أذاعت كلّ محطّات العالم النّبأ ، و نقلته وسائل الاتصال بسرعة الضّوء ، فضجّ الناس و استشرى بينهم الجدل ، و هم يسمعون الخبر : ــ .. غدا تُعرض المحطّة الفضائية مير للمزاد . فصار النّاس ينسجون حولها القصص و الحكايات ، و انسرح بي الفكر ، حول هذه المركبة العجيبة ، التي جابت الآفاق أكثر من خمس عشرة سنة ، قدّمت خلالها خدمات جلّى ، بخيرها و شرّها .. و هاهي اليوم تركن للظلّ ، و تنحني للقدر المحتوم ، مذعنة لسنة الله في خلقه : منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى . و في صباح اليوم المنشود ، بكّرت الصحف على غير عادتها ، و صفحاتها الأولى و أعمدتها لا تتكلّم إلاّ عن الحدث العظيم ، الذي استولى على جميع منابر الإعلام ، بما فيها المرئية و المكتوبة .. فبعضهم تحدّث عن الحالة التّقنية والكفائية للمحطّة .. و آخرون تحدّثوا عن الأزمة الخانقة التي تعيشها روسيا ، ممّا حدا بها إلى الإقدام على هذا الأمر الغريب .. و آخرون نذروا مقالاتهم و أخبارهم للتّنافس المحموم الذي أنجبه هذا الإعلان ، و حول من سيكسب هذا المزاد العجيب ، خاصة بين الدّول العظمى ، التي رصدت للموضوع ميزانيات و اعتمادات ضخمة ، كما خصّصت له حملة إعلامية منقطعة النّظير .. فأمريكا نزلت بكلّ ثقلها لتصبح مير مَعْلَمَة سينمائية في هوليود . أما بريطانيا ، فتسعى جاهدة ـ و بتكتّم شديد ـ لجعل مير مفتاحا علميا لفهم أسطورة الأنظمة الفضائية لأسطول الإتحاد السوفييتي البائد .. كما ترغب ألمانيا في جعلها مادة مختبرية ، تدرس من خلالها مدى تأثير الغلاف الجوي الخارجي على المعدات الفضائية .. أما فرنسا ، فلم تخفي نيتها هي الأخرى ، باسم متحدّث عن وزارة الثقافة ، معلنة بأن عزمها على دخول المزاد راجع ـ و بالأساس ـ إلى رغبتها في تعزيز متحف اللّوفر بتحف أخرى تؤرّخ لتكنولوجيا القرن العشرين .. لكنّ الجدل كان على أشدّه ، حول موقف إسرائيل ، و التي كانت تلعب ، و تتحرّك ـ كعادتها ـ على أكثر من واجهة ، من أجل كسب هذا الرّهان . وقد بدا ذاك واضحا من خلال تصريح وزير دفاعها ، الذي أعلن ؛ أنها ستدعم ماديا و معنويّا كلّ من بريطانيا و أمريكا ، و ذلك لحسم الموقف لإحداهما ، المهمّ ألاّ ينتهي المزاد إلى جهة ما ، و خاصة إذا كانت موالية للعرب ، أو لإيران . و في تمام الساعة التاسعة صباحا من هذا اليوم ، انطلقت عملية المزاد ، والتي حضرها كبار رجال الأعمال والشخصيات السياسية و الحربية من كلّ أقطار العالم .. كما غطّتها كلّ الأجهزة الإعلامية ، و بمختلف لغاتها .. ظلّ الناس يتابعون الحدث بشغف واهتمام .. وهم ينتظرون نتيجة مزاد لم يسبق له نظير . وبعد ساعتين و نصف تقريبا ، كانت المفاجأة التي لم ينتظرها أحد : ــ لقد توقّف المزاد على سعر خيالي ، و حسم الموقف لصالح ثريّ عربي .. اهتزّت الجموع العربية و كبّرت ، و انتفضت الشوارع الغربية و اغتمّت مثل طفل أضاع لعبته ليلة عيد .. ساعتها ، اندلع جدل من نوع آخر ؛ فإسرائيل دعت إلى اجتماع طارئ ، بل و إلى تشكيل خليّة أزمة لمدارسة