الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    الحكومة تعفي استيراد الأبقار والأغنام من الضرائب والرسوم الجمركية    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية        "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)        بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميـر في المزاد ..
نشر في التجديد يوم 21 - 07 - 2009


أذاعت كلّ محطّات العالم النّبأ ، و نقلته وسائل الاتصال بسرعة الضّوء ، فضجّ الناس و استشرى بينهم الجدل ، و هم يسمعون الخبر : ــ .. غدا تُعرض المحطّة الفضائية مير للمزاد . فصار النّاس ينسجون حولها القصص و الحكايات ، و انسرح بي الفكر ، حول هذه المركبة العجيبة ، التي جابت الآفاق أكثر من خمس عشرة سنة ، قدّمت خلالها خدمات جلّى ، بخيرها و شرّها .. و هاهي اليوم تركن للظلّ ، و تنحني للقدر المحتوم ، مذعنة لسنة الله في خلقه : منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى . و في صباح اليوم المنشود ، بكّرت الصحف على غير عادتها ، و صفحاتها الأولى و أعمدتها لا تتكلّم إلاّ عن الحدث العظيم ، الذي استولى على جميع منابر الإعلام ، بما فيها المرئية و المكتوبة .. فبعضهم تحدّث عن الحالة التّقنية والكفائية للمحطّة .. و آخرون تحدّثوا عن الأزمة الخانقة التي تعيشها روسيا ، ممّا حدا بها إلى الإقدام على هذا الأمر الغريب .. و آخرون نذروا مقالاتهم و أخبارهم للتّنافس المحموم الذي أنجبه هذا الإعلان ، و حول من سيكسب هذا المزاد العجيب ، خاصة بين الدّول العظمى ، التي رصدت للموضوع ميزانيات و اعتمادات ضخمة ، كما خصّصت له حملة إعلامية منقطعة النّظير .. فأمريكا نزلت بكلّ ثقلها لتصبح مير مَعْلَمَة سينمائية في هوليود . أما بريطانيا ، فتسعى جاهدة ـ و بتكتّم شديد ـ لجعل مير مفتاحا علميا لفهم أسطورة الأنظمة الفضائية لأسطول الإتحاد السوفييتي البائد .. كما ترغب ألمانيا في جعلها مادة مختبرية ، تدرس من خلالها مدى تأثير الغلاف الجوي الخارجي على المعدات الفضائية .. أما فرنسا ، فلم تخفي نيتها هي الأخرى ، باسم متحدّث عن وزارة الثقافة ، معلنة بأن عزمها على دخول المزاد راجع ـ و بالأساس ـ إلى رغبتها في تعزيز متحف اللّوفر بتحف أخرى تؤرّخ لتكنولوجيا القرن العشرين .. لكنّ الجدل كان على أشدّه ، حول موقف إسرائيل ، و التي كانت تلعب ، و تتحرّك ـ كعادتها ـ على أكثر من واجهة ، من أجل كسب هذا الرّهان . وقد بدا ذاك واضحا من خلال تصريح وزير دفاعها ، الذي أعلن ؛ أنها ستدعم ماديا و معنويّا كلّ من بريطانيا و أمريكا ، و ذلك لحسم الموقف لإحداهما ، المهمّ ألاّ ينتهي المزاد إلى جهة ما ، و خاصة إذا كانت موالية للعرب ، أو لإيران . و في تمام الساعة التاسعة صباحا من هذا اليوم ، انطلقت عملية المزاد ، والتي حضرها كبار رجال الأعمال والشخصيات السياسية و الحربية من كلّ أقطار العالم .. كما غطّتها كلّ الأجهزة الإعلامية ، و بمختلف لغاتها .. ظلّ الناس يتابعون الحدث بشغف واهتمام .. وهم ينتظرون نتيجة مزاد لم يسبق له نظير . وبعد ساعتين و نصف تقريبا ، كانت المفاجأة التي لم