حرصا منها على توسيع دائرة التفكير والنقاش حول قضايا الإسلام والمسلمين في العالم المعاصر، واهتماما منها بالتطور الحاصل في الفكر الإسلامي، تنظم مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد للعلوم والثقافة كل سنة، خلال شهر رمضان الكريم، «منتدى الفكر الإسلامي» الذي يستقطب ثلة من المفكرين والباحثين المختصين، من المغرب ومن بعض البلدان الإسلامية. وقد استضاف هذا المنتدى في سنته الأولى العالم الفرنسي «جاك بيرك» الذي تحدث عن تجربته في محاولة ترجمة معاني القرآن الكريم .. أما الدورة الثانية من هذا المنتدى فقد اتسمت بمساهمة الأساتذة «محمد الطالبي»، المؤرخ التونسي المعروف، و«رضوان السيد»، أستاذ الفكر الإسلامي بجامعة بيروت، اللذان القيا عروضا قيمة حول حرية الاعتقاد، حقوق الاعتقاد، حقوق الإنسان والعدالة في الإسلام (العدد السادس من دفاتر المؤسسة) تميزت السنة الثالثة "لمنتدى الفكر الإسلامي" بحضور الباحث والمفكر التونسي الشهير الأستاذ هشام جعيط. أما الدورة الرابعة لهذا المنتدى، فقد استضافت الدكتور المهندس السوري «محمد شحرور». تحدث الأستاذ شحرور، من خلال محاضرتين عموميتين، عن آخر نتائج أبحاثه حول المواضيع التالية: - "المعرفة العقلية والفلسفية الإسلامية المعاصرة" اعتمادا على مؤلفه "الكتاب والقرآن قراءة معاصرة" ( 1990 ) و"معنى الإيمان الديني في مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد منتدى الفكر الإسلامي 2 الإسلام" من خلال قراءة في كتابه "الإسلام والإيمان: منظومة القيم" (1996) وقد كان هذان اللقاءان العلميان مناسبة لتعميق النقاش حول أهم القضايا المطروحة بين الأستاذ المحاضر وبعض الأساتذة المغاربة الأجلاء: المختار بنعبدلاوي، أحمد الخمليشي ومحمد المرابط. وتعميقا للفائدة، نعمل اليوم على نشر مجمل تدخلات السادة الأساتذة. أفتتح مداخلتي هذه بفقرة للأستاذ برهان غليون، من كتابه "اغتيال العقل" يقول فيها: "إن كل ثورة فكرية تبدأ من تحرير المفاهيم من سياقاتها الماضية، ودمجها في سياقات وإشكاليات جديدة، فتتخلص من مدلولاتها السابقة المرتبطة بخبرة زائلة، لتصبح مركزا لبلورة وتخزين خبرة جديدة. فليس هناك مفاهيم أو مقولات ثابتة المعنى وأبدية، وإنما تأخذ مدلولات ومعان جديدة ومتجددة، كليا أو جزئيا، حسب المناخ الاجتماعي الذي يحيط بها، والحقل المعرفي الذي توظف فيه، والمنظومة الفكرية التي تستوعبها. وتجدد الأفكار والمفاهيم نابع من تجدد الإشكاليات والمسائل النظرية". حقل الفلسفة هو عالم المفاهيم، وحقل العلوم هو عالم الوظائف، وحقل الفنون هو عالم الأحاسيس. هذه الحقول ليس بينها حواجز صماء، بل بينها منافذ تأثير وتأثر متبادل. فالعلوم ترتبط ارتباطا مباشرا بالفلسفة، وتؤثر تأثيرا مؤكدا على المفاهيم وصياغتها، وكذلك الفنون ترتبط ارتباطا مباشرا بالفلسفة فتتداخل معها في تحديد مفاهيم الجمال. فإذا ما أردنا الكلام عن الفلسفة الإسلامية المعاصرة والمعرفة العقلية وصياغتها فما علينا إلا الدخول في عالم المفاهيم، وإذا ما أردنا الدخول إلى عالم المفاهيم، فما علينا إلا أن نأخذ الكتاب الأول والوحيد - التنزيل الحكيم - وندخل إلى مفاهيمه بنظرة عقلية وعلمية معاصرة. آخذين بالحسبان أن تحديد المفاهيم له علاقة عضوية باللغة. نأخذ على سبيل المثال مفهومين من المفاهيم الواردة في التنزيل الحكيم لنحددهما، وهما: 1 . مفهوم القضاء والقدر وهل كل شيء محدد مسبقا (العقيدة الجبرية) ؟ وهذا يتبع حقل المعرفة العقلية ( الجبر والاختيار ). 2 . مفهوم التطور وهذا ينبع من علاقة مباشرة بالعلوم وتطورها، وبالتشريع وتطوره (ويدخل في هذا الحقل مفهوم العناية الإلهية عند الأشعري وقانون السببية). يعتبر هذان النموذجان من أخطر المواضيع التي عالجتها القروسطية، وتحتاج إلى إعادة نظر معاصرة، نظرا لتأثيرها المباشر على تكوين العقل العربي الإسلامي السابق والمعاصر. وبما أننا ندخل في عالم المفاهيم، المرتبط ارتباطا مباشرا باللسان (اللغة) وعلم الدلالات، فما علينا إلا أن نعود إلى الذكر الحكيم، الكتاب الأساسي لصياغة الفكر العربي الإسلامي بشكل عام، ومن ثم إعادة قراءته، مستخدمين المصطلحات الأساسية الواردة فيه، والتي وظفت ضمن خبرات