تصريحات تبون تؤكد عزلة الجزائر عن العالم    ترامب يصفع من جديد نظام الجزائر بتعيين سفير في الجزائر يدعم الموقف المغربي في نزاع الصحراء    وهبي: مشروع قانون المسطرة الجنائية ورش إصلاحي متكامل له طابع استعجالي    انخفاض الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك لسنة 2024 وتأثيراته الاقتصادية    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    تداولات الإفتتاح ببورصة الدار البيضاء    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    حماس تنعى منفذ عملية تل أبيب المغربي حامل البطاقة الخضراء الأمريكية وتدعو لتصعيد المقاومة    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    مراكش/أسفي: إحباط محاولة تهريب تسعة أطنان و 800 كيلوغراما من الشيرا وتوقيف 6 أشخاص    تنفيذا للتعليمات الملكية.. تعبئة شاملة لمواجهة موجة البرد في مناطق المملكة    فرنسا تسعى إلى توقيف بشار الأسد    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    بنما تشتكي ترامب إلى الأمم المتحدة    الكشف عن النفوذ الجزائري داخل المسجد الكبير بباريس يثير الجدل في فرنسا    الدريوش تؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمضاربات في سعر السردين    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    وزارة التربية الوطنية تبدأ في تنفيذ صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور موظفيها    كيوسك الأربعاء | الحكومة تنهي جدل اختصاصات كتاب الدولة    خديجة الصديقي    الوزير بركة ونظيره الفلسطيني في لقاء ثنائي لتعزيز التعاون    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    نقاش مفتوح مع الوزير مهدي بنسعيد في ضيافة مؤسسة الفقيه التطواني    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمملكة المغربية    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    الكنبوري يستعرض توازنات مدونة الأسرة بين الشريعة ومتطلبات العصر    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    الكاف : المغرب أثبت دائما قدرته على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    "سبيس إكس" تطلق 21 قمرا صناعيا إلى الفضاء    "حماس": منفذ الطعن "مغربي بطل"    "البام" يدافع عن حصيلة المنصوري ويدعو إلى تفعيل ميثاق الأغلبية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    توقيع اتفاق لإنجاز ميناء أكادير الجاف    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميـر في المزاد ..
نشر في التجديد يوم 21 - 07 - 2009