ينتظرها أحد : ــ لقد توقّف المزاد على سعر خيالي ، و حسم الموقف لصالح ثريّ عربي .. اهتزّت الجموع العربية و كبّرت ، و انتفضت الشوارع الغربية و اغتمّت مثل طفل أضاع لعبته ليلة عيد .. ساعتها ، اندلع جدل من نوع آخر ؛ فإسرائيل دعت إلى اجتماع طارئ ، بل و إلى تشكيل خليّة أزمة لمدارسة المستجدّات .. أما أمريكا فدعت إلى ضبط النفس ، وأكدّت أنها ستنزل بكلّ ثقلها لمنع مير من مزاولة أيّة مهمّة أخرى خارج الغلاف الجوّي ، و ذلك لاعتبارها خوردة كما وصفتها أجهزتها الإعلامية ، و هذا معناه ـ بزعمها ـ تهديد للبشرية ، و تعريضها للخطر .. أما الدول العظمى فسارعت إلى عقد الصفقات و الاتفاقيات مع الجهات المعنية ، و ذلك للحصول على عقد عمل لصيانة وترميم المحطّة .. أما الشارع العربي فقد كان في أزهى أيّامه ، و صارت البشارات و الشعارات تترى ، و العناوين البراقة تملأ الصّحف و الشاشات: ميلاد عربي جديد .. الانبعاث القومي .. الصحوة العلمية .. فجر الأمة ... و في المساجد ، تعرّض خطباء الجمعة للموضوع ، و عرضوه على الشرع ليعرف الناس ما له و ما عليه ، و ما قاله الفقهاء و المجتهدون فيه .. أما أحدهم فقد ذهب به الحماس إلى أبعد من ذلك ، حين قال بعد الحمد ، أن مرحلة الدّعوة على الأرض قد انتهت ، و حان الوقت لنقلها إلى الفضاء ، فمخلوقات من عوالم أخرى ينتظرون الخلاص .. فـ سبحان الذي سخّر لنا هذا و ما كنّا له مقرنين .. و بعد شهر من الجدل الساخن ، خرج الثريّ عن صمته ، فقال في إحدى شبكات التلفزيون اللّندنية : كان من المفروض أن أظهر على الشاشة منذ انتهاء المزاد ، لكنّني كنت في خطر .. فقد هدّدته الموساد بالقتل ، إن هو دخل المنافسة ، و لمّا رسا المزاد على اسمه ، اختفى فجأة و التزم الصمت . فاشتعل فتيل آخر للجدل ، حين عبّر متحدّث باسم الخارجية الأمريكية ، أن إسرائيل طلبت ـ و بشكل رسمي ــ من واشنطن التزام الحذر ، و أخذ الموضوع مأخذ الجدّ .. و على إثر ذلك ، أعلنت وسائل الإعلام الأمريكية ، بأن مرحلة جديدة من الحرب الباردة قد بدأت . أما الأمم المتّحدة ، فقد أبدت تخوّفها من إمكانية تراجع مجموعة من الدول عن اتفاقية الحدّ من الأسلحة النووية ، بما في ذلك بريطانيا و حلفاؤها .. و بعد شهر من الحرب الباردة ، أفصح المشروع العربي عن نفسه ، حيث أكّد نائب رئيس مدير المشروع المنتدب لدى هيأة الأمم المتّحدة ، أن تسخير محطّة مير لن يكون إلاّ للأغراض السلمية. هدأت زوبعة الجدل المحتدم ، و انخفضت صفّارات الإنذار في الدول المناوئة ، و بعد شهر من المفاوضات و المساومات ، خرج الحلم العربي عن سكّته ، إذ أعلنت كلّ شبكات العالم المسموعة و المرئية ، عن أوّل رحلة لمير العربية ، لا للمرّيخ و لا للقمر .. و إنما لرحلة سياحية في أضخم مركبة استكشاف عرفها التاريخ عبر مجرتنا الشمسية ، و بأفخم و أحدث وسائل الترفيه ، و التّذاكر تباع في كلّ سفارات العالم . خمد الشارع العربي بخيبة الأمل ، و عاد الناس أدراجهم إلى حكاياتهم و قصصهم الأولى ، و ما علق بالذّهن أمل ذلك الخطيب الذي تمنّى ـ في لحظة غرور ـ أن تنقل مير الدعوة إلى عوالم أخرى ، لكن عمر الحلم لا يعمّر