سابقة، وإعادة صياغة مفاهيم هذه المصطلحات ودلالاتها، ومن ثم توظيفها في منظومة فكرية متسعة معاصرة. لقد تمت صياغة دلالات هذه المصطلحات ضمن مفاهيم سابقة، في إطار منظومة فكرية بيانية أو عرفانية، اعتمدت مبدأ البيان الذي اعتنى بشكل مباشر بالحقل الجمالي (الفني) للتنزيل الحكيم، وعاملت هذا التنزيل معاملة الشعر، واعتمدت على المبادئ / المنطلقات التالية: 1 الترادف في اللغة، وبالذات في اللغة العربية الغنية بالمترادفات. وقد اعتمد هذا المبدأ سيبويه والأصمعي من علماء اللغة، والإمام الشافعي مؤسس الفقه الإسلامي السني. وصار للقول بالترادف مدرسة وقعت في الأمور التالية: أ الحشوية والتكرار: فالحشوية وجود حروف زائدة في زعمهم لا عمل لها ولا معنى، كوقوع (ما) بعد (إذا) كما في قوله تعالى «.. ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا..» البقرة 282 . أما التكرار فتفسيرهم لقوله تعالى في سورة الزخرف «حم * والكتاب المبين* إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم *أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين» فالكتاب هو القرآن، والقرآن هو القرآن والذكر هو القرآن (أنظر الدر المنثور للسيوطي). والدكتور محمد على الصابوني في كتابه «النبوة والأنبياء» يرى تكرار القصص القرآني بعدد من السور دلالة على الإعجاز الذي يروي القصة الواحدة بصياغات مختلفة ويعلق قائلا «انظروا إلى هذا الإعجاز» ، فينقل الدكتور الصابوني الترادف من مستوى المفردات إلى مستوى التراكيب والجمل والعبارات أيضا. ب العبثية: وهو الخبر الصادق ولكن غير المفيد. كقوله تعالى «فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك» فاعتبروا النساء هنا إناثا، غافلين عن أن الآية تحوي ثلاث علامات للتأنيث: (كن) و(اثنتين) و(لهن ). ولو كان الحكم يعني الإناث كما فهموا لصارت كلمة (نساء) حشوا يمكن الاستغناء عنه دون أن يختل المعنى. وكقوله تعالى ( إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) إذ اعتبروا الجعل هنا إيجادا، والقرآن لغة عربية، ليست انكليزية ولا ألمانية، غافلين عن أن نوعية اللغة لا تدعو إلى التفكر والتعقل. ج المصداقية الداخلية: ونقصد بها داخل التنزيل الحكيم، التي تنفي التعارض بين آية وآية أخرى، وتحافظ بوجودها على الانسجام بين الآيات ذات الموضوع الواحد. الأمر الذي تفتقده بعض التفاسير، كما في المثال التالي: «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر . متشابهات..» آل عمران 7 . « وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم » الزخرف 4 . - « بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ» البروج 21،22 - « والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه .. » فاطر 31 فأم الكتاب في آل عمران هي الجزء المحكم من الكتاب المنزل.. وأم الكتاب في الزخرف هي اللوح المحفوظ.. وأم الكتاب في البروج هي القرآن الموجود في اللوح المحفوظ.. ثم يصبح الكتاب في فاطر هو اللوح المحفوظ .. وتضيع المصداقية الداخلية. د المصداقية الخارجية: ونعني بها انطباق آيات التشريع والكون والقصص على الواقع الموضوعي الاجتماعي والكوني والتاريخي. فعلينا أن نبحث ونحن ننظر في آيات الإرث أو التعددية الزوجية او طوفان نوح وفلكه، لنرى حقيقة (صدق الله العظيم) أثناء القراءة، وليس بعد أن ننتهي من التلاوة فقط. وهذا لايتم إلا بتحقق المصداقية الداخلية والخارجية للآيات. ه إغفال قانون التطور: فاللغة توقيفية، وآدم هو أبو البشر والإنسان ووالدهم، الأمر الذي أدى إلى القول بالنسخ في التنزيل الحكيم، هربا من تناقض صريح وقعوا فيه من مثل قوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) آل عمران 19 . وقوله تعالى «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابين من آمن بالله واليوم الآخر..» البقرة 62 . فاعتبروا الإسلام خاصا بأتباع محمد (ص)، مما اضطرهم إلى نسخ آية البقرة لذكرها أقواما ليسوا من أتباعه. علما بأن القول بالنسخ نفي للمصداقية الداخلية في التنزيل الحكيم. يقول تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة 106 . وحين نفترض أن النسخ واقع بحسب الآية داخل التنزيل، تفقد الآية