المستجدّات .. أما أمريكا فدعت إلى ضبط النفس ، وأكدّت أنها ستنزل بكلّ ثقلها لمنع مير من مزاولة أيّة مهمّة أخرى خارج الغلاف الجوّي ، و ذلك لاعتبارها خوردة كما وصفتها أجهزتها الإعلامية ، و هذا معناه ـ بزعمها ـ تهديد للبشرية ، و تعريضها للخطر .. أما الدول العظمى فسارعت إلى عقد الصفقات و الاتفاقيات مع الجهات المعنية ، و ذلك للحصول على عقد عمل لصيانة وترميم المحطّة .. أما الشارع العربي فقد كان في أزهى أيّامه ، و صارت البشارات و الشعارات تترى ، و العناوين البراقة تملأ الصّحف و الشاشات: ميلاد عربي جديد .. الانبعاث القومي .. الصحوة العلمية .. فجر الأمة ... و في المساجد ، تعرّض خطباء الجمعة للموضوع ، و عرضوه على الشرع ليعرف الناس ما له و ما عليه ، و ما قاله الفقهاء و المجتهدون فيه .. أما أحدهم فقد ذهب به الحماس إلى أبعد من ذلك ، حين قال بعد الحمد ، أن مرحلة الدّعوة على الأرض قد انتهت ، و حان الوقت لنقلها إلى الفضاء ، فمخلوقات من عوالم أخرى ينتظرون الخلاص .. فـ سبحان الذي سخّر لنا هذا و ما كنّا له مقرنين .. و بعد شهر من الجدل الساخن ، خرج الثريّ عن صمته ، فقال في إحدى شبكات التلفزيون اللّندنية : كان من المفروض أن أظهر على الشاشة منذ انتهاء المزاد ، لكنّني كنت في خطر .. فقد هدّدته الموساد بالقتل ، إن هو دخل المنافسة ، و لمّا رسا المزاد على اسمه ، اختفى فجأة و التزم الصمت . فاشتعل فتيل آخر للجدل ، حين عبّر متحدّث باسم الخارجية الأمريكية ، أن إسرائيل طلبت ـ و بشكل رسمي ــ من واشنطن التزام الحذر ، و أخذ الموضوع مأخذ الجدّ .. و على إثر ذلك ، أعلنت وسائل الإعلام الأمريكية ، بأن مرحلة جديدة من الحرب الباردة قد بدأت . أما الأمم المتّحدة ، فقد أبدت تخوّفها من إمكانية تراجع مجموعة من الدول عن اتفاقية الحدّ من الأسلحة النووية ، بما في ذلك بريطانيا و حلفاؤها .. و بعد شهر من الحرب الباردة ، أفصح المشروع العربي عن نفسه ، حيث أكّد نائب رئيس مدير المشروع المنتدب لدى هيأة الأمم المتّحدة ، أن تسخير محطّة مير لن يكون إلاّ للأغراض السلمية. هدأت زوبعة الجدل المحتدم ، و انخفضت صفّارات الإنذار في الدول المناوئة ، و بعد شهر من المفاوضات و المساومات ، خرج الحلم العربي عن سكّته ، إذ أعلنت كلّ شبكات العالم المسموعة و المرئية ، عن أوّل رحلة لمير العربية ، لا للمرّيخ و لا للقمر .. و إنما لرحلة سياحية في أضخم مركبة استكشاف عرفها التاريخ عبر مجرتنا الشمسية ، و بأفخم و أحدث وسائل الترفيه ، و التّذاكر تباع في كلّ سفارات العالم . خمد الشارع العربي بخيبة الأمل ، و عاد الناس أدراجهم إلى حكاياتهم و قصصهم الأولى ، و ما علق بالذّهن أمل ذلك الخطيب الذي تمنّى ـ في لحظة غرور ـ أن تنقل مير الدعوة إلى عوالم أخرى ، لكن عمر الحلم لا يعمّر طويلا ، و هاهو يعدّل من لهجته ، ليقول لمستمعيه : أيّها الناس إذا كانت الحسنة و السيئة تتفاضلان في الزمان و المكان ، فلألف معصية على وجه الأرض خير لي من معصية واحدة على محطّة مير التي ستنقل المعصية