ما يجري في الشواطئ الممتدة على طول سواحل مضيق جبل طارق بين طنجة وسبتة يصعب على الوصف. إنها شواطئ على قدر كبير من الجمال الطبيعي، لكن رمالها ومياهها تحولت إلى مزابل حقيقية وبؤرة للأمراض والميكروبات. من لم يزر هذه الشواطئ لا يمكنه أن يتصور حجم الفضيحة. في صباح الاثنين 6 يوليوز الجاري، كانت جرافات تهدم أحد المنازل بشاطئ وادليان بدعوى احتلال الملك العمومي. عملية الهدم كانت سريعة وحماسية وحضرها مسؤولون من عمالة فحص بني مكادة، وهؤلاء المتحمسون للهدم لم ينتبهوا إلى أن هذا الشاطئ تحول منذ أزيد من عقدين إلى مزبلة عمومية، ولا يوجد به أي برميل قمامة، ومع ذلك لم يتحرك حماسهم لتنظيفه. إنهم يتحمسون للهدم فقط. «في هذا الشاطئ (35 كلم شرق طنجة) توجد أزبال منذ أزيد من 20 عاما، وهي أزبال أغلبها مدفون تحت الرمال، وإذا قامت المصالح المعنية بقليل من النبش في رمال الشاطئ، فإنها ستكتشف مزابل بحجم الفضيحة».. هذا ما يقوله أحد سكان وادليان، والذي يؤكد أنه منذ أزيد من عقدين لم تخضع هذه المنطقة لأية عملية تنظيف، وأن رمالها التي كانت في وقت من الأوقات صافية ونظيفة، صارت اليوم تميل نحو السواد. شاطئ وادليان هو واحد من أكبر الشواطئ الموجودة في ضواحي طنجة، وهو يغري تلك الجهات التي أصبحت تعرف في طنجة ب «مافيا الشواطئ»، التي تعتبر أن مصلحتها هي ترك الشواطئ تغرق في التلوث والأزبال، وبعد ذلك تتقدم بمشاريع استثمارية بدعوى أن الشاطئ مهمل وغير لائق، ثم يقوم موظفون فاسدون داخل الإدارات والمؤسسات العمومية بتعبيد الطريق أمام هذا الطلب، ويصبح الشاطئ في خبر كان. ما سيقع في شاطئ وادليان قد حدث بالفعل في شاطئ سيدي قنقوش، الذي كان ولا زال مقصدا لعدد كبير من سكان طنجة على مر العقود، واليوم أصبح محاطا بسياج من أجل تحويله قريبا إلى مشروع خاص. وفي شاطئ الديكي، على مقربة من شاطئ وادليان، يمكن ملاحظة أن الأكياس السوداء المدفونة تحت الرمال أكثر من تلك الموجودة فوقها. وفي كل يوم يترك المصطافون أزيد من 50 علبة بلاستيكية مليئة بالأزبال فوق الرمال لأنهم لا يجدون أين يضعونها، فلا توجد براميل خاصة بالقمامة. هذا بالإضافة إلى الأزبال التي يتركها الناس فوق الرمال: بقايا الطعام.. علب التون الفارغة.. قنينات المشروبات الغازية، حفاظات الأطفال المتسخة، قشور الدلاح والبطيخ.. وكل ما يخطر على بال. شاطئ الديكي ضيق ولا يحتمل الكثير من المصطافين، لكنه هذا الصيف لا يطاق، لأنه تم القضاء نهائيا على شاطئ الزاهارا المجاور بعد أن أنشئ فيه ميناء القاعدة البحرية. شاطئا الديكي والزاهارا وشواطئ أخرى صغيرة كانت تستقبل، كل يوم، الآلاف من سكان طنجة الهاربين من زحام الشواطئ القريبة من المدينة، لكن تلك الأيام ولت إلى غير رجعة. شواطئ في غرفة الإعدام شاطئ القصر الصغير وجه آخر من وجوه