مصداقيتها الداخلية، لأننا لا نجد في التنزيل الحكيم آيتين في الأحكام متماثلتين تماما. لقد أدى رفض أطروحة التطور أيضا إلى فهم سكوني لحركة التاريخ، والى إلغاء جدلية الآيات وجدلية الفهم، مما جعل الإسلام في الأطروحات التراثية إسلاما طوباويا، ومازال إلى الآن يطرح بشكل ليس له ما يقابله في الواقع، كما لو أن الإسلام جاء للملائكة وليس للبشر. علما بأن الإسلام يقوم على جدليات (الحسنة والسيئة - الطاعة والمعصية - الخطأ والصواب الخير والشر الحق والباطل )، وهي جدليات ملتحمة عضويا مع سكان أهل الأرض قاطبة. من هنا، فإننا نفهم أن تقوم مسألة " إعادة صياغة المفاهيم " على الأسس التالية: 1 . مسلمة الإيمان بالله واليوم الآخر (الإسلام). 2 . مسلمة أن محمدا رسول الله، وأنه الخاتم، وأن الكتاب وحي من الله إليه في النص والمحتوى. وماعدا ذلك ليس من المسلمات، بل تخضع للاستقراء العقلي 3 . إلغاء الترادف في التنزيل الحكيم في المفردات وفي التراكيب اللغوية. فإذا قبلنا الترادف في الشعر أو الخطابة، فإننا لا نقبله في التنزيل الحكيم، وعلينا أن ننظر في جانبه النيوتوني، لا في جانبه الشكسبيري فقط. أي أن لغة التنزيل الحكيم لغة علمية لا تقبل الترادف ولا العبث ولا الحشوية. فالله الذي صنع الكون بهذه الدقة، هو نفسه الذي أنزل التنزيل، ولا يمكن عقلا وانطلاقا من وحدة الناموس أن تكون صياغته أقل دقة من صناعته. 4 . النظر إلى المصداقية الداخلية في آيات التنزيل الحكيم، أي إزالة التناقض الداخلي فيها. كالتناقض فيما أوردناه أعلاه من أمثلة. إذ لا تضاد ولا تناقض في التنزيل الحكيم، وإنما هي حقول مختلفة للتوظيف. مثال ذلك الفرق بين البعل والزوج في التنزيل الحكيم، فالبعل جاء لحقل معرفي وتوظيف اجتماعي والزوج جاء لحقل آخر وتوظيف آخر. 5 . النظر إلى المصداقية الخارجية في آيات التاريخ والكونيات والتشريعات. ففي آيات القصص القرآني ( الجانب التاريخي )، صار لدينا الآن علوم مساعدة على النظر في المصداقية الخارجية للآيات مثل علم الآثار والمكتشفات الآثارية وعلم الاجتماع وعلم قراءة المخطوطات وعلم الانتروبولوجيا وعلم الاركيولوجيا اللغوية (الكلمات والأشياء لفوكو). وبمساعدة هذه العلوم قام الدكتور كمال صليبي والدكتور سيد محمود القمني بإعادة قراءة التوراة، ووصلا إلى نتائج مذهلة في كتابيهما "التوراة جاءت من شبه جزيرة العرب" و "إبراهيم والتاريخ المجهول". وتوصلا بشكل منفصل إلى نفس النتائج تقريبا، التي تم توظيفها في الحقل السياسي، لإثبات أن بني إسرائيل من الشعوب العربية البائدة، وأن إبراهيم لم يقم أصلا في فلسطين بل في شبه جزيرة العرب. أما في الأحكام كالتعددية الزوجية والإرث، فإن علينا أيضا أن نجد مصداقيتها في العالم الاجتماعي الموضوعي الآن مع مراعاة أطروحة التطور. فمصداقية التنزيل الحكيم اليوم هي نفس مصداقيته في القرن السابع، لكن أهل القرن السابع ليسوا نفس أهل القرن العشرين. إذ ثمة تطور اجتماعي تاريخي حصل في هذه الفترة، وإذا لم نأخذ هذا التطور بعين الاعتبار، وقعنا في حالة العدمية، التي تقع فيها الطروحات السلفية الآن. فهناك دالات في التنزيل الحكيم كان لها مدلولات في عصر النبوة، ثم اختفت هذه المدلولات الآن، كملك اليمين الذي فهموه سابقا على أنه الرق، وفهموا طبقا لذلك أن العبد والأمة خلاف الحر والحرة، وكانوا على الأقل منسجمين مع أنفسهم. فهناك حقل معرفي ومنظومة فكرية وواقع اجتماعي استوعب هذه المصطلحات وأوجد مدلولاتها في عالم الواقع، وبهذا كانوا منسجمين مع أنفسهم. أي أن المدلولات تطابقت عندهم ضمن منظومتهم الفكرية وواقعهم مع دالاتها. لكن بعد ذهاب هذه المدلولات عن العالم الموضوعي، بقيت دالاتها في التنزيل الحكيم تدور في فراغ. وحصل ما يسمى بالنسخ التاريخي، وهو ما أسميه "حالة العدم". فالعدمية كما أراها، هي فقدان الدالات لمدلولاتها. أي عندما نخطب في المساجد والمهرجانات الخطابية، ونقول كلاما لا يوجد ما يقابله في العالم الموضوعي نقع في العدمية. وهذه الحالة بالذات أوصلتنا إلى القول بأن كل الناس في الدنيا قليلي دين - إلا من رحم ربك - وأن الإسلام في خطر، وأنه لابد من ثورة لتطبيق الإسلام لأن الناس ابتعدوا عنه. كل ذلك لارتباط الإسلام عندهم