به بكيفية غير مباشرة، نظرا للمنصب الحساس الذي يشغله في حكومة عباس الفاسي كناطق رسمي باسمها، يجتر أسبوعيا شريطا لغويا روتينيا حفظه الشعب عن ظهر قلب، وكلما حاول الاجتهاد لتحسين خطابه، فإنه لسوء حظه “يطبز لأمها العين” حسب التعبير الشعبي، فيسقط في فلتات لسان قاتلة، تنعكس سلبا على سمعة الحزب الذي ينتمي إليه... نحن نعلم أن الفشل في السياسة هو نتاج لتراكمات عدة، وهو بهذا شبيه بالموت المادي، لا يأتي هكذا فجأة دون مقدمة أو مقدمات.. إنه بقياس القياس موت معنوي معلن، يستوجب النعي وتقديم التعازي، في كل شخص مارس السياسة عن ترصد وسبق إصرار، وفشل فيها فشلا ذريعا، كما هو حال صاحبنا فؤاد عالي الهمة، الذي قطر به السقف فجأة فأمطر ضوضاء وضجيجا وجلبة وجعجعة، فتحول في ظرف وجيز لا يتجاوز أربع سنوات، من رجل عادي جدا إلى رجل فزاعة، كانت تكفيه بضع حناجر وبضع لافتات عليها بضع كلمات لينكمش ويتكمش ويطأطأ رأسه ويقص ريشه ويخرج من المورد بلا حمص، كما يقول إخواننا المصريون.. حقا، يوجد في مغرب هنا والآن من يجب أن تقدم إليهم أسمى عبارات التعازي والمواساة، بخصوص ما جرى لهذا الرجل الذي انكسرت أحلامه في الزعامة.. إنهم شركاؤه المباشرون الذين لعبوا معه اللعبة منذ بدايتها، وعلى رأسهم الشيخ محمد بيد الله، الحارس العام لخيمة الأصالة والمعاصرة، والسيد حسن بنعدي، فراش الخيمة والساهر على نظافتها، والسادة الحراس العامون الجهويون الذين هبوا هبة رجل واحد لدق أوتاد الخيمة، قبل أن تشتد عليهم الريح فيتفرقوا في اتجاهات مختلفة.. ناهيك عن جحافل الانتهازين والوصوليين و”القالبين لمعاطفهم” وأبناء السبيل والمؤلفة قلوبهم والعاملين عليها، الذين غادروا أحزابهم الأصلية من دون إنذار سابق، بحثا عن صدقات جارية أومكاسب آنية، تدفع عنهم صهد القضاء وحرقة المحاسبة..دون أن ننسى طبعا، حفنة اليساريين الراديكاليين الماركسيين اللينينين التروتسكيين الماويين الغيفاريين، الذين خرجوا من قاع الأرض يبحثون عن بؤرة ثورية، يسخرونها قاعدة لتوزيع أحلامهم الطوباوية، فلم يعثروا لسوء حظهم سوى على بؤرة رجعية، وضعتهم جنبا إلى جنب مع عتات الكراكيز المخزنية، الذين انتهت مدة صلاحيتهم بانتهاء صلاحية ولي نعمتهم، المرحوم إدريس البصري من وزارة الداخلية.. هولاء، هم في واقع الأمر أولى الناس بتقبل التعازي فيما جرى لعرابهم، ليس لأنهم راهنوا على حصان سقيم عليل بلغة سباق الخيل، فخسروا الرهان بما فيه ومن فيه، ولكن، لكونهم وقعوا في ما وقع فيه الغراب الذي أراد تقليد مشية الحمامة، فنسي مشيته الأصلية حسب منطوق القصة الشعبية الشهيرة.. وها هم الآن كالأيتام في مأدبة اللئام، يستحقون أن يجللوا بالمواساة والتعازي، دفعا للذي قد يأتي والذي قد لا يأتي.. الوزير خالد الناصري هو أيضا رجل يساري، تقدمي، ملم بقواعد اللعبة، لكنه ليس من طينة اليساريين القدامى، الذين استقطبهم الهمة عندما كان في أوج عظمته السياسية، يعد العدة من دون أن يقول إن شاء الله، لجمع “الحب والتبن” خلال الانتخابات المقبلة، إلى أن أصابته حركة 20 فبراير في مقتل، ودفعه الإحباط إلى “سل” خيوطه في صمت، بعيدا عن الأضواء الكاشفة وكاميرا القناة الثانية، التي بشرت وقتها المغاربة بقدومه كوافد جديد على الحياة السياسية، مندور لخدمة وطنه وملكه.. ولهذه الأسباب، فالوزير خالد الناصري ليس معنيا مباشرة بالموت السياسي الذي أصاب هذا الرجل على حين غرة، وهو لم يكمل بعد عقده الأول، ولكنه معني ربما بشيء آخر لم نعثر عليه بعد، ولكننا سنحاول تقليب الأوراق والمواجع، بدقة وعشق وأريحية، ونحن ننبش في عمق ذاكرتنا الجمعية، التي تختزن بعضا من ذكرياتنا المشتركة في درب النضال الطويل العسير، أملا في استجلاء حقيقة تلك الصورة الزاهية لمعالي الوزير، التي نطت أمامي عندما تهادى إلى سمعي نبأ استقالة فؤاد عالي الهمة من مهامه الحزبية، وإعلان انسحابه من الحياة السياسية، فبدا لي فيها نشوانا منشرحا تفيض عيناه فرحا وارتياحا، يتكلم لغة غير لغته المعهودة، المقدودة من خشب الأرز، لغة لينة رطبة رخوة معفرة بنزر يسير من أدب الحوار.. نعم، قد تكون هذه الصورة مجرد تهيؤات من نسج خيالي المريض، وقد تكون صورة حقيقية لها مبررات واقعية، تختزنها ذاكرتنا الجمعية، المثخنة برواسب الماضي القريب وبتراكماته السلبية، كتب لها أن تخرج من ديجور العدم بيضاء ناصعة ناطقة معبرة، في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب، حيث الحقيقة تثأر لنفسها وتتأهب لبسط سلطانها على الجميع دونما استثناء، فمن عمل مثقال ذرة خيرا يره ومن عمل مثقال ذرة شرا يره، وأظن، أن السيد فؤاد عالي الهمة بعد أن هوى ووقع، سيرى خير ما فعل وشر ما فعل، وسيعرف من كان يحبه لذاته، ومن كان ينافقه لمركزه، ومن كان يصارحه بحقيقته حتى وهو في أوج سطوته.. والوزير خالد الناصري، الذي نطت صورته أمام عيني دون إذن مني، في تلك اللحظة التاريخية التي عرفت انهيار “مشروع المهمهمين”، ما هو إلا واحد من الأطر المتنفذة، المنتمية لمختلف الأحزاب، والتي كانت تخشى على مستقبلها السياسي من فزاعة الهمة..وكان من الطبيعي أن تنتفض بداخلها غريزة حب البقاء، فتتنفس الصعداء وتضحك ملء أشداقها من الصباح إلى المساء.. يصدق فيها ما قاله شاعر جاهلي، وأظنه طرفة بن العبد للقنبرة: خلا لك الجو فبيضي واصفري *** قد رفع الفخ فماذا تحذري انقري ما شئت أن تنقري *** قد ذهب الصياد عنك فأبشري