من الأرض إلى السماء .. اللهم إن هذا منكرا لا ترضاه .. و بعد ما أزبد و أرعد ، صلينا صلاتنا ، و هممنا بالانتشار ، لكن صوتا أجشّ استوقف المنصرفين مناديا : أيها المؤمنون الصلاة على جنازة يرحمكم الله . عــجـبا.. يا أبا الرّجا .. ! {8} .. كانت الصومعة العريقة تشهد المنظر الكئيب كل صباح و مساء .. تشهده في خشوع و تدمّر ، فتبدو و كأن مسحة الحزن تندلق من عينين حزينتين .. كلّما ارتفع صوت المؤذن مناديا للصلاة . آه ، لو تدري ما يصيبها من تصدّع ، لوددت لو كان للصوامع أياد تبطش بها ، أو ألسن تنطق بها .. أو حتى أعين تزجر بها . شاهدة غائبة ، منتفضة جامدة .. سُمّرت بأسلاك و قضبان حديدية .. هذا الإسمنت اللّعين يُعيق خطاها .. و هذه الهياكل المؤنّقة ، المنبطحة كالبغايا ، عديمة اللون و الرائحة .. تخنقها .. تصبّ الآنك في آذانها .. تطوي مسافات الصوت بأوثانها . و هذه الصوامع أذرع مشرعة ، ضارعة للخالق البارئ ، جلّ علاه . ــ اصطفوا .. اصطفوا .. و استووا .. نهضت مذعورا ، و أنا بين حلم و يقظة ، خُيِّل لي ـ في البداية ـ أن الصوت لإقامة الصلاة ، و بطريقة لاإرادية ، فرجت رجلاي قليلا ، ثم استويت ؛ لأن تسوية الصفوف من تمام الصلاة .. لكنني فوجئت بصوت غليظ منكر ، يشتم و يهدّد ، يسبّ و يتوعّد .. ساعتها ، أيقنت أننا لسنا في صلاة ، و إنما كنّا طابورا بشريا في انتظار طويل .. أمام باب مصحة ! ! جئنا من كلّ فجّ عميق ؛ مثنى و ثلاث .. فرادى و جماعات .. لغتنا واحدة .. آهاتنا واحدة .. و بأيدينا كراسات و ملفات ، و أوراق و تحاليل طبية .. و أوراق أخرى ضرورية ، أو بلغة العصر : أوتوماتيكية لفتح الأبواب ، و الأبواب شتّى .. ! ! و أوّل باب يُفْتح لك بها ؛ باب القلوب .. و بعدها الابتسامة و البشاشة .. فمن أوتيها فقد أوتي حضا عظيما . .. ما زال الصف طويلا .. الجباه كالحة ، و الشفاه يابسة .. الوجوه ألهبتها سياط المرض ؛ فلا تسمع سوى الأنين ، و العطاس مع السعال .. بعضنا افترش ملفّه الصحي ، و هوى على الأرض ، بعدما أرهقه الانتظار .. و بعضُنا اتخذ بعضَنا متّكأ و ملاذا . و الأعين اليائسة البائسة ؛ الخائفة القلقة .. تدور متعبة في محاجر كحّلها السقم ، تتحسّس أدنى حركة ، في انتظار ابتسامة عريضة من هذا الباب الحديدي الأصمّ الموصد ، و الذي يُخيّل إليك أنه لن يُفتح أبدا ، و كأنه أُغلق في وجه ياجوج و ماجوج.. مجرّد خشخشة شجرة أو حتى صوت قطة نطّت من هنا أو هناك .. قد تدخل دفء الأمل ، في هذه القلوب الكلمى .. فترى الأعين شاخصة صوب الباب ، و قد دبّت في النفوس حيوية و جلبة ، و في الأجساد النخرة حركة و حياة .. .. ما زالت الشمس قابعة خلف عمالقة الإسمنت .. برودة المكان و الزمان .. و هذا الحارس الفظ ، كلّما هشّ صوبنا شرْذم جمعنا ، و أطال انتظارنا .. و مع ذلك كان الصبر دواءنا ؛ فالمستشفى جنّة بالنسبة لنا ، و هذا الحارس أحد خزنتها ، لكنه ذو منصبين ؛ إما لك أو عليك ؛ لك ، إن أخرجت كتابك ( أوراقك ) بيمينك ، و قلت : ــ ها ؤم اقرؤوا كتابيا .. و أما من أوتي كتابه وراء ظهره .. فتلك هي القاضية ، فلن تسمع منه إلا دعاء : و نادوا يا مالك ليقضي علينا ربّك ، قال إنكم ماكثون .. .. كان عريض المنكبين ، مستدير الرأس ، تدحرج بطنه فوق ركبتيه ، و استدبر ظهره بطنه ، إلى درجة لا تستطيع معها التمييز بين جهاته الأربع فقلت في نفسي : ــ ألا يحسن بهذا الغافل أن يتّعظ بهذه الأجسام العليلة ، و يحمد الله على ما أنعم عليه من صحة و عافية .. ؟ ! ألا يتصوّر أنه في يوم ما ، قد يصيبه بعض ما أصاب هؤلاء ؟ ! أم يعتقد بأن بدانته هاته ستحول بينه و بين ما تخفيه له الأقدار .. ؟ ! أما سمع قول الشاعر : فكم من صحيح مات من غيـر علـة ] وكـم من سقيم عاش حيناً من الدهرِ وكم من فتى آمسى وأصبح ضاحكاً ] وأكفانه في الغيب تنسج وهو لا يدرِ كم وددت لو أهمس له بهذه الكلمات ، لكني تذكرت ، بأن القلب الذي لم يحرّكه هذا المشهد اليومي الحزين ، لن تحركه مجرّد كلمات عابرة من هاتف عابر .. فالقلوب إذا عميت طمست ، كما تُطمس الشموع في ليلة عاصفة .. بل رانت عليها المادة و المحسوبية ، و فقدان المسؤولية و الضمير .. و أخيرا انفرج الباب .. فدخلنا ـ أو قل كدنا ـ لأن كل ما مضى كان مجرّد انتظار ، و مع ذلك سعل شيخ مسنّ يطمئن نفسه الثكلى : ــ إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا و لكن هل يغلب الصبر انتظارين ؟ ! تشرذمت جموعنا ، على الأقل في الخارج كان السياج يجمعنا ، أما الآن ، فلم نجد أيّ شيء نتكئ عليه ، و كأننا وسط ساحة سجن عسكري .. و هل يقوى المرضى على الوقوف و بالأحرى الانتظار ؟ ! تنهدت مع المتنهّدين ، و تأفّفت مع المستنكرين .. لكن ذلك لم يُغيّر من الأمر شيئا .. فظلت عيناي عالقتين بالصومعة .. تتجاذبني خيوطها الذهبية بين ماض تليد و حاضر كئيب و مستقبل بعيد .. فيصلني صوت بلال نديا شهيا .. و أنشودة أهل يثرب ، و سنابك خيول الفاتحين ، و خطبة الوداع ، و كنتم خير أمة .. و من أين لك هذا ؟ و قرقري أو لا تُقرقري .. فترقرق فوق خد الذكرى دمعات . لن أنسى أبدا ذلك المشهد الرهيب ما حييت ؛ كانت تشكي و تتلوّى تبكي و تتألّم ، و صوتها المكلوم يمزّق جوف السماء : ــ يا عباد الله أغيثوني .. ظننتها في البداية مخبولة ، أو مسكينة تشكو الحاجة ، و لكنّني أخبرت فيما بعد أنها طردت من المستشفى شرّ طردة ، لأنها لا تملك النقود الكافية لاستئصال ورم خبيث في بطنها ، فظلّت قابعة هناك ، في حديقة المستشفى ، تقتات من جسدها و من نفايات المرضى .. حتى فارقت الحياة . فأيّ طبيب هذا الذي لا يرى في عينيك غير بريق الدنانير ، و لا يسمع من دقات قلبك سوى صرير الدراهم .. ؟ ! و أيّ إنسانية بقيت ، لمّا يمتنع الطبيب عن الكشف عن مريضه ، و هو يتمزّق ألما ، إذا ما نقصته دراهم معدودات من قيمة الفحص ..؟ ! و أيّ رحمة ننتظر ، إذا كان المستشفى يماطل في الكشف عن حالات مرضاه ، بدعوى أنهم تحت العناية المركّزة ، و الحقيقة أنهم فارقوا الحياة . و كلّ ذلك من أجل بقائهم مدّة أطول ، ليكون أداءهم أكبر لفاتورة المستشفى الموقّرة .. ؟ ! و أيّ شفاء يأتيك ، و الطبيب يعرف داءك و دواءك ، و مع ذلك يراوغك و يسوّفك .. حتى تتكرّر زياراتك ، و بالتالي تتكرّر خيراتك .. ؟ ! فأين قسم أبقراط .. ؟ و أين أدب الطبيب للرّهاوي .. ؟ و أين وصايا صلاح الدين الكحّال الحموي .. ؟ و أين .. ؟ ! و أين .. ؟ ! .. صاحت مرّة أخرى في وجهي و هي منفعلة : ــ أنت ماذا لديك .. ألا تسمع ..؟ ! فانتبهت على وقع صراخها ، كنت في غيبوبة شبه تامة : ــ أريد مقابلة الطبيب .. ــ أيّ طبيب .. ؟ ــ طبيب القلب .. ارتسمت علامة استفهام بين عينيها ، و زمّت شفتيها كنقة حمراء تحتها ، ثم قالت في أسف مزعوم : ــ آسفة لا يمكنك مقابلته الآن .. ــ و لماذا ؟ ! ــ لأنه في عطلة .. ــ في عطلة ! و متى سيعود ؟ ــ لست أدري .. بعد شهر .. بعد شهرين .. لا أظنّ .. ! المهم يمكنك أخذ موعد آخر للمقابلة .. ــ يعني انتظار جديد ؟ ــ كل شيء اليوم فيه انتظار .. حتى يوم القيامة فيه انتظار . ــ و لكنه انتظار عدل و حقّ ، ليس فيه أبواب سرية .. و لا هذا من قبل هذا أو من طرف ذاك .. و لا رنات هاتف أو بخاشيش .. ننتظر نعم ، و لكن دون أحساب و لا ألقاب .. و لا جيوب و لا أبواب سرية . خطّت حروفا مبهمة و مبعثرة ، ثم زحلقت إليّ الورقة من خلف الزجاج ، و لم تمهلني بعدها لحظة واحدة للسؤال ، ثم انصرفت دون مبالاة .. هرولت صوب ممرضة أخرى ، فأشارت بكتفيها أنها مشغولة .. حاولت مع أخرى فانتفضت مثل قطة مدلّلة : ــ ألا يمكنك الانتظار .. إنّي مشغولة .. ألا ترى ..؟ ! .. أحسست بنافورة الدماء تتدفّق ، و فار التنّور .. و اتقدت خلايا الصمت دفعة واحدة .. و نيرون المسكين يعزف كمان الصبر ، و لكن للصبر حدود . لم أر غيره أمامي لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه .. إلا هو ، كان مكتوف اليدين ، و هو ينظر إليّ في شماتة ، فلم أجد بدّا من نجدته .. فهم القصد ، فأشاح بوجهه العريض عني .. تحسست جيوبي ، فلم أعثر فيها على الأوراق الأوتوماتيكية ، بل عثرت فقط على تذاكر الحافلة التي أقلّتني للوصول إلى هناك .. و لحسن الحظ ظن أني سأعطيه شيئا ما ، فصحى وجهه المكفهر فجأة ، و أقبل عليّ مهرولا ؛ هاشا باشا .. دون نداء ، فمددت إليه الورقة ليتفحّصها ، و بسرعة الضوء جاء الجواب : ــ عندك رانديفو ، بعد شهرين ؛ 10 أكتوبر .... فانتزعت الورقة من بين مخالبه ، و استقبلت الباب الرئيسي .. فحدّق فيّ بعينين ناريتين ، و كأني به يسألني : ــ .. ءاتنا عطاءنا لقد لقينا من عملنا هذا نصبا .. فتذكرت فتى موسى عليه السلام ، و بين شدقي ابتسامة مكتومة ، و لسان حالي يقول : ــ أ رأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، و ما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ، واتّخذ سبيله في البحر عجبا .. و لم أجتز دفتي الباب حتى كان موعدهم يسّاقط كندف الثلج على الحديقة الجرباء ؛ و أنا أندفع في حيوية و نشاط لم أعهدهما فيّ من قبل ، فعدت إلى بيتي و كأنني نشطت من عقال ، فسبحان مقلّب الأحوال و مسبّب الأسباب .. و جاعل الشفاء و لو في جرعة ماء