بخبرة زائلة، وبواقع موضوعي غير الواقع الذي نعيشه، فأصبح الإسلام معلقا بين السماء والأرض، بسبب إهمال أطروحة التطور من الأذهان. فالناس عندهم في عصر النبوة هم نفس الناس في القرن العشرين، والنظم الفكرية والحقل المعرفي، وبالتالي الواقع الاجتماعي الذي تعمل فيه هذه النظم والحقول، عند أولئك يجب أن يكون نفس الواقع الاجتماعي الذي نعيشه الآن، ولذلك يجب تطبيق ذات النظم والحقول ولو بالقوة، وهذه هي عين السلفية وعين العدمية، التي لم يكن الإسلاميون هم الوحيدون الذين وقعوا فيها، بل وقع فيها غيرهم أيضا كالماركسيين مثلا. أخيرا نقول إذا أردنا أن نفهم المصطلح القرآني للعبد والأمة وملك اليمين الآن، فعلينا أن ننظر إلى الحقل المعرفي والمصداقية الموضوعية التي تطابق هذه الدالات مع الواقع. 6 . في آيات الكونيات، علينا أن نعي أنها جاءت للإخبار، ولتقديم حل لمشكلة تعتبر من المشاكل الكبرى في الفلسفة، هي الوجود في الأعيان وصور الموجودات في الأذهان. أو كما قال كانت: الشيء لذاته والشيء لنا. إن التنزيل الحكيم ليس كتابا في تصميم الصواريخ أو الغواصات، وليس كتابا في الطب أو المضادات الحيوية بل هو آيات كونيات تطرح نظرية المعرفة الإنسانية، وأصل الإنسان، ونظرية التطور، والقوانين العامة للوجود، وقوانين التاريخ في القصص. ولقد تبين لي من دراستي لهذه الآيات أن نظرية المعرفة في التنزيل الحكيم نظرية مادية. أي أن الوجود يسبق الوعي بالنسبة للإنسان، أما بالنسبة لله فقط فالوعي يسبق الوجود. وهذا ما نطرحه تحت مفهوم علم الله، وأن الله خلق الوجود من عدم. أي أن الوجود كان في علم الله دالات بدون مدلولات (العدم). ثم بعد الخلق والإبداع، الذي هو كلمات الله، تطابقت الدالات مع المدلولات (الوجود من العدم). ومن أطروحة التطور ظهرت قوانين الجدل المادي، ومن أطروحة تطور الإنسان ظهرت قوانين جدل الإنسان (الفكر). أما آيات الغيب، كالبعث والساعة والحساب والجنة والنار، فهي آيات غيبية تفهم عقليا - وجوديا. وأقصد بهذا أن التنزيل الحكيم استعمل قاعدة الاستقراء من الجزئي المشخص المعروف إلى الكلي المجرد المجهول. فعندما برهن على البعث، وهو قانون كلي غيبي، أورد قانونا جزئيا ماديا موضوعيا، واستدل منه بالاستقراء على البعث. وذلك في قوله تعالى ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة . مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم..) الحج 5 من هذه الأسس تم طرح مفهوم الإعجاز في التنزيل الحكيم وهو: أ- أن التنزيل الحكيم حوى النظام البياني (البديع / عالم الأحاسيس) جنبا إلى جنب مع النظام البرهاني (العلوم / عالم الوظائف)، وفي آن واحد معا. أي أنه حوى شكسبير ونيوتن في نص واحد، وكل منهما استوفى شروطه كاملة وليس على حساب الآخر. فجماله وبديعه ليس على حساب دقته، ودقته ليست على حساب جماله وبديعه. فشكسبير لا يستطيع أن يصوغ قوانين نيوتن في نص أدبي دون أن يهمل الدقة المتناهية فيها. وكذلك نيوتن لا يستطيع أن يصوغ قوانينه في قالب أدبي يراعي كل الجماليات البديعية دون أن تفقد قوانينه دقتها. وكذلك المتنبي ونزار قباني وأحمد شوقي، لا يستطيع أحدهم أن يساعد لجنة من القضاة في صياغة قانون عقوبات أو دستور دولة أو قانون للأحوال الشخصية. ولم يخطر أبدا على بال لجنة من هذا النوع، في بلد عربي أو غير عربي، أن تستعين بشاعر يساعدها على صياغة القوانين. بما أن التنزيل الحكيم هو الكتاب الخاتم، ومحمدا (ص) هو الرسول الخاتم ولا رسالة بعده، فإن صياغة التنزيل كانت جدلية، أي ثبات النص وحركة المحتوى. أي أنه صالح لأن تطبق عليه مختلف النظم المعرفية وحقول التوظيف طبقا لتقدم النظم والمعارف الإنسانية. فإذا احتمل النص توظيف آية ما ضمن خبرة زائلة لا يوجد ما يقابلها في الواقع، فإن الواقع الجديد يفرز مفاهيم جديدة ضمن خبرة عملية واقعية لتوظيف هذه الآية. أي أنه ليس هناك قراءة واحدة للتنزيل الحكيم، وإنما هي قراءة ضمن حدود الزمان والمكان والنظم والأرضية المعرفية للقارئ بالنسبة لآيات القصص والكونيات، وفي حدود التوظيف الاجتماعي الموضوعي القائم فعلا بالنسبة لآيات الأحكام. فهناك جدلية النص والمحتوى مع جدلية النظام المعرفي المتبع وحقل التوظيف العلمي