المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آسفي .. مدينة تمشي مشية السلحفاة وتكتفي «بشو َّايات» السردين
المدينة لا تتوفر على مشروع تنموي ولا على رؤية مستقبلية وتسير بتماس مع منطق التيه

شتان بين الأمس واليوم، فآسفي التي زارها ذات زمن وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب وأُغرم بوصفها في كتاباته، وآسفي التي فتنت ملك البرتغال الدُون إمانويل الأول وشيد بها كاتدرائية بهندسة فريدة من نوعها على طول وعرض شمال إفريقيا أهداها لزوجته، والمدينة التي كان الراحل الحسن الثاني مغرما بفنون طبخها وحرص طوال حياته على الأكل من أطباق خزفها المذهب، هي نفسها التي غمرتها أغطية الرداءة والفوضى وتزاوجت مع التيه والنسيان حتى إشعار آخر.
يعرف عن أهالي مدينة آسفي أنهم قليلو السهر والسمر ليلا فطوال شهور الخريف والشتاء الطويل يجوز القول إن الحياة بشوارع وفضاءات المدينة تنتهي مع غروب الشمس، فالعائلات الآسفية احتفظت بتقليد الدخول باكرا إلى بيوتها من زمن الحماية الفرنسية التي كانت تقفل كل أبواب المدينة القديمة داخل السور البرتغالي قبل صلاة العشاء حتى تضمن وتضبط الأمن وتتحكم في هويات الداخل والخارج.
هدوء الخريف والشتاء بآسفي ينعكس أيضا على الحركة التجارية، فالمدينة الوحيدة بالمغرب، ربما، حيث يستحيل أن تجد مقهى مفتوحا في الساعة الثامنة مساء بوسط المدينة الجديدة خلال شهر دجنبر أو يناير، هي آسفي، أما تجار المدينة القديمة من شارع الرباط حتى باب الشعبة فأغلبهم يقفلون دكاكينهم مع السادسة مساء التي تصادف آذان المغرب.
سكون الحياة بآسفي في باقي شهور السنة أمر اعتاد عليه الشيوخ والكهول الذين ألفوا حياة هادئة وشبه متوقفة تلائم كثيرا مصاريفهم المنزلية، فالمدينة التي وصفها ابن الخطيب ب «قليلة الأحزان وصابرة على الاختزان»، هي نفسها التي لازالت تحتفظ بكلفة معيشية رخيصة مقارنة مع باقي المدن الكبرى للمملكة، وليس بغريب أن تصطف عشرات السيارات تحمل الترقيم المراكشي يومي السبت والأحد تحمل عائلات مراكشية تأتي لقضاء اليوم ولشراء مستلزماتها من الخضر والفواكه والسمك وحتى الأواني والتجهيزات المنزلية التي يدخلها تجار المهجر بسوق «العفاريت» الشهير بحي اهرايت البيض الذي تجد فيه تحف أوربا من ساعات حائطية وثريات الكريستال ودواليب القرن التاسع عشر مع متلاشيات بطاريات السيارات ولصاق الصين ومواد البناء و«البريكولاج».
العديد من أبناء المدينة يعترفون بآفة الملل والسكون التي تطبع آسفي خلال أغلب شهور السنة، وفي المقابل يحمدون الله على أن فتنة الاستهلاك التي أصابت المدن المغربية الكبرى وغلاء المعيشة واختناق الطرقات العمومية وبعد المسافة بين مقرات العمل والسكن، أشياء لا تعرف تصريفا في الحياة اليومية للآسفيين، لكن واقع المدينة الحالي لا يعطيها نفسا للتقدم والتطور وتحديث بنياتها ونظمها الاجتماعية، كما أن آفاق الدراسة العليا وسوق الشغل للأطر من الطلبة والشباب جد منعدمة بغياب بنية مقاولاتية كبرى كفيلة بامتصاص هذه الكفاءات التي تبدأ دراستها بآسفي وتنتهي بمكاتب كبريات الشركات بالدار البيضاء ومراكش والرباط.
كثيرا ما توحي المدينة للزائر والغريب أنها شاخت ولم تعد تساير سرعة الزمن الحالي، حتى إن العيش بها يلائم أكثر فئة المتقاعدين والشيوخ، فيما فئات عريضة من الشبان والكهول ترى في الحياة بآسفي كثيرا من معيقات التقدم في الحياة المهنية والعائلية بسبب مشية السلحفاة التي اعتادت أرجل المدينة عليها وبسبب غياب رؤية جديدة لدى مسؤوليها تعاكس تثاقل السرعة بها، في وقت أحسن ما تفعله مجالسها المنتخبة وسلطات الولاية هي تدبير السكون والحفاظ على الوضع القائم.
صيف «الشواية» والسردين
أن تزور هذا الصيف آسفي، فكأنك تزور مدينة خارجة للتو من جناح فاقدي الذاكرة، فالصيف يحول آسفي إلى شبيهة بتلك الفتاة في المثل الشعبي المغربي الذي يقول: «حمقاء وقالوا لها زغردي»، فأينما وليت نظرك ستجد شيئا غير سوي في مدينة يتهافت فيها زوارها على السردين وكأن البحر سيصبح في اليوم الموالي يابسة .