أذاعت كلّ محطّات العالم النّبأ ، و نقلته وسائل الاتصال بسرعة الضّوء ، فضجّ الناس و استشرى بينهم الجدل ، و هم يسمعون الخبر : ــ .. غدا تُعرض المحطّة الفضائية مير للمزاد . فصار النّاس ينسجون حولها القصص و الحكايات ، و انسرح بي الفكر ، حول هذه المركبة العجيبة ، التي جابت الآفاق أكثر من خمس عشرة سنة ، قدّمت خلالها خدمات جلّى ، بخيرها و شرّها .. و هاهي اليوم تركن للظلّ ، و تنحني للقدر المحتوم ، مذعنة لسنة الله في خلقه : منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى . و في صباح اليوم المنشود ، بكّرت الصحف على غير عادتها ، و صفحاتها الأولى و أعمدتها لا تتكلّم إلاّ عن الحدث العظيم ، الذي استولى على جميع منابر الإعلام ، بما فيها المرئية و المكتوبة .. فبعضهم تحدّث عن الحالة التّقنية والكفائية للمحطّة .. و آخرون تحدّثوا عن الأزمة الخانقة التي تعيشها روسيا ، ممّا حدا بها إلى الإقدام على هذا الأمر الغريب .. و آخرون نذروا مقالاتهم و أخبارهم للتّنافس المحموم الذي أنجبه هذا الإعلان ، و حول من سيكسب هذا المزاد العجيب ، خاصة بين الدّول العظمى ، التي رصدت للموضوع ميزانيات و اعتمادات ضخمة ، كما خصّصت له حملة إعلامية منقطعة النّظير .. فأمريكا نزلت بكلّ ثقلها لتصبح مير مَعْلَمَة سينمائية في هوليود . أما بريطانيا ، فتسعى جاهدة ـ و بتكتّم شديد ـ لجعل مير مفتاحا علميا لفهم أسطورة الأنظمة الفضائية لأسطول الإتحاد السوفييتي البائد .. كما ترغب ألمانيا في جعلها مادة مختبرية ، تدرس من خلالها مدى تأثير الغلاف الجوي الخارجي على المعدات الفضائية .. أما فرنسا ، فلم تخفي نيتها هي الأخرى ، باسم متحدّث عن وزارة الثقافة ، معلنة بأن عزمها على دخول المزاد راجع ـ و بالأساس ـ إلى رغبتها في تعزيز متحف اللّوفر بتحف أخرى تؤرّخ لتكنولوجيا القرن العشرين .. لكنّ الجدل كان على أشدّه ، حول موقف إسرائيل ، و التي كانت تلعب ، و تتحرّك ـ كعادتها ـ على أكثر من واجهة ، من أجل كسب هذا الرّهان . وقد بدا ذاك واضحا من خلال تصريح وزير دفاعها ، الذي أعلن ؛ أنها ستدعم ماديا و معنويّا كلّ من بريطانيا و أمريكا ، و ذلك لحسم الموقف لإحداهما ، المهمّ ألاّ ينتهي المزاد إلى جهة ما ، و خاصة إذا كانت موالية للعرب ، أو لإيران . و في تمام الساعة التاسعة صباحا من هذا اليوم ، انطلقت عملية المزاد ، والتي حضرها كبار رجال الأعمال والشخصيات السياسية و الحربية من كلّ أقطار العالم .. كما غطّتها كلّ الأجهزة الإعلامية ، و بمختلف لغاتها .. ظلّ الناس يتابعون الحدث بشغف واهتمام .. وهم ينتظرون نتيجة مزاد لم يسبق له نظير . وبعد ساعتين و نصف تقريبا ، كانت المفاجأة التي لم ينتظرها أحد : ــ لقد توقّف المزاد على سعر خيالي ، و حسم الموقف لصالح ثريّ عربي .. اهتزّت الجموع العربية و كبّرت ، و انتفضت الشوارع الغربية و اغتمّت مثل طفل أضاع لعبته ليلة عيد .. ساعتها ، اندلع جدل من نوع آخر ؛ فإسرائيل دعت إلى اجتماع طارئ ، بل و إلى تشكيل خليّة أزمة لمدارسة المستجدّات .. أما أمريكا فدعت إلى ضبط النفس ، وأكدّت أنها ستنزل بكلّ ثقلها لمنع مير من مزاولة أيّة مهمّة أخرى خارج الغلاف الجوّي ، و ذلك لاعتبارها خوردة كما وصفتها أجهزتها الإعلامية ، و هذا معناه ـ بزعمها ـ تهديد للبشرية ، و تعريضها للخطر .. أما