سكان المدينة القديمة بالدار البيضاء لم يفهموا كيف أصبحت فجأة بلاطات أزقة درب بوسمارة نظيفة، بعدما تحولت في السنوات الأخيرة إلى مزابل لرمي بقايا سمك الميناء الذي ينظفه بائعوه هناك قبل توزيعه على المطاعم والأسواق. أصبحت أزقة الحي نظيفة جدا إلى الحد الذي يمكنك أن تمشي فوق بلاطاتها حافيا دون أن تتسخ قدماك. الذين «حكوا» الأزقة ونظفوا الجدران وغرسوا الأشجار تحت جنح الظلام استعدادا للزيارة الملكية للحي، نسوا أن الملك يزور الأمكنة بالنهار بشكل رسمي قبل أن يعود إليها ليلا بشكل منفرد لكي يزور الساكنة ويستمع إليها مباشرة بدون وساطة من أحد. وكما عاد الملك إلى سلا ليلا داخل سيارته لكي يتفقد الأوراش التي أمر بإطلاقها، فقد عاد إلى حي بوسمارة ليلا لكي يحل ضيفا على عائلة بسيطة ويسمع شكواها، مثلما صنع في الحسيمة قبل شهر. ولا بد أن العائلة التي حل الملك ضيفا عليها شرحت بين يديه الوضعية الحقيقية للمدينة القديمة، تلك التي لم يزرها العمدة قط، وكيف أصبح نصف أبنائها في السجون بسبب المخدرات ونصفها الآخر في الشوارع بسبب البطالة. المدينة القديمة التي كان رجالها أول من تصدى للإنزال الفرنسي عبر البحر من باب الصقالة، تلك الصقالة التي عندما سمع أصحابها أن الملك سيأتي لزيارة المدينة القديمة راجلا جمعوا كراسيهم وموائدهم وأخفوها داخل حاويتين حديديتين بانتظار انتهاء الزيارة الملكية للموقع التاريخي من أجل إعادتها إلى مكانها. هكذا استعادت الصقالة هيبتها التاريخية لبضع ساعات، قبل أن تعود إلى حاضرها، أي إلى مجرد مطبخ ومطعم. ورغم الكاميرا الخفية التي قام بها «مالين المكان»، فإن أي طفل صغير في حي بوسمارة يعرف أن هذا الحصن التاريخي، الذي يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 400 سنة والذي تم بناؤه لصد الهجمات البحرية على المدينة، تحول اليوم إلى مجرد مطعم يمنع دخوله دون دفع ثمن وجبة أو استهلاك مشروب. الهستيريا التي تصيب المسؤولين عندما ينتهي إلى علمهم أن الملك سيزور منطقتهم تجعلهم يرتكبون أحيانا حماقات لا حدود لها. وبمناسبة قرب تدشين الملك لخط الترامواي بسلا، بدأ المقدمون يطوفون على أصحاب البنايات التي سيمر الترامواي بالقرب منها من أجل صباغتها بأنفسهم وإلا ستكون السلطة ملزمة بإحضار شركة خاصة لصباغتها مع تحديد المبلغ الذي تريده. وبما أن المسؤولين في سلا لا يعرفون بالضبط الطريق التي سيسلكها الملك خلال تدشينه للترامواي، أو ربما قد يغير مسار طريقه في آخر لحظة، ودفعا لكل «حصلة» محتملة، فقد قرروا صباغة الطريق الرابطة بين مكتب بريد تابريكت ومحطة القطار تابريكت، وأيضا مدار حي كريمة في اتجاه حي الشيخ لمفضل. ومن يرى كيف يسابقون الزمن من أجل صباغة الشوارع يتصور أن المسؤولين «دارو نفس» أخيرا وقرروا أن ينزعوا عن مدينتهم تلك الأوساخ المتراكمة، لكن الحقيقة شيء آخر تماما، فكل همهم هو أن ينقذوا المظاهر، مثلما صنع أقرانهم في الرباط عندما صبغوا واجهات شارع محمد الخامس المطلة على الشارع باتفاق