طنجة ولدت من أسطورة، واستمرت فيها الأساطير، ومن بين هذه الأساطير محاولة تحويل المدينة إلى منطقة صناعية كبرى تنافس الدارالبيضاء أو تتفوق عليها. تخيلوا شخصا ينظر إلى زلافة من قش ويفكر مع نفسه أنه سيحولها إلى طبصيل حديدي كبير.. ماذا سيحدث بعد ذلك، ستتكسر الزلافة ولن تصبح أبدا صحنا كبيرا. طنجة اليوم تتكسر، ولن تصبح أبدا مدينة كبيرة بمقاييس عالمية، ولن تعود أبدا كما كانت مدينة حالمة ورائعة. الأسطورة الأشهر تقول إن طائرا كان في سفينة نوح خلال الطوفان طار بعيدا ثم عاد وفي رجليه طين، فصرخ ركاب السفينة «الطين جاء.. الطين جاء»، فسميت المدينة طينجا.. لأنها أول أرض ظهرت بعد الطوفان. لكن الواقع الآن يقول إن طنجة أول مدينة تغرق في الطوفان، يعني طوفان التنمية، لذلك ترتفع فيها حاليا نسب الجريمة والتلوث والتشرد والفقر والرشوة والفساد والصفقات المشبوهة. لو عاد الطائر إلى الوجود وحلق فوق سماء المدينة لعاد إلى سفينة نوح وفي رجله عمارة، فيصرخ الركاب «عمارة جات.. عمارة جات».. ويصبح اسم المدينة عمارستان. المدينة التي تحتضن واحدا من أكبر الموانئ في حوض البحر الأبيض المتوسط تختنق فيها حركة المرور إلى حد يبعث على الجنون، وشوارعها الضيقة تتحول صيفا إلى ما يشبه حمامات الصاونا، والسائقون يكادون يفقدون عقولهم. شواطئ المدينة التي كانت حلما للكثيرين أصبحت ملوثة، ورغم أن والي المدينة نزل يوما وغطس في الشاطئ البلدي لكي يفند نظرية التلوث، فإنه لم يفعل ذلك ثانية، وأصبح يعوم في بحره وترك أمور الغطس لعموم الشعب. وعموما فإن الناس يشكرون الوالي وحاشيته لأنهم الوحيدون في تاريخ المدينة الذين ارتدوا سراويلهم القصيرة وغطسوا في الماء غطسة رجل واحد ثم انصرفوا مسرعين لكي يغتسلوا بالمياه النقية. الشواطئ الممتدة من طنجة حتى حدود سبتة أصبحت مزابل مفتوحة، والمسؤولون والمجالس الجماعية تكرس ذلك الوضع في انتظار قدوم شركات عملاقة ومؤسسات سياحية عالمية لكي تطرد الناس والسكان وتتحول الشواطئ إلى محميات سياحية. ومن لا يصدق ذلك عليه أن يقوم بجولة ابتداء من شاطئي المريسات والغندوري ومرورا بشواطئ قنقوش ووادليان والقصر الصغير والدالية. عمليات هدم المنازل وطرد السكان ومنعهم من البناء في مناطقهم مستمرة لأن رؤوس الأموال الجشعة والمتوحشة فتحت عيونها فجأة على هذه المنطقة الساحرة المطلة على جبال أوروبا، لذلك لا يعقل أن يستمتع الفقراء والسكان الأصليون بها. في هذه المناطق تسكن قبائل جاء أفرادها مطرودين من الأندلس قبل مئات السنين، وسكنوا جنب البحر ينتظرون عودتهم إلى وطنهم يوما، فلا هم عادوا إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، ولا هم سيبقون في موطنهم الحالي. المال المتوحش والسماسرة القذرون لا يهتمون بالتاريخ ولا بالإنسان. المناظر الجميلة على جنب البحر يجب أن تكون من نصيب الأغنياء، أما الفقراء فعليهم أن يختفوا خلف الجبال، لذلك فإن عمليات البناء ممنوعة بالمطلق على السكان، والمشاريع الضخمة ترتفع مثل نباتات شوكية، يسقونها في الليل وتنبت في الصباح. سكان هذه المناطق قاوموا الإسبان بقوة، وصمدوا أمام الأسلحة الكيماوية الرهيبة التي ألقيت عليهم من السماء، لكنهم يقفون اليوم عاجزين أمام الأساليب الكيماوية الجديدة للمستثمرين الجشعين. وفي المناطق القريبة من ميناء طنجة المتوسطي، انتحر رجل بعد أن أخبروه بضرورة الرحيل، ومات آخر غبنا بسكتة قلبية، وقتل رجل أخته وجرح ابنتها ببندقية صيد من أجل أن يستفرد بأرض ويبيعها لمستثمرين أجانب. التنمية تأتي بالمال للمستثمرين، وباللعنة والموت للسكان. في هذه المناطق يحتج الشباب كل أسبوع تقريبا من أجل العثور على عمل في الميناء الجديد، لكن الشركات التي توظف العمال هي في أغلبها من الدارالبيضاء، وفي هذه الحالة المقربون أولى، يعني المقربين من الدارالبيضاء وليس من الميناء. وعلى طول وعرض تلك الجبال الخضراء ما بين طنجة وتطوان ومضيق جبل طارق تمارس المقالع عملية إبادة كبرى في حق الطبيعة والبشر، فيتلوث الماء وتتحول الحقول إلى صحراء، ويحتج الناس فتأتي شاحنات محملة بالجنود وتنزل بهراواتها على الرجال والنساء والأطفال. القوة للمال وحده، والمجد للعلاقات والنفوذ. في هذه المناطق التي حافظ سكانها على تقاليد مدهشة في الحياة الاجتماعية والملبس والمأكل والسكن، يسود الآن منطق البقاء للأقوى، ولأن السكان الأصليين لا يملكون غير تضرعهم إلى الله، فلينتظروا إذن وقوفهم أمام مالك الملك ومذل الجبابرة لكي يشتكوا ممن ظلمهم، أما الآن فليذوقوا طعم «التنمية» في هذه الدنيا الفانية.