طويلا ، و هاهو يعدّل من لهجته ، ليقول لمستمعيه : أيّها الناس إذا كانت الحسنة و السيئة تتفاضلان في الزمان و المكان ، فلألف معصية على وجه الأرض خير لي من معصية واحدة على محطّة مير التي ستنقل المعصية من الأرض إلى السماء .. اللهم إن هذا منكرا لا ترضاه .. و بعد ما أزبد و أرعد ، صلينا صلاتنا ، و هممنا بالانتشار ، لكن صوتا أجشّ استوقف المنصرفين مناديا : أيها المؤمنون الصلاة على جنازة يرحمكم الله . عــجـبا.. يا أبا الرّجا .. ! {8} .. كانت الصومعة العريقة تشهد المنظر الكئيب كل صباح و مساء .. تشهده في خشوع و تدمّر ، فتبدو و كأن مسحة الحزن تندلق من عينين حزينتين .. كلّما ارتفع صوت المؤذن مناديا للصلاة . آه ، لو تدري ما يصيبها من تصدّع ، لوددت لو كان للصوامع أياد تبطش بها ، أو ألسن تنطق بها .. أو حتى أعين تزجر بها . شاهدة غائبة ، منتفضة جامدة .. سُمّرت بأسلاك و قضبان حديدية .. هذا الإسمنت اللّعين يُعيق خطاها .. و هذه الهياكل المؤنّقة ، المنبطحة كالبغايا ، عديمة اللون و الرائحة .. تخنقها .. تصبّ الآنك في آذانها .. تطوي مسافات الصوت بأوثانها . و هذه الصوامع أذرع مشرعة ، ضارعة للخالق البارئ ، جلّ علاه . ــ اصطفوا .. اصطفوا .. و استووا .. نهضت مذعورا ، و أنا بين حلم و يقظة ، خُيِّل لي ـ في البداية ـ أن الصوت لإقامة الصلاة ، و بطريقة لاإرادية ، فرجت رجلاي قليلا ، ثم استويت ؛ لأن تسوية الصفوف من تمام الصلاة .. لكنني فوجئت بصوت غليظ منكر ، يشتم و يهدّد ، يسبّ و يتوعّد .. ساعتها ، أيقنت أننا لسنا في صلاة ، و إنما كنّا طابورا بشريا في انتظار طويل .. أمام باب مصحة ! ! جئنا من كلّ فجّ عميق ؛ مثنى و ثلاث .. فرادى و جماعات .. لغتنا واحدة .. آهاتنا واحدة .. و بأيدينا كراسات و ملفات ، و أوراق و تحاليل طبية .. و أوراق أخرى ضرورية ، أو بلغة العصر : أوتوماتيكية لفتح الأبواب ، و الأبواب شتّى .. ! ! و أوّل باب يُفْتح لك بها ؛ باب القلوب .. و بعدها الابتسامة و البشاشة .. فمن أوتيها فقد أوتي حضا عظيما . .. ما زال الصف طويلا .. الجباه كالحة ، و الشفاه يابسة .. الوجوه ألهبتها سياط المرض ؛ فلا تسمع سوى الأنين ، و العطاس مع السعال .. بعضنا افترش ملفّه الصحي ، و هوى على الأرض ، بعدما أرهقه الانتظار .. و بعضُنا اتخذ بعضَنا متّكأ و ملاذا . و الأعين اليائسة البائسة ؛ الخائفة القلقة .. تدور متعبة في محاجر كحّلها السقم ، تتحسّس أدنى حركة ، في انتظار ابتسامة عريضة من هذا الباب الحديدي الأصمّ الموصد ، و الذي يُخيّل إليك أنه لن يُفتح أبدا ، و كأنه أُغلق في وجه ياجوج و ماجوج.. مجرّد خشخشة شجرة أو حتى صوت قطة نطّت من هنا أو هناك .. قد تدخل دفء الأمل ، في هذه القلوب الكلمى .. فترى الأعين شاخصة صوب الباب ، و قد دبّت في النفوس حيوية و جلبة ، و في الأجساد النخرة حركة و حياة .. .. ما زالت الشمس قابعة خلف عمالقة الإسمنت .. برودة المكان و الزمان .. و هذا الحارس الفظ ، كلّما هشّ صوبنا شرْذم جمعنا ، و أطال انتظارنا .. و مع ذلك كان الصبر دواءنا ؛ فالمستشفى جنّة بالنسبة لنا ، و هذا الحارس أحد خزنتها ، لكنه ذو