غلاء الصويرة والجديدة في السنين الأخيرة حول مدينة آسفي إلى مركز صيفي لفقراء وبسطاء المغاربة الذين يقاومون جيوبهم من أجل بضعة أيام في عطلة يفتخرون بها أمام أسرهم وأطفالهم، فسردين آسفي وفاكهتها ولحومها الوفيرة بأثمانها العادية وسومة كراء منازلها الرمزية، كلها عوامل ساهمت في احتضان المدينة زوارا يبحثون عن رأفة ورحمة في الأثمان .
فلسان الدين بن الخطيب، خريج جامعة القرويين وصديق ابن خلدون ووزير ابن الأحمر سلطان غرناطة، لما دخل آسفي في القرن الرابع عشر الميلادي ترك نفس الانطباع الذي سيتركه اليوم زوارها بقوله : « الدماثة والسذاجة والجلال قليلة الاحزان صابرة على الاختزان وافية المكيال والميزان رافعة للداء بلد كريم التربة خصيب الجناب «.
المغاربة يحبون آسفي فقط لميزانها الوافي، فالمدينة لم تكن عبر تاريخها تكرم أبناءها بقدر ما كانت تعطي الأسبقية للغريب والأجنبي، فكيلوغرام واحد من سمك السردين بآسفي يبقى أثقل بكثير من موازين الأسواق الممتازة والراقية وحتى الشعبية في باقي المدن المغربية، فقط لأن كرم المدينة والبحر لم ينته منذ أن زارها ابن الخطيب .
وحتى وإن كانت آسفي كريمة إلى حد تناسي نفسها، فإن مسؤوليها الذين عهد إليهم بتسيير شؤونها حولوها إلى مدينة فاقدة لذاكرتها وحاضرة مسجلة في عداد المفقودين، فلا أحد اليوم يعرف تاريخها ولا أحد يقيس حجم حضورها القوي في ذاكرة المغرب، حتى أن ابن الخطيب لما زارها قبل 600 سنة قال إن ليس وراء آسفي مدينة جامعة ولا محلة مسورة حتى السوس الأقصى إلى تخوم الحبشة من وراء الصحراء، أما حانون الرحالة الذي زارها قبل الميلاد المسيحي فقال إنه لما عبرها وجد بضواحيها أشجارا كثيفة بها فيلة وحيوانات وحشية ترعى.
بآسفي اليوم اختفت الحيوانات، وبقيت الوحشية في السلوك والفكر والتدبير، وإحدى علامات العار الذي أصاب المدينة هي فوضى الشارع الذي يختلط فيه الراجلون مع عجلات السيارات والدراجات وسكاكين بائعي السمك وموازين عربات « الدلاح» و«البطيخ»، وحتى أسماء الشوارع والأزقة بدورها نالت نصيبها من حقن فقدان الذاكرة التي يجتهد البعض في حقنها بحمرة قل نظيرها في الوجه .
هناك اليوم بآسفي أسماء أزقة بلا معنى، كتلك الزنقة المتواجدة بحي الجريفات المسماة « زنقة عبد الواحد»، فالمدينة التي عهدت بتسيير شؤونها إلى نكرات لا يمكن إلا أن تسمي شوارعها على أسماء نكرة، أما زمن الأعلام فقد ولى، على الأقل، بآسفي .
الشاطئ والمرسى
بآسفي اليوم مأساة اسمها البحر!، فالمدينة التي وجدت نفسها منذ القدم على صخور الساحل الصلبة أصبحت معلقة من رجليها بخيط رقيق من الصوف، وبحركة خفيفة قد تتهاوى على أول الموج من أعلى الصخر الساحلي .
هنا في هذه المدينة المنزوية على نفسها، الناس يدخلون بيوتهم مع أول بزوغ للخيط الأسود، لازال الآسفيون يحتفظون بفطرة موروثة، عدم ثقتهم فيما قد يحمله آخر النهار من شؤم أو مصائب ومفاجآت، فالمدينة التي نامت ذات يوم وفاقت على احتراق مساجدها واستباحة نسائها وديارها مع مجيء عسكر الملك البرتغالي إمانويل الأول، لم تنس بعد في جينات أبنائها ما قد يحمله الغريب من أضرار وفساد .
لقد ظلت أبواب آسفي في بحرها، تغلقها الأمواج وتفتحها كما شاءت الطبيعة، وبالبحر وضعت آسفي منذ أن وجدت بطنها وبطن فقرائها وأغنيائها، وتحصنت منذ الأزل من مآسي فترات « المجاعة « التي كانت تأتي على أراضي المغرب الفلاحي .
«رُيَّاس» آسفي كانوا فيما مضى، وحتى قبل سنين، من علية القوم، فدخلهم المادي كان يرفعهم إلى مراتب اجتماعية معتبرة، أما كبار صناع المراكب من «حرايفية» النجارة، فكانوا مهندسين بفطرة الأجداد، حتى إن صغار متعلميهم كانوا بفضل عملهم يوفرون منزلا في ملكيتهم من أول سنة من الاشتغال، من غير داع للمرور عبر قروض السكن التي يلجأ إليها اليوم العامل البسيط والمهندس الكبير.