والاجتماعي. وبدون هذه الخاصية تصبح خاتمية التنزيل الحكيم وصلاحيته لكل زمان ومكان ليس لها أية مصداقية في الحياة، ولا .MARKETING مجرد أطروحة تسويقية حل لهذه المشكلة إلا بالإكراه والقوة والاستبداد. ثمة فرق كبير بين آيات الأحكام في التنزيل الحكيم كشريعة، وبين فقه إسلامي تاريخي، يحمل مفهوم نسبية المعرفة ومحدودية النظام المعرفي المتبع، طبق على مجتمع زائل كحقل توظيف لهذا الفقه. إن الطامة الكبرى هي في أن ننظر إلى آيات أحكام الله في التنزيل وإلى الفقه الإسلامي الذي وضعت أسسه في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، على أنهما أمر واحد. وهذه مشكلة غير قابلة للحل إلا بالإكراه والعنف، مما يفقد الإسلام خاصيته الأساسية وهي الفطرة والحنيفية. وانطلاقا من هذه الأسس، قمت بدراسة بعض مواضيع التنزيل الحكيم. ولكن كان لزاما علي، قبل ذلك، أن أحدد المفاهيم الأساسية في التنزيل الحكيم، التي بدونها لا يمكن التقدم بأية دراسة لأي موضوع. هذه المفاهيم الأساسية هي التي تحدد بمصطلحاتها المفتاحية بنية التنزيل الحكيم. -1 الكتاب 2- القرآن 3- الفرقان 4- الذكر 5- أم الكتاب 6- الإمام - المبين 7- اللوح المحفوظ 8- السبع المثاني 9- الألوهية 10 - الربوبية 11 الإنزال والتنزيل 12 - الكلمات والكلام 13 - الرسالة والنبوة 14 - الإسلام -15 الإيمان. من هذه الأطروحات تبين لنا معنى القضاء والقدر، والحرية، والجبر والاختيار، وظهرت أطروحة التطور بأوضح صورها. فمن أطروحة الكتاب ومعنى الكتاب خلصنا إلى المعاني التالية: -1 الكتاب: فالكتاب هو تجميع عدة عناصر بعضها لبعض، لإخراج معنى مفيد أو موضوع جديد من هذا التجميع غير موجود في كل عنصر على حده، مثلما نجمع ذرة أوكسجين مع ذرتي هيدروجين فينتج ذرة ماء، لها خصائص جديدة غير موجودة في الأوكسجين على حده أو في الهيدروجين على حده. وكذلك حين نجمع كلمة (جاء) مع كلمة (الرجل ) مع كلمتي (الى البيت) ينتج معنى جديد غير موجود في كل كلمة على حده. ورحم الله الجرجاني لقوله "إن اللغة لا تعني الكلمات المفردة وإنما هي النظم" أي ارتباط الكلام بعضه ببعض. ولهذا فنحن نسمي التنزيل الحكيم (كتاب الله)، ولا نسمي المخطوط في المصحف (خط الله). فالكتاب في اللغة هو التأليف وليس الخط. ورسالة النبي (ص) إلى كسرى نسميها (كتاب النبي إلى كسرى)، هو الذي أملاها ولكنه لم يخطها. من هنا نفهم أن الكتاب هو مجموعة المواضيع التي أوحاها الله إلى محمد (ص) في النص والمحتوى، وهو الذي يتألف من أول سورة الفاتحة إلى آخر آية في سورة الناس، وفيه نبوة محمد (ص) ورسالته. وبهذا نفهم قوله تعالى: . - ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) النساء 103 - ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا.. ) آل عمران .145 . - ( .. لكل أجل كتاب ) الرعد 38 فالصلاة بعناصرها من وضوء وقراءة وقيام وركوع وسجود كتاب موقوت له وقته المحدد، فنحن اليوم نستطيع أن نحدد صلاة العصر في الرباط بتاريخ 8 شباط 1988 . لذا قال ( كتابا موقوتا ). أما الموت فهو كتاب مؤجل، أي أن الموت مؤجل حتى تتحقق عناصره المادية الموضوعية، التي إذا اجتمعت فالموت لا محالة متحقق. لذا قال ( لكل أجل كتاب ). الموت كتاب مؤجل، إذا تحققت عناصر هذا الكتاب، فالموت لا محالة حاصل. وهذا هو حقل علوم الطب ومعاهد أبحاثه في العالم، تأجيل تحقيق هذا الكتاب، وتأجيل اجتماع العناصر التي إذا اجتمعت أدت إلى الموت حتما. وهذا يلغي مفهوم ثبات الأعمار. ولكي يبين التنزيل أن كل شيء في الوجود عبارة عن كتب، وعن مجموعة عناصر إذا تحققت حصل الشيء حكما، فقد قال تعالى ( وكل شيء أحصيناه كتابا ) النبأ 29 . وهذه الآية تعطينا قوانين السببية بأبهى صورة، وارتباط الأسباب بالمسببات ارتباطا لا انفصام فيه. وهذا يلغي بشكل كامل مفهوم العناية الإلهية عند الأشاعرة، هذا المفهوم الضبابي الذي جعل من قانون السببية قانونا هلاميا مطاطيا، وأفسح المجال، في الفكر العربي الإسلامي، أمام أمرين في منتهى الخطورة، هما: -1 مفهوم الخوارق الذي يعتبر العمود الفقري للنظام العرفاني. -2 مبدأ التجويز لكل شيء فان قلت لإنسان أشعري، وما أكثرهم، بأن هناك طرحا ينتج عنه أن الشمس مكعب وليست كرة، أو أن