منصبين ؛ إما لك أو عليك ؛ لك ، إن أخرجت كتابك ( أوراقك ) بيمينك ، و قلت : ــ ها ؤم اقرؤوا كتابيا .. و أما من أوتي كتابه وراء ظهره .. فتلك هي القاضية ، فلن تسمع منه إلا دعاء : و نادوا يا مالك ليقضي علينا ربّك ، قال إنكم ماكثون .. .. كان عريض المنكبين ، مستدير الرأس ، تدحرج بطنه فوق ركبتيه ، و استدبر ظهره بطنه ، إلى درجة لا تستطيع معها التمييز بين جهاته الأربع فقلت في نفسي : ــ ألا يحسن بهذا الغافل أن يتّعظ بهذه الأجسام العليلة ، و يحمد الله على ما أنعم عليه من صحة و عافية .. ؟ ! ألا يتصوّر أنه في يوم ما ، قد يصيبه بعض ما أصاب هؤلاء ؟ ! أم يعتقد بأن بدانته هاته ستحول بينه و بين ما تخفيه له الأقدار .. ؟ ! أما سمع قول الشاعر : فكم من صحيح مات من غيـر علـة ] وكـم من سقيم عاش حيناً من الدهرِ وكم من فتى آمسى وأصبح ضاحكاً ] وأكفانه في الغيب تنسج وهو لا يدرِ كم وددت لو أهمس له بهذه الكلمات ، لكني تذكرت ، بأن القلب الذي لم يحرّكه هذا المشهد اليومي الحزين ، لن تحركه مجرّد كلمات عابرة من هاتف عابر .. فالقلوب إذا عميت طمست ، كما تُطمس الشموع في ليلة عاصفة .. بل رانت عليها المادة و المحسوبية ، و فقدان المسؤولية و الضمير .. و أخيرا انفرج الباب .. فدخلنا ـ أو قل كدنا ـ لأن كل ما مضى كان مجرّد انتظار ، و مع ذلك سعل شيخ مسنّ يطمئن نفسه الثكلى : ــ إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا و لكن هل يغلب الصبر انتظارين ؟ ! تشرذمت جموعنا ، على الأقل في الخارج كان السياج يجمعنا ، أما الآن ، فلم نجد أيّ شيء نتكئ عليه ، و كأننا وسط ساحة سجن عسكري .. و هل يقوى المرضى على الوقوف و بالأحرى الانتظار ؟ ! تنهدت مع المتنهّدين ، و تأفّفت مع المستنكرين .. لكن ذلك لم يُغيّر من الأمر شيئا .. فظلت عيناي عالقتين بالصومعة .. تتجاذبني خيوطها الذهبية بين ماض تليد و حاضر كئيب و مستقبل بعيد .. فيصلني صوت بلال نديا شهيا .. و أنشودة أهل يثرب ، و سنابك خيول الفاتحين ، و خطبة الوداع ، و كنتم خير أمة .. و من أين لك هذا ؟ و قرقري أو لا تُقرقري .. فترقرق فوق خد الذكرى دمعات . لن أنسى أبدا ذلك المشهد الرهيب ما حييت ؛ كانت تشكي و تتلوّى تبكي و تتألّم ، و صوتها المكلوم يمزّق جوف السماء : ــ يا عباد الله أغيثوني .. ظننتها في البداية مخبولة ، أو مسكينة تشكو الحاجة ، و لكنّني أخبرت فيما بعد أنها طردت من المستشفى شرّ طردة ، لأنها لا تملك النقود الكافية لاستئصال ورم خبيث في بطنها ، فظلّت قابعة هناك ، في حديقة المستشفى ، تقتات من جسدها و من نفايات المرضى .. حتى فارقت الحياة . فأيّ طبيب هذا الذي لا يرى في عينيك غير بريق الدنانير ، و لا يسمع من دقات قلبك سوى صرير الدراهم .. ؟ ! و أيّ إنسانية بقيت ، لمّا يمتنع الطبيب عن الكشف عن مريضه ، و هو يتمزّق ألما ، إذا ما نقصته دراهم معدودات من قيمة الفحص ..؟ ! و أيّ رحمة ننتظر ، إذا كان المستشفى يماطل في الكشف عن حالات مرضاه ، بدعوى أنهم تحت العناية المركّزة ، و الحقيقة أنهم فارقوا الحياة . و كلّ ذلك من أجل بقائهم مدّة أطول ، ليكون أداءهم أكبر لفاتورة المستشفى الموقّرة .. ؟ ! و أيّ شفاء يأتيك ، و الطبيب يعرف داءك و دواءك ، و مع ذلك يراوغك و يسوّفك .. حتى تتكرّر زياراتك ، و بالتالي تتكرّر خيراتك .. ؟ ! فأين قسم أبقراط .. ؟ و أين أدب الطبيب للرّهاوي .. ؟ و أين وصايا صلاح الدين الكحّال الحموي .. ؟ و أين .. ؟ ! و أين .. ؟ ! .. صاحت مرّة أخرى في وجهي و هي منفعلة : ــ أنت ماذا لديك .. ألا تسمع ..؟ ! فانتبهت على وقع صراخها ، كنت في غيبوبة شبه تامة : ــ أريد مقابلة الطبيب .. ــ أيّ طبيب .. ؟ ــ طبيب القلب .. ارتسمت علامة استفهام بين عينيها ، و زمّت شفتيها كنقة حمراء تحتها ، ثم قالت في أسف مزعوم : ــ آسفة لا يمكنك مقابلته الآن .. ــ و لماذا ؟ ! ــ لأنه في عطلة .. ــ في عطلة ! و متى سيعود ؟ ــ لست أدري .. بعد شهر .. بعد شهرين .. لا أظنّ .. ! المهم يمكنك أخذ موعد آخر للمقابلة .. ــ يعني انتظار جديد ؟ ــ كل شيء اليوم فيه انتظار .. حتى يوم القيامة فيه انتظار . ــ و لكنه انتظار عدل و حقّ ، ليس فيه أبواب سرية .. و لا هذا من قبل هذا أو من طرف ذاك .. و لا رنات هاتف أو بخاشيش .. ننتظر نعم ، و لكن دون أحساب و لا ألقاب .. و لا جيوب و لا أبواب سرية . خطّت حروفا مبهمة و مبعثرة ، ثم زحلقت إليّ الورقة من خلف الزجاج ، و لم تمهلني بعدها لحظة واحدة للسؤال ، ثم انصرفت دون مبالاة .. هرولت صوب ممرضة أخرى ، فأشارت بكتفيها أنها مشغولة .. حاولت مع أخرى فانتفضت مثل قطة مدلّلة : ــ ألا يمكنك الانتظار .. إنّي مشغولة .. ألا ترى ..؟ ! .. أحسست بنافورة الدماء تتدفّق ، و فار التنّور .. و اتقدت خلايا الصمت دفعة واحدة .. و نيرون المسكين يعزف كمان الصبر ، و لكن للصبر حدود . لم أر غيره أمامي لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه .. إلا هو ، كان مكتوف اليدين ، و هو ينظر إليّ في شماتة ، فلم أجد بدّا من نجدته .. فهم القصد ، فأشاح بوجهه العريض عني .. تحسست جيوبي ، فلم أعثر فيها على الأوراق الأوتوماتيكية ، بل عثرت فقط على تذاكر الحافلة التي أقلّتني للوصول إلى هناك .. و لحسن الحظ ظن أني سأعطيه شيئا ما ، فصحى وجهه المكفهر فجأة ، و أقبل عليّ مهرولا ؛ هاشا باشا .. دون نداء ، فمددت إليه الورقة ليتفحّصها ، و بسرعة الضوء جاء الجواب : ــ عندك رانديفو ، بعد شهرين ؛ 10 أكتوبر .... فانتزعت الورقة من بين مخالبه ، و استقبلت الباب الرئيسي .. فحدّق فيّ بعينين ناريتين ، و كأني به يسألني : ــ .. ءاتنا عطاءنا لقد لقينا من عملنا هذا نصبا .. فتذكرت فتى موسى عليه السلام ، و بين شدقي ابتسامة مكتومة ، و لسان حالي يقول : ــ أ رأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، و ما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ، واتّخذ سبيله في البحر عجبا .. و لم أجتز دفتي الباب حتى كان موعدهم يسّاقط كندف الثلج على الحديقة الجرباء ؛ و أنا أندفع في حيوية و نشاط لم أعهدهما فيّ من قبل ، فعدت إلى بيتي و كأنني نشطت من عقال ، فسبحان مقلّب الأحوال و مسبّب الأسباب .. و جاعل الشفاء و لو في جرعة ماء

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.