الدول العظمى فسارعت إلى عقد الصفقات و الاتفاقيات مع الجهات المعنية ، و ذلك للحصول على عقد عمل لصيانة وترميم المحطّة .. أما الشارع العربي فقد كان في أزهى أيّامه ، و صارت البشارات و الشعارات تترى ، و العناوين البراقة تملأ الصّحف و الشاشات: ميلاد عربي جديد .. الانبعاث القومي .. الصحوة العلمية .. فجر الأمة ... و في المساجد ، تعرّض خطباء الجمعة للموضوع ، و عرضوه على الشرع ليعرف الناس ما له و ما عليه ، و ما قاله الفقهاء و المجتهدون فيه .. أما أحدهم فقد ذهب به الحماس إلى أبعد من ذلك ، حين قال بعد الحمد ، أن مرحلة الدّعوة على الأرض قد انتهت ، و حان الوقت لنقلها إلى الفضاء ، فمخلوقات من عوالم أخرى ينتظرون الخلاص .. فـ سبحان الذي سخّر لنا هذا و ما كنّا له مقرنين .. و بعد شهر من الجدل الساخن ، خرج الثريّ عن صمته ، فقال في إحدى شبكات التلفزيون اللّندنية : كان من المفروض أن أظهر على الشاشة منذ انتهاء المزاد ، لكنّني كنت في خطر .. فقد هدّدته الموساد بالقتل ، إن هو دخل المنافسة ، و لمّا رسا المزاد على اسمه ، اختفى فجأة و التزم الصمت . فاشتعل فتيل آخر للجدل ، حين عبّر متحدّث باسم الخارجية الأمريكية ، أن إسرائيل طلبت ـ و بشكل رسمي ــ من واشنطن التزام الحذر ، و أخذ الموضوع مأخذ الجدّ .. و على إثر ذلك ، أعلنت وسائل الإعلام الأمريكية ، بأن مرحلة جديدة من الحرب الباردة قد بدأت . أما الأمم المتّحدة ، فقد أبدت تخوّفها من إمكانية تراجع مجموعة من الدول عن اتفاقية الحدّ من الأسلحة النووية ، بما في ذلك بريطانيا و حلفاؤها .. و بعد شهر من الحرب الباردة ، أفصح المشروع العربي عن نفسه ، حيث أكّد نائب رئيس مدير المشروع المنتدب لدى هيأة الأمم المتّحدة ، أن تسخير محطّة مير لن يكون إلاّ للأغراض السلمية. هدأت زوبعة الجدل المحتدم ، و انخفضت صفّارات الإنذار في الدول المناوئة ، و بعد شهر من المفاوضات و المساومات ، خرج الحلم العربي عن سكّته ، إذ أعلنت كلّ شبكات العالم المسموعة و المرئية ، عن أوّل رحلة لمير العربية ، لا للمرّيخ و لا للقمر .. و إنما لرحلة سياحية في أضخم مركبة استكشاف عرفها التاريخ عبر مجرتنا الشمسية ، و بأفخم و أحدث وسائل الترفيه ، و التّذاكر تباع في كلّ سفارات العالم . خمد الشارع العربي بخيبة الأمل ، و عاد الناس أدراجهم إلى حكاياتهم و قصصهم الأولى ، و ما علق بالذّهن أمل ذلك الخطيب الذي تمنّى ـ في لحظة غرور ـ أن تنقل مير الدعوة إلى عوالم أخرى ، لكن عمر الحلم لا يعمّر طويلا ، و هاهو يعدّل من لهجته ، ليقول لمستمعيه : أيّها الناس إذا كانت الحسنة و السيئة تتفاضلان في الزمان و المكان ، فلألف معصية على وجه الأرض خير لي من معصية واحدة على محطّة مير التي ستنقل المعصية من الأرض إلى السماء .. اللهم إن هذا منكرا لا ترضاه .. و بعد ما أزبد و أرعد ، صلينا صلاتنا ، و هممنا بالانتشار ، لكن صوتا أجشّ استوقف المنصرفين مناديا : أيها المؤمنون الصلاة على جنازة يرحمكم