الشمس باردة وليست حارة، أجابك بمنتهى الهدوء: يجوز ذلك. وهذه إحدى مساوئ العقل العربي الإسلامي. لقد درس الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري مبدأ التجويز بشكل مستفيض في كتابه "بنية العقل العربي". هذا التجويز الذي حكم عند البعض علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة. قال تعالى في كتابه الكريم: - ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير *لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم . والله لا يحب كل مختال فخور ) الحديد 22،23 ونفهم أن كل ما يحدث في الكون من حادثات، كحادث المرور مثلا، إنما هو في كتاب من مجموعة عناصر موضوعية حصلت واجتمع بعضها مع بعض فأدت إلى الحادث، إما من الطريق أو من السيارة أو من السائق أو من عارض عرض لأحد هذه العناصر، أو من كل ذلك مجتمعا. كما نفهم أن كل كتاب قابل لأن يدرس من خلال عناصره. هذا الفهم للكتاب، يلغي آليا مفهوم العلاقات والأحداث المكتوبة سلفا منذ الأزل بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة، ويلغي مفهوم القدر المسبق المتمثل في قول العامة: ياللي مكتوب على الجبين لازم تشوفو العين. وقولهم: المكتوب مامنو مهروب. -2 القرآن: هذا الكتاب الموحى إلى محمد (ص) يحتوي على شقين اثنين: النبوة والرسالة. أما النبوة فهي من نبأ، وهي الصيغة الإخبارية، وتحتمل التصديق والتكذيب. وقد جاءت في التنزيل الحكيم ضمن بنود السبع المثاني، والقرآن، وتفصيل الكتاب. يقول تعالى: . «ولقد أتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم» الحجر 87 «الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون . ربهم..» الزمر 23 «وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه . وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين» يونس 37 «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هو أم الكتاب وأخر . متشابهات..» آل عمران 7 . - «إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون» يوسف 2 فآيتا الحجر ويونس تحددان البنود الثلاثة الواردة في التنزيل الموحى، وهي السبع المثاني والقرآن وتفصيل الكتاب. وآية آل عمران تقسم آيات التنزيل إلى قسمين: محكمات ومتشابهات. فأما المحكمات فهي آيات الأحكام التي تبين الحدود في مجال الأمر والنهي (إفعل ولا تفعل) وليست آيات الإحكام كما فهم البعض، إذ الإحكام صفة عامة تشمل كل آيات الذكر الحكيم بكل تقسيماتها، والقول بهذا خطير يخرج الآيات المتشابهات من دائرة الإحكام. وأما المتشابهات فهي القرآن والمثاني، التي يقشعر منها جلد المؤمن بالله حين يسمعها، لما فيها من أنباء الغيب والقدرة الإلهية وقوانين الوجود، وهو ما تشير إليه آية الزمر. ولكن هذه الآيات بذاتها التي تفصل وتقسم وتسمي الأقسام بأسمائها، ليست من المحكمات ولا من المتشابهات، وآية يوسف خير مثال على ذلك، بل آيات إخبارية من قسم ثالث هو تفصيل الكتاب الذي أشارت إليه آية يونس. من هذا كله نصل إلى القول بأن شق النبوة، شق إخباري يحدثنا عن العالم الموضوعي والتاريخي القائم خارج الوعي الإنساني، ولهذا قال عنه تعالى إنه حق. فالموت حق والساعة والبعث حق، والجنة والنار نقول إنها جميعا حق، ولا نقول الجنة حلال والنار حرام. ونبوءة القرآن في التنزيل واقعة وستتحقق علم بها الخلق أم لم يعلموا، رضوا بها أم لم يرضوا. ومن هنا نقول إن القرآن حق، نزل ليفرق بين الحق والباطل في الوجود، وإنه الجانب الموضوعي من الكتاب المنزل. أما الرسالة فهي، كما قلنا، الآيات المحكمات في مجال إفعل ولا تفعل، علينا أن نعلم بها أولا، ثم نقبل بها ثانيا. وآيات افعل ولا تفعل في السلوك الواعي الإنساني هي موضوع رسالة محمد (ص)، وهي أم الكتاب التي تحمل الصفة الذاتية، فنعلم بها ونوافق عليها لنقوم بتأديتها. وإذا كان القرآن بآياته المتشابهات يصف الجنة والنار، فإن أم الكتاب بآياتها المحكمات تدلنا على الطريق الإنساني الواعي الموصل إلى الجنة أو إلى النار. ومن تقاطع آيات القرآن في التنزيل الحكيم، المنزل على محمد (ص) عن طريق الوحي الأمين (جبريل) نجد أن القرآن أتى من مصدرين: . أ اللوح المحفوظ: «بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ» البروج 