الوساخة في شواطئ مضيق جبل طارق. إنه شاطئ يشبه شخصا داخل زنزانة ينتظر الإعدام. فهذا الشاطئ الذي ظل، على مر العقود، ملجأ لسكان طنجة الذين يهربون من الزحام والتلوث، أصبحوا يعيشون فيه عز الزحام والتلوث، لأن ما يقع في الشواطئ المجاورة يقع فيه أيضا. كما أن قربه من ميناء طنجة المتوسط جعله في قلب جدل حول تفويته في وقت قريب إلى جهات ما، ولا أحد يعرف ما هي هذه الجهات لأنه في طنجة تسري الإشاعات باستمرار حول تلك «الجهات النافذة» التي ستحتل هذا الشاطئ أو ذاك، أو يتحدث السكان عن هذا الشخص أو ذك، لكن الحقيقة تبقى غير واضحة، لذلك يكتفي الطنجاويون باستعمال كلمة «المافيا»، من أجل وصف الجهات التي تسطو اليوم على مدينتهم وشواطئها وغاباتها ومناطقها الخضراء. هناك قطار يحمل، كل يوم، الآلاف من سكان طنجة إلى شاطئ القصر الصغير والشواطئ المجاورة له، وذلك عبر خط السكة الحديدية الذي تم افتتاحه مؤخرا. لكن من الغريب أن يتم حمل الآلاف من الناس على متن قطارات في خط سكة جديد لكي يستحموا في القاذورات ويستلقوا في الرمال، وعلى يمينهم وشمالهم المزابل والذباب والحشرات والفئران... قرب شاطئ القصر الصغير يوجد شاطئ الدالية المقسم إلى جزأين، الجزء الأول المعروف بشاطئ واد الرمل الذي «نبت» فيه ميناء «طنجة المتوسط»، وخلف الجبل المجاور للميناء يوجد الشاطئ الآخر الذي يجاور غابة جميلة تتآكل سنة بعد أخرى. الناس يسمون هذه الغابة غابة الدالية، لكنهم يسمونها أيضا غابة أحرضان، نسبة إلى المحجوبي أحرضان الذي يقولون إنه ضمها إلى أملاكه الخاصة منذ سنوات الثمانينيات، حين كان في أوج قوته حكوميا وحزبيا. من الذي أعطاها له؟ كيف ولماذا؟ وبأي ثمن؟ إنها أسئلة بلا مجيب. في هذا الشاطئ يسبح الناس وهم يخافون أن تصلهم الجرافات القريبة، لأن فوق سمائهم يمر ذلك الغبار الكثيف الذي تتسبب فيه آلات الحفر العملاقة في المقالع التي تخرب الطبيعة في الجبال المجاورة. «الذين يفكرون في ما يسمى التنمية لا يقيمون أدنى اعتبار لحاجة الناس إلى شواطئ نظيفة ونقية، ومن سوء حظ سكان طنجة أن التهميش الذي طال مدينتهم لعقود طويلة بعد الاستقلال انتهى الآن.. كانوا يعيشون حياتهم ويستمتعون بأيامهم أيام التهميش، وبعدما جاءت التنمية لم يعد الناس يجدون حتى مكانا يسبحون فيه باطمئنان». هذا الكلام يقوله الكثير من سكان طنجة، والغريب أنهم يتفقون حتى في استعمال عبارات مثل «رحمة الله على أيام التهميش الجميلة»!.. لا يمكن تنظيف كبش قبل ذبحه لماذا شواطئ أشقار، على المحيط الأطلسي، نظيفة وشواطئ مضيق جبل طارق وسخة وقذرة؟ أحد مسؤولي مصلحة الشواطئ في ولاية طنجة يجيب قائلا: «نحن نقوم بمبادرات خاصة، في ولاية طنجة من أجل تنظيف وتجهيز الشواطئ التابعة للولاية، كما أننا نتعاقد مع مؤسسات خاصة مثل اتصالات المغرب لكي تقوم بهذا العمل»، ويضيف بافتخار واضح «تعالوا إلى تلك الشواطئ وسترون المجهود الذي يتم هناك، لقد منعنا أيضا ولوج دراجات الجيتسكي إلى أماكن السباحة من أجل أمن وراحة المصطافين». لكن مقابل هذا الاطمئنان، يقول المصطافون إن دراجات الجيتسكي لا تزال «تقفز» قرب رؤوسهم في هذه الشواطئ، والدراجات الرملية ذات الأربع عجلات تلعب الرالي بين الأطفال والنساء. الغريب أن شواطئ أشقار نظيفة وجميلة، لكنها خطيرة، وكل عام يلقى أزيد من 20 شخصا مصرعهم غرقا فيها، وأحيانا يصل الرقم إلى أعلى من ذلك، لذا فإن الكثير من سكان طنجة يقصدون شواطئ البحر الأبيض المتوسط، لكنهم يكتشفون أنها أكثر خطرا، بسبب الوساخة والقذارة والجيتسكي والدراجات الرملية. شواطئ المحيط الأطلسي نقية، لأنها تابعة لولاية طنجة، وشواطئ مضيق جبل طارق وسخة، لأنها تابعة لعمالة الفحص – أنجرة، وهي عمالة توصف بالضعف والوهن وغياب الشخصية وتلقي الأوامر وتنفيذها. «المساء» حملت هذا السؤال المقلق إلى عمالة الفحص بني مكادة: لماذا الشواطئ التابعة لعمالتكم وسخة وقذرة وخطيرة صحيا، رغم أنها تحظى بإقبال كبير؟ الجواب هو أن المكلفة بمصلحة البيئة في العمالة توجد حاليا في عطلة أمومة، وستعود بعد بضعة أسابيع وستجيبكم، تقول موظفة في هذه العمالة. _ ومن سيجيبنا حاليا عن أسئلتنا؟ _ لا يوجد من ينوب عنها، لكن اتصلوا بموظف آخر ربما يجيبكم، وهذا رقم هاتفه... الموظف الآخر يقول إنه يريد أسئلة مكتوبة وسيحملها إلى العمالة، لكي يجيبوا عنها بشكل جماعي، يعني... بعد ذلك، حاولت «المساء» الاتصال بالكاتب العام لعمالة فحص أنجرة، لكنه بدوره في عطلة، أما مدير ديوان العامل فليس لديه ما يقوله، ويقترح علينا انتظار دخول الكاتب العام من عطلته لكي يجيب. هل يحتاج سؤال حول القاذورات في الشواطئ إلى كل هذا الجهد في الانتظار؟ شيء عجيب.. لكن إذا عرف السبب بطل العجب. الجواب المرتبك لهذا المسؤول يعكس طبيعة عمالة فحص بني مكادة التي توصف بالضعف وبكونها لا تملك أية صلاحيات، باستثناء تنفيذ الأوامر، وكل ما يقوم به المسؤولون هناك هو الضغط على سكان الأراضي المجاورة لهذه الشواطئ أو سكان الأراضي الأخرى في أنجرة وغيرها من أجل التخلي عن أراضيهم. وكثيرون يصفون هذه العمالة بأنها مجرد شبح، والعامل مهمته لا تتعدى استدعاء الناس الغاضبين على عمليات نزع الملكية وتهديدهم أحيانا. «بغيتو ولا ما بغيتوش غادي ناخذو الأرض»! هكذا يبدو واضحا إذن أن الوساخة في الشواطئ المتوسطية لطنجة عمل مقصود لأنها شواطئ دخلت المذبح وتنتظر فقط تمرير السكين على عنقها، وعمالة فحص-أنجرة مجرد عبد مأمور لا تهش ولا تنش، لذلك فإن الحالة المزرية التي توجد عليها هذه الشواطئ مسألة طبيعية، لأنه لا يمكن غسل كبش قبل ذبحه. هذا هو واقع طنجة، وهذا هو واقع صيف طنجة. لذلك فإن الناس