الله . عــجـبا.. يا أبا الرّجا .. ! {8} .. كانت الصومعة العريقة تشهد المنظر الكئيب كل صباح و مساء .. تشهده في خشوع و تدمّر ، فتبدو و كأن مسحة الحزن تندلق من عينين حزينتين .. كلّما ارتفع صوت المؤذن مناديا للصلاة . آه ، لو تدري ما يصيبها من تصدّع ، لوددت لو كان للصوامع أياد تبطش بها ، أو ألسن تنطق بها .. أو حتى أعين تزجر بها . شاهدة غائبة ، منتفضة جامدة .. سُمّرت بأسلاك و قضبان حديدية .. هذا الإسمنت اللّعين يُعيق خطاها .. و هذه الهياكل المؤنّقة ، المنبطحة كالبغايا ، عديمة اللون و الرائحة .. تخنقها .. تصبّ الآنك في آذانها .. تطوي مسافات الصوت بأوثانها . و هذه الصوامع أذرع مشرعة ، ضارعة للخالق البارئ ، جلّ علاه . ــ اصطفوا .. اصطفوا .. و استووا .. نهضت مذعورا ، و أنا بين حلم و يقظة ، خُيِّل لي ـ في البداية ـ أن الصوت لإقامة الصلاة ، و بطريقة لاإرادية ، فرجت رجلاي قليلا ، ثم استويت ؛ لأن تسوية الصفوف من تمام الصلاة .. لكنني فوجئت بصوت غليظ منكر ، يشتم و يهدّد ، يسبّ و يتوعّد .. ساعتها ، أيقنت أننا لسنا في صلاة ، و إنما كنّا طابورا بشريا في انتظار طويل .. أمام باب مصحة ! ! جئنا من كلّ فجّ عميق ؛ مثنى و ثلاث .. فرادى و جماعات .. لغتنا واحدة .. آهاتنا واحدة .. و بأيدينا كراسات و ملفات ، و أوراق و تحاليل طبية .. و أوراق أخرى ضرورية ، أو بلغة العصر : أوتوماتيكية لفتح الأبواب ، و الأبواب شتّى .. ! ! و أوّل باب يُفْتح لك بها ؛ باب القلوب .. و بعدها الابتسامة و البشاشة .. فمن أوتيها فقد أوتي حضا عظيما . .. ما زال الصف طويلا .. الجباه كالحة ، و الشفاه يابسة .. الوجوه ألهبتها سياط المرض ؛ فلا تسمع سوى الأنين ، و العطاس مع السعال .. بعضنا افترش ملفّه الصحي ، و هوى على الأرض ، بعدما أرهقه الانتظار .. و بعضُنا اتخذ بعضَنا متّكأ و ملاذا . و الأعين اليائسة البائسة ؛ الخائفة القلقة .. تدور متعبة في محاجر كحّلها السقم ، تتحسّس أدنى حركة ، في انتظار ابتسامة عريضة من هذا الباب الحديدي الأصمّ الموصد ، و الذي يُخيّل إليك أنه لن يُفتح أبدا ، و كأنه أُغلق في وجه ياجوج و ماجوج.. مجرّد خشخشة شجرة أو حتى صوت قطة نطّت من هنا أو هناك .. قد تدخل دفء الأمل ، في هذه القلوب الكلمى .. فترى الأعين شاخصة صوب الباب ، و قد دبّت في النفوس حيوية و جلبة ، و في الأجساد النخرة حركة و حياة .. .. ما زالت الشمس قابعة خلف عمالقة الإسمنت .. برودة المكان و الزمان .. و هذا الحارس الفظ ، كلّما هشّ صوبنا شرْذم جمعنا ، و أطال انتظارنا .. و مع ذلك كان الصبر دواءنا ؛ فالمستشفى جنّة بالنسبة لنا ، و هذا الحارس أحد خزنتها ، لكنه ذو منصبين ؛ إما لك أو عليك ؛ لك ، إن أخرجت كتابك ( أوراقك ) بيمينك ، و قلت : ــ ها ؤم اقرؤوا كتابيا .. و أما من أوتي كتابه وراء ظهره .. فتلك هي القاضية ، فلن تسمع منه إلا دعاء : و نادوا يا مالك ليقضي علينا ربّك ، قال إنكم ماكثون .. .. كان عريض المنكبين ، مستدير الرأس ، تدحرج بطنه فوق ركبتيه ، و استدبر ظهره بطنه ، إلى درجة لا تستطيع معها التمييز بين جهاته الأربع فقلت في نفسي : ــ ألا يحسن بهذا الغافل أن يتّعظ بهذه الأجسام العليلة ، و يحمد الله على ما أنعم عليه من صحة و عافية .. ؟ ! ألا يتصوّر أنه في يوم ما ، قد يصيبه بعض ما أصاب هؤلاء ؟ ! أم يعتقد بأن بدانته هاته ستحول بينه و بين ما تخفيه له الأقدار .. ؟ ! أما سمع قول الشاعر : فكم من صحيح مات من غيـر علـة ] وكـم من سقيم عاش حيناً من الدهرِ وكم من فتى آمسى وأصبح ضاحكاً ] وأكفانه في الغيب تنسج وهو لا يدرِ كم وددت لو أهمس له بهذه الكلمات ، لكني تذكرت ، بأن القلب الذي لم يحرّكه هذا المشهد اليومي الحزين ، لن تحركه مجرّد كلمات عابرة من هاتف عابر .. فالقلوب إذا عميت طمست ، كما تُطمس الشموع في ليلة عاصفة .. بل رانت عليها المادة و المحسوبية ، و فقدان المسؤولية و الضمير .. و أخيرا انفرج الباب .. فدخلنا ـ أو قل كدنا ـ لأن كل ما مضى كان مجرّد انتظار ، و مع ذلك سعل شيخ مسنّ يطمئن نفسه الثكلى : ــ إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا و لكن هل يغلب الصبر انتظارين ؟ ! تشرذمت جموعنا ، على الأقل في الخارج كان السياج يجمعنا ، أما الآن ، فلم نجد أيّ شيء نتكئ عليه ، و كأننا وسط ساحة سجن عسكري .. و هل يقوى المرضى على الوقوف و بالأحرى الانتظار ؟ ! تنهدت مع المتنهّدين ، و تأفّفت مع المستنكرين .. لكن ذلك لم يُغيّر من الأمر شيئا .. فظلت عيناي عالقتين بالصومعة .. تتجاذبني خيوطها الذهبية بين ماض تليد و حاضر كئيب و مستقبل بعيد .. فيصلني صوت بلال نديا شهيا .. و أنشودة أهل يثرب ، و سنابك خيول الفاتحين ، و خطبة الوداع ، و كنتم خير أمة .. و من أين لك هذا ؟ و قرقري أو لا تُقرقري .. فترقرق فوق خد الذكرى دمعات . لن أنسى أبدا ذلك المشهد الرهيب ما حييت ؛ كانت تشكي و تتلوّى تبكي و تتألّم ، و صوتها المكلوم يمزّق جوف السماء : ــ يا عباد الله أغيثوني .. ظننتها في البداية مخبولة ، أو مسكينة تشكو الحاجة ، و لكنّني أخبرت فيما بعد أنها طردت من المستشفى شرّ طردة ، لأنها لا تملك النقود الكافية لاستئصال ورم خبيث في بطنها ، فظلّت قابعة هناك ، في حديقة المستشفى ، تقتات من جسدها و من نفايات المرضى .. حتى فارقت الحياة . فأيّ طبيب هذا الذي لا يرى في عينيك غير بريق الدنانير ، و لا يسمع من دقات قلبك سوى صرير الدراهم .. ؟ ! و أيّ إنسانية بقيت ، لمّا يمتنع الطبيب عن الكشف عن مريضه ، و هو يتمزّق ألما ، إذا ما نقصته دراهم معدودات من قيمة الفحص ..؟ ! و أيّ رحمة ننتظر ، إذا كان المستشفى يماطل في الكشف عن حالات مرضاه ، بدعوى أنهم تحت العناية المركّزة ، و الحقيقة أنهم فارقوا الحياة . و كلّ ذلك من أجل بقائهم مدّة أطول ، ليكون أداءهم أكبر لفاتورة المستشفى الموقّرة .. ؟ ! و أيّ شفاء يأتيك ، و الطبيب يعرف داءك و دواءك ، و مع ذلك يراوغك و يسوّفك .. حتى تتكرّر زياراتك ، و بالتالي تتكرّر خيراتك .. ؟ ! فأين قسم أبقراط .. ؟ و أين أدب الطبيب للرّهاوي .. ؟ و أين وصايا صلاح الدين الكحّال الحموي .. ؟ و أين .. ؟ ! و أين .. ؟ ! .. صاحت مرّة أخرى في وجهي و هي منفعلة : ــ أنت ماذا لديك .. ألا تسمع ..؟ ! فانتبهت على وقع صراخها ، كنت في غيبوبة شبه تامة : ــ أريد مقابلة الطبيب .. ــ أيّ طبيب .. ؟ ــ طبيب القلب .. ارتسمت علامة استفهام بين عينيها ، و زمّت شفتيها كنقة حمراء تحتها ، ثم قالت في أسف مزعوم : ــ آسفة لا يمكنك مقابلته الآن .. ــ و لماذا ؟ ! ــ لأنه في عطلة .. ــ في عطلة ! و متى سيعود ؟ ــ لست أدري .. بعد شهر .. بعد شهرين .. لا أظنّ .. ! المهم يمكنك أخذ موعد آخر للمقابلة .. ــ يعني انتظار جديد ؟ ــ كل شيء اليوم فيه انتظار .. حتى يوم القيامة فيه انتظار . ــ و لكنه انتظار عدل و حقّ ، ليس فيه أبواب سرية .. و لا هذا من قبل هذا أو من طرف ذاك .. و لا رنات هاتف أو بخاشيش .. ننتظر نعم ، و لكن دون أحساب و لا ألقاب .. و لا جيوب و لا أبواب سرية . خطّت حروفا مبهمة و مبعثرة ، ثم زحلقت إليّ الورقة من خلف الزجاج ، و لم تمهلني بعدها لحظة واحدة للسؤال ، ثم انصرفت دون مبالاة .. هرولت صوب ممرضة أخرى ، فأشارت بكتفيها أنها مشغولة .. حاولت مع أخرى فانتفضت مثل قطة مدلّلة : ــ ألا يمكنك الانتظار .. إنّي مشغولة .. ألا ترى ..؟ ! .. أحسست بنافورة الدماء تتدفّق ، و فار التنّور .. و اتقدت خلايا الصمت دفعة واحدة .. و نيرون المسكين يعزف كمان الصبر ، و لكن للصبر حدود . لم أر غيره أمامي لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه .. إلا هو ، كان مكتوف اليدين ، و هو ينظر إليّ في شماتة ، فلم أجد بدّا من نجدته .. فهم القصد ، فأشاح بوجهه العريض عني .. تحسست جيوبي ، فلم أعثر فيها على الأوراق الأوتوماتيكية ، بل عثرت فقط على تذاكر الحافلة التي أقلّتني للوصول إلى هناك .. و لحسن الحظ ظن أني سأعطيه شيئا ما ، فصحى وجهه المكفهر فجأة ، و أقبل عليّ مهرولا ؛ هاشا باشا .. دون نداء ، فمددت إليه الورقة ليتفحّصها ، و بسرعة الضوء جاء الجواب : ــ عندك رانديفو ، بعد شهرين ؛ 10 أكتوبر .... فانتزعت الورقة من بين مخالبه ، و استقبلت الباب الرئيسي .. فحدّق فيّ بعينين ناريتين ، و كأني به يسألني : ــ .. ءاتنا عطاءنا لقد لقينا من عملنا هذا نصبا .. فتذكرت فتى موسى عليه السلام ، و بين شدقي ابتسامة مكتومة ، و لسان حالي يقول : ــ أ رأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، و ما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ، واتّخذ سبيله في البحر عجبا .. و لم أجتز دفتي الباب حتى كان موعدهم يسّاقط كندف الثلج على الحديقة الجرباء ؛ و أنا أندفع في حيوية و نشاط لم أعهدهما فيّ من قبل ، فعدت إلى بيتي و كأنني نشطت من عقال ، فسبحان مقلّب الأحوال و مسبّب الأسباب .. و جاعل الشفاء و لو في جرعة ماء

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.