22،23 . ب الإمام المبين: «.. وكل شيء أحصيناه في إمام مبين» يس 7 فاللوح المحفوظ فيه قوانين الوجود العامة الناظمة للكون كله، ومحتوياته ليست مناط دعاء، فالموت والبعث وشروق الشمس لا تتوقف ولا تلغى من أجل أحد ولا بدعاء أحد، أيا كان هذا الأحد. وكذلك قوانين التاريخ العامة. أما الإمام المبين فهو سجل أفعال الإنسان وأعماله، وسجل أحداث التاريخ بعد وقوعها. فالحدث الإنساني قبل وقوعه يدخل في عالم الممكنات، وبعد وقوعه يدخل في عالم الحتميات. والإمام المبين هو مناط العبرة والعظة، فقد سمي القصص بالكتاب المبين. ومن هنا فنحن نرى أن تسمية القرآن جاءت من أنه قرن معلومات اللوح المحفوظ مع معلومات الإمام المبين، ومن هذه المعلومات نقرأ ونقارن ونستقرئ، ولهذا يقول تعالى « فإذا قرأناه فاتبع قرآنه» . القيامة 18 أما آيات الأحكام والرسالة فليس لها علاقة لا باللوح المحفوظ ولا بالإمام المبين، وإنما جاءت من عند الله مباشرة، ولذا سميت أم الكتاب، ففيها الناسخ والمنسوخ بين الرسالات وتطورها، وذلك بقوله تعالى «يمحو الله ما يشاء . ويثبت وعنده أم الكتاب» الرعد 39 هذا الفهم والتصنيف يحل إشكالية أزلية القرآن، وأن كل شيء مكتوب منذ الأزل. فقوله تعالى ( وجاؤوا أباهم عشاء يبكون *قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) يوسف 16،17 ، يحكي عن حدث تاريخي حصل قبل البعثة النبوية بحوالي 2000 سنة، والآيات تحمل كلام أولاد يعقوب لأبيهم، الذي لا أزلية فيه من أي نوع، بل جاء بأمر الله من الإمام المبين. ننتقل الآن إلى مفتاح المعرفة الإنسانية كما ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى ( خلق الإنسان من علق ) العلق 2. فالعلق هو جمع الجمع من فعل علق - علقة - علاقات - علق. فالوجود خارج الوعي الإنساني مؤلف من مجموعة علاقات يتدافع بعضها مع بعض. علاقات فيزيائية وكيميائية وعضوية،وعلاقات جينية وبيئية.. وهكذا. وهذا بالنسبة للوجود خارج وعي الإنسان. أما بالنسبة لفهم هذا الوجود وآلية فهمه، فهو في قوله تعالى ( الذي علم بالقلم ) العلق 4. فآلية الفهم تكون بالتقليم، والقلم هو فرز الأشياء بعضها عن بعض. فالعين تقلم الألوان والأبعاد والأشكال، والأذن تقلم الأصوات، واللمس يقلم الحرارة والبرودة والخشونة والنعومة والقساوة والليونة. ثم ينتقل بعد ذلك إلى الفؤاد ليتم إدراكا مشخصا. ويأتي بعد ذلك الإدراك المجرد عن الحواس بالانتقال من الخاص إلى العام. وإلى استنتاج علاقة السببية وربط الأسباب بمسبباتها. وليس من العجيب أن نرى الوحي يبدأ بهذه الآيات، فبداية الوحي كان ( إقرأ ) والقراءة هي الفهم والإدراك والاستنتاج، وآليتها هي التمييز بالقلم. ومن هنا تظهر لنا النظرية المادية في المعرفة. -3 الذكر: من ذكر، وهو خلاف النسيان كما في قوله تعالى { قال أرأيت إذ آوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره.. } الكهف 63 . وهو النطق المباشر والصيغة المنطوقة للكتاب كله، كما في قوله تعالى ( وقال الذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك .. ) يوسف 42 . وقوله تعالى ( . فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ) الأنعام 118 ولما كان الذكر هو الصيغة المنطوقة للكتاب، وكان النطق إنسانيا، فقد قال عنه تعالى إنه محدث، وذلك في قوله تعالى ( وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ) الشعراء 5. ولهذا وصف القرآن بأنه ذي الذكر في قوله تعالى ( ص والقرآن ذي الذكر ) ص ا، ولهذا أيضا تعهد تعالى بحفظ الذكر في قوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) . الحجر 9 ، السبع المثاني قسم من أقسام التنزيل الحكيم كما رأينا في الحجر 87 والذكر فيها صيغة منطوقة شأنها شأن الكتاب كله، ولهذا نراها في فواتح السور آيات من الكتاب وآيات من الذكر الحكيم. وبما أنها مقاطع صوتية مثل ( يس ) و ( ألم ) فهي لا عربية ولا انكليزية ولا تركية، لأنها ليست لغة ولسانا، بل أصوات يتألف منها الكلام والإنساني، وليس فيها مقول قول. ولهذا لا نجد في التنزيل كله أن الكتاب عربي أو أن الذكر عربي، وإلا لفقد مصداقيته الداخلية، بوجود هذه الأصوات التي لا معنى لها في الذهن ولا في اللسان العربي. بل نجد في التنزيل أن القرآن عربي، في قوله تعالى «إنا أنزلناه قرآنا عربيا».. يوسف 2.