عندما يقولون «رحم الله أيام التهميش في طنجة»، فإنهم يترحمون على أيام جميلة جدا لن تعود.. على ماض جميل تفترسه التنمية المتوحشة التي لا تقيم للإنسان أي اعتبار... شاطئ «مرقالة» كابوس.. و«أشقار» مقبرة من لا مقبرة له.. و«البلايا» حكاية حزينة شاطئ «مرقالة» يوجد في قلب المدينة، وفيه تجتمع متناقضات كثيرة. فهناك عملية إعادة تهيئة تجري على قدم وساق، عبر شق طريق يربط بين الميناء وبين الضاحية، وهو ما يمكن أن يخفف الضغط بشكل كبير على وسط المدينة، كما سيمكّن ذلك من فتح متنزه جميل في هذا الشاطئ الذي عاش سنوات عزلته الجميلة على مر العقود. لكن الكارثة أن هذا الشاطئ يستقبل كل يوم مئات الأطنان من المياه العادمة ومياه الواد الحار الخطيرة، والتي تفرغ كلها في قلب الشاطئ الذي يسبح فيه كل يوم الآلاف من الناس، بينهم كثير من الأطفال الذين أصيب عدد منهم بقروح وأمراض جلدية متنوعة. إنهم يسبحون في شاطئ ملوث %100 ، لذلك فإن تعرضهم لأمراض مختلفة مسألة طبيعية جدا، ومع ذلك ليس هناك أي تحرك لفعل شيء ما. التسيب في شواطئ طنجة لا يقتصر على التلوث البيئي فقط، بل هناك تلوث سلوكي يتمثل في الدراجات النارية الرملية التي تزرع الهلع بين المصطافين فوق الرمال، وعندما يدخلون إلى الماء يكتشفون أن دراجات الجيتسكي تطاردهم هناك. كثير من هذه الخروقات الخطيرة وتهديد لراحة الناس وأمنهم تجري على مقربة من مراكز أمنية بها جنود طيلة اليوم. لكن العسكر لا يتحركون. في عدد من الشواطئ يبدو غريبا أن تجتمع كل الأخطار، تجتمع كلاب البيتبول مع دراجات الجيتسكي والدراجات الرملية. ماذا يفعل العسكر إذن؟ الشاطئ البلدي «البْلايا» حكاية حزينة. لقد كان مفخرة طنجة على مر العقود، واليوم صار مهزلة المدينة ووجهها البائس، وهناك أودية كبيرة تفرغ فيه أطنان من الميكروبات كل يوم، والناس لا يزالون يسبحون فيه، خصوصا من الوافدين على المدينة الذين لا يفرقون أحيانا بين البحيرة والبحر. «البلايا بلانكا»، أو شاطئ الأميرالات، يشبه علبة سردين، والحديث يدور عن تفويته أيضا. حول الشاطئ مئات المنازل التي تفرغ فضلاتها في الماء، يعني أن الناس يسبحون في فضلاتهم. شاطئ أشقار، تغيرت بنيته البحرية ونشأت فيه وديان ودوامات خطيرة، بفعل الاستنزاف الكبير لرماله، وأيضا بسبب الاستنزاف الذي تعرض له من طرف بواخر عملاقة كانت تمتص رماله ومرجانه من الداخل، ثم ترحل من دون أن يعرف الناس ماذا يقع. السماسرة في هذه المدينة يبيعون كل شيء، يبيعون الرمل والأرض والغابة والبحر والسمك والمرجان.. ولا أحد يحاسبهم. وسط كل هذا العبث، يتساءل الناس هل هناك مجتمع مدني في طنجة يمكن أن يرفع صوته يوما بالاحتجاج؟ هذا سؤال صعب لأن مسؤولي الجمعيات يفضلون التقاط صور إلى جانب الوالي والعامل والعمدة، عوض أن يقفوا إلى جانب مطالب الناس.