مع شركة للصباغة بمناسبة إعلان الرباط مدينة خضراء، وتركوا الواجهات الجانبية والخلفية خضراء من كثرة «الخز» الذي تنضح به. رغبة المسؤولين في إنقاذ المظاهر إلى حين انتهاء الزيارة الملكية يمكن أن تكون قاتلة أحيانا. فعلى بعد أمتار عن القصر الملكي، انهار يوم الثلاثاء الماضي عمود كهربائي إسمنتي يزن مئات الكيلوغرامات فوق مقدمة شاحنة أحد المواطنين وكاد يقطع رجليه (أنظر الصورة في الصفحة الأولى). فمسؤولو سلا فكروا في طلاء الطوارات وجمع الأتربة التي تراكمت على جنبها، لكنهم نسوا تفقد أعمدة الإسمنت الثقيلة المنصوبة جنب الطريق والآيلة للسقوط. والمصيبة أن الحادثة وقعت يومين بعد مرور الملك من الطريق نفسها بمناسبة زيارته لمركز المعاقين. إن المعاقين الحقيقيين ليسوا أولئك الذين يوجدون داخل مراكز الإعاقة وإنما هم أولئك المسؤولين الذين يوجدون في مراكز القرار، والعاجزين عن القيام بواجبهم دون حاجة إلى «منغاز» يلكز جنوبهم في كل مرة. إن ما يحدث للمدن المغربية العريقة من بهدلة على أيدي هؤلاء المسؤولين والمنتخبين الذين تسلطوا عليها يثير الغضب والحسرة في آن، فهم يعتقدون أنهم بتمثيلهم لدور المسؤولين المجدين والمجتهدين خلال الزيارات الملكية، وصبغ الأشجار و«البوطوات» وتبليط الأزقة وتزفيت الشوارع تحت جنح الظلام، فإنهم سينجحون في التغطية على كوارثهم التي تزكم رائحتها الأنوف. ولعل مصيبة مدينة كسلا أنها أسندت أمورها إلى غير أبنائها، فالذين يسيرون شؤونها غرباء عن المدينة، فالسنتيسي، العمدة السابق، جاء من مكناس، ولزرق، العمدة الحالي، جاء من الرباط. والسلاويون الحقيقيون لا يوجدون في مراكز القرار بالمدينة، رغم أن سلا أنجبت رجال دولة كثيرين كمعنينو، كاتب عام وزارة الإعلام، والمستشار عواد، وشماعو، وزير التشريفات والأوسمة، والمستشار إدريس السلاوي، وسعد حصار الذي كان المهندس الحقيقي لمشروع سلاالجديدة عندما كان رئيسا للمحافظة العقارية التي «أهدى» خلالها «صفقة» تحفيظ سلاالجديدة لموثقة واحدة هي مدام بلفقيه، ابنة المستشار الراحل مزيان بلفقيه. وربما لهذا السبب انتقد الحسن الثاني، رحمه الله، ضعف المبادرة عند السلاويين خلال زيارته التاريخية للمدينة، رغم أن بعثة من أقطاب سلا وضعت لدى الحسن الثاني طلبا لاعتبار الرباطوسلا عاصمة للمملكة، أسوة بعواصم عالمية تتكون من مدينتين يفصل بينهما نهر، كبودابيست عاصمة هنغاريا المكونة من مدينة «بودا» و«بيست». غير أن لوبي المستشارين الرباطيين تصدى لهذا المطلب، وبقيت سلا مجرد غرفة نوم لموظفي الرباط. عندما تبني الرباط متحفا أو مكتبة وطنية أو مستشفى كبيرا، تبني سلا سجن الزاكي ومستشفى للمختلين عقليا. وحتى عندما شيدوا في سلا جامعة دولية، واعتقد السلاويون أنها ستحمل اسم مدينتهم، اكتشفوا أن اسمها أصبح فجأة هو «الجامعة الدولية للرباط». لقد دفعت سلا ثمن مقاومتها للغزوات الصليبية عندما تصدى رجال بحريتها لسفن الغزاة الطامعين في احتلال شواطئ المملكة، ودفعت ثمن نضالها ضد الاستعمار