، وأن أم الكتاب عربية في قوله تعالى «كذلك أنزلناه حكما عربيا».. الرعد 37 -4 الفرقان: هو مجموعة من التعاليم المشتركة التي جاءت إلى موسى وعيسى ومحمد (ص). وهو أركان الإسلام، ولهذا قال عن موسى ( وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ) البقرة 53 . وردت في التنزيل في ثلاث آيات 21 من سورة الأنعام، بدأها تعالى بخطاب أهل التوراة بقوله «تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم.. » الأنعام 151 . ثم أتبع الآيات الثلاث بعد أن عدد الوصايا العشر بقوله «ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة..» الأنعام 154 والفرقان الذي جاء إلى موسى وعيسى في قوله تعالى «ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان..» الأنبياء 48 . وفي قوله تعالى «وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان..» آل عمران 4، هو الفرقان الذي جاء إلى محمد (ص) في شهر رمضان بقوله تعالى «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان..» البقرة 185 . ونلاحظ بوضوح أن الفرقان في آية البقرة هو غير القرآن. والفرقان هو الصراط المستقيم بدلالة قوله تعالى بعد أن عدد الوصايا التسع «وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه».. الأنعام 153 . والصراط المستقيم هو المذكور في سورة الفاتحة بقوله تعالى «اهدنا الصراط المستقيم *صراط . الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» الفاتحة 6،7 هنا لابد من توضيح أن الذين يهتدون على الصراط المستقيم يكونون من الذين أنعم الله عليهم، وهم ذاتهم في نفس الوقت غير مغضوب عليهم وغير ضالين. بقي أمر واحد، هو كيف نفهم آيات التشريع في أم الكتاب، كالإرث والتعددية الزوجية والعقوبات ؟ أقول: نفهمها في ضوء أن كتاب موسى يحتوي على 613 بندا تشريعيا. وأن الكتاب عند موسى التشريع مضافا إليه الفرقان، كما في قوله تعالى «وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون». فعندما نقول أهل الكتاب لا نعني أهل التوراة والإنجيل حصرا بل نعني أهل الشريعة، بدلالة قوله تعالى عن عيسى بن مريم «ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل..» آل عمران 48 . ثم ننظر بعد ذلك فنرى أن هذه التشريعات انخفضت في رسالة محمد (ص) إلى عدد أقل من هذا بكثير، مما نفهم معه تطور التشريع على خط التاريخ بالرسالات لا برسالة واحدة. إن ميزة التشريع الإسلامي أنه انتقل من مرحلة المشخص العيني إلى مرحلة المجرد العقلي. أي أن تشريعات موسى كثيرة لأنها عينية، بينما تشريعات الرسالة المحمدية تجريد عقلي، وهذا ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان. والتجريد في الرسالة المحمدية يقوم على مبدأ الحدود، أي أنه سبحانه أعطانا في الرسالة المحمدية حدود التشريع لا عين التشريع. لذا فإن السلوك والاجتهاد الإنساني باختلاف الظروف الموضوعية، الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية، تتحرك ضمن حقول الحدود التي حددتها هذه الحدود. فمثلا: للذكر مثل حظ الأنثيين، هو حد الإرث، أي لا يجوز أن يزيد الحد الأعلى للذكر عن ضعف الأنثى، وهذا يفتح أمامنا ملايين الاحتمالات للإرث. إن نظرية الحدود تحل لنا مشكلة الاجتهاد في التشريع، ومشكلة الفقه الإسلامي الموروث، كما تحل لنا مشكلة التعددية السياسية في المجتمعات العربية الإسلامية، ومشكلة كيل الاتهامات للآخرين بالكفر والزندقة. وأرى أنه قد آن لنا أن نضع البرلمانات وموافقة الناس مكان الفقه وهكذا أجمع الجمهور. أيها السيدات والسادة: أنا لم أسمع ولم أقرأ في العالم العربي والإسلامي قبل الثمانينيات عن مشكلة اسمها المشكلة المعرفية أو الإشكالية المعرفية. حتى طرحها الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه «تكوين العقل العربي». ولقد حضرت في أيلول الماضي مؤتمرا في لندن تحت عنوان «الإسلام بين التسامح والاستبداد»، ورغم الاختلاف كان كبيرا، وأن الآراء تعددت بعدد الحاضرين، إلا أنهم أجمعوا جميعا على أن المشكلة الأساسية في الثقافة العربية الإسلامية هي مشكلة معرفية. والسلام عليكم.