الفرنسي الذي أعلن الرباط عاصمة للمغرب سنة 1912 مكان فاس، وهاهي سلا اليوم تتحول إلى مدينة مهملة على مشارف العاصمة. وإذا كانت سلا تعاني الإهمال والتسيب وانعدام الأمن، فإن مدينة تاريخية كمكناس تعاني من العطش. تخيلوا أن مدينة من أغنى المدن المغربية بالعيون المائية تعاني، منذ 18 سنة، من انقطاع الماء كلما هطلت الأمطار. جميع بلدان العالم تعرف خزاناتها فائضا في مياه الشرب عندما تهطل الأمطار إلا في مكناس. وبمجرد ما تنزل القطرات الأولى يتسابق المواطنون لملء الأواني بالماء تحسبا لقطعه. ولعل قمة الاستخفاف بمدينة عريقة كمكناس وبسكانها الذين كتبوا صفحات مشرقة من تاريخ المغرب، هي عندما يقول علي الفاسي الفهري، مدير المكتب الوطني للماء، إن المشكل سيتم حله في أفق سنة 2012 عبر بناء محطة للتصفية، ولن يتم حل الإشكال بشكل نهائي إلا سنة 2030، وكأن الأمر يتعلق بمحطة نووية لتخصيب اليورانيوم وليس بمحطة لتطهير مياه الشرب. من حق علي الفاسي الفهري أن يتحدث عن 2012 و2030 لحل مشكل انقطاع الماء عن المكناسيين، فهو يعيش في فيلته بالرباط حيث المياه التي يهدرها على مسبحه تكفي لإنقاذ حي بكامله من العطش، فهو لا يعرف أن المواطنين في مكناس أصبحوا محرومين من الاستحمام وغسل أوانيهم وبيوتهم وثيابهم، خصوصا في هذا الحر الذي وصل إلى خمسين درجة، ولا يعرف أن الأمراض الجلدية وأمراض الجهاز الهضمي والحساسية أصبحت تتربص بساكنة مكناس بسبب قلة النظافة وتلوث مياه الشرب. من يستهزئ بحساسية قضية الماء في مكناس ويستصغر شأنها يعطي الدليل على جهله المريع بالتاريخ. فبسبب الماء، اندلعت انتفاضة شعبية عارمة في المدينةالإسماعيلية سنة 1937 عندما حاول الاستعمار الفرنسي الاستيلاء على مياه وادي بوفكران وتحويلها نحو ضيعات المعمرين والمنشآت العسكرية الفرنسية بالمدينةالجديدة، في وقت كانت فيه الساكنة في أمس الحاجة إلى مياه الوادي. أليس مخجلا أن مدينة تاريخية عريقة كمكناس كانت عاصمة أحد أعظم ملوك الدولة العلوية، تصبح اليوم فريسة للعطش في عز الصيف ورمضان. إن المسؤولية في هذه الكارثة لا يتحملها الوالي الجديد وحده، بل يتحملها معه الوالي القديم حسن أوريد الذي مكث في مكناس طوال السنين الأخيرة و«أدمن» على غرس النباتات عوض التفكير في إنشاء محطة لتصفية مياه الشرب. إن مشاكل المدن العويصة لا ترتبط بمسؤوليها الحاليين، بل أيضا بالمسؤولين السابقين الذين «يسلتون» قبل أن تقع الفأس في الرأس، مثل عامل الحسيمة الذي تم «تهريبه» إلى عمالة مراكش قبل وصول الزلزال الأكبر الذي أطاح بأغلب مسؤولي المدينة. هؤلاء أيضا يجب أن يحاسبوا على التركات الثقيلة التي يخلفونها وراءهم عندما يغادرون مناصبهم نحو كراس أخرى، تاركين الذين يأتون مكانهم عرضة لبهدلة الصحافة والرأي العام. بعبارة أخرى، ما حدث في الحسيمة من اختلالات على المستوى المركزي يتحمل مسؤوليته العامل السابق أيضا، والذي لجأ إلى حماية ال«سبع نساء» اللواتي أصبحن يحكمن مراكش مكان السبعة رجال «ديال بكري».