رجال البحر اليوم بآسفي أصبحوا كصباغي «الموقف»، يتأبطون قففهم ويشعلون سجائرهم الرديئة وينتظرون تحت حر الشمس إشارة من أرباب المراكب الذين وحدهم اغتنوا في السنين الأخيرة بالرغم من أن السمك لا وجود له، حتى أن الناس هنا يتساءلون عن أي صيد آخر ثمين يدخلونه في شباكهم، ويضمن لهم شراء المراكب والسيارات والبقع الأرضية حتى لو دخلت بواخرهم فارغة إلى الميناء؟!
هناك بمدينة آسفي اليوم معيار طبيعي لقياس درجة الصفر التي وصل إليها المخزون السمكي بعد ارتفاع حرارة البحر، وهجرة السردين إلى المياه الباردة، وتكاثر معدلات التلوث الكيماوي، يكفي أن تتقابل مع مطارح النفايات والأزبال لترى أن «عوَّا» أصبحت تزاحم القطط والكلاب وتتصارع معها بمنقارها لتسكت جوعها بسبب قلة السمك .
فطائر النورس الذي يسميه أهل البحر ب«عوَّا» اعتاد منذ أجياله الأولى التي اختارت العيش بميناء آسفي أن يقتات من مؤخرة البواخر و«الفلايك» وهي في طريقها إلى الميناء، حتى إذا ما هي رست تكون أسراب «عوَّا» قد ملأت بطنها وبدأت في التحليق عبر أجواء المرسى حتى أعلى صوامع ومنارات المدينة .
البحر والميناء بآسفي كانا أول مشغل لليد العاملة وأول ضمانة اجتماعية ضد بطالة الرجال والشباب، واليوم انتهى زمن «الرُيَّاس» الذين كان ينحني لمرورهم بسطاء الناس، فقط لأن البحر بآسفي فقد هيبته، ولم يعد يطعم حتى البطون الصغيرة لطيور النوارس .
موت الزمن الجميل
على مر الزمن القصير انتقلت آسفي من مدينة نظيفة وهادئة تشتم في أزقتها رائحة الزعفران المنفلت من مطابخ الآسفيات مثلما هي روائح «السخينة» الأكلة الدسمة واللذيذة التي كان تسهر على تحضيرها وإرسالها إلى الفرن الخشبي المسلمات واليهوديات اللائي كن يسكن في منازل وروض المدينة القديمة من غير حاجة إلى ملاح .
آسفي كانت دائما مدينة فاتحة ذراعيها للأجنبي، فواجهتها البحرية على المحيط جعلتها منفذ استقبال وإرسال على العالم منذ أيام الفينيقيين الأولى حتى القرن السادس عشر مع البرتغاليين الذين كانوا يبادلون 10 من عبيد السودان المحملين فوق البواخر على أرصفت مرساها بحصان واحد من أجود خيول سهول عبدة الشاسعة .
حتى الملك إمانويل الأول، إمبراطور البرتغال، أغرم بآسفي وبهوائها النقي وبطبخ بيوتها وجمال نسائها وبخصوبة تربتها وغنى خيراتها الطبيعية، فكان أن بعث إليها أجود رساميه ونحاتيه لتشييد كاتدرائية القديسة «سانت كاترين» التي صنفت كأحد أجمل المباني العمرانية خلال العهد الإمانويلي على كافة تراب القارة الإفريقية .
بتراب آسفي تتواجد إحدى أقدم المنارات والزوايا الإسلامية وأكبر عدد من أضرحة الصالحات في المغرب كلالة زينب الكوابلية ولالة شتية ولالة أم علي ولالة صفية ولالة هنية الحمرية ولالة الهديلية، فمن على الساحل الصخري لجرف أموني بوسط المدينة أطلق الشيخ سيدي محمد بن سليمان الجزولي مؤلف «دلائل الخيرات» الإشعاع لطريقته الصوفية التي جلبها معه من رحلته المشرقية والحجازية، وغير بعيد عنه أطلق أبو محمد صالح الماجري أيام العهد الموحدي ركب الحجاج المغاربة من آسفي إلى الإسكندرية حتى مكة المكرمة والمدينة .
و خلال بداية عهد التسعينيات من القرن الماضي شهدت المدينة موجة كبرى من الهجرة القروية حيث ثم إغراء فقراء وبؤساء الفلاحين بعربات مجرورة في محاولة لامتصاص مواسم الجفاف، فانطلقت في المدينة رحلة التيه والفوضى وانتشر البناء العشوائي وسادت الجريمة بإقفال وإفلاس أزيد من 80 وحدة لتصبير السمك.
خلال عهد أربعة عمال وولاة و4 مجالس منتخبة، لم يستطع أحد منهم وضع حد للفوضى العمومية التي بدأت تُعرف بها مدينة آسفي في مايخص صناعة الفخار والسمك والتلوث، فالكل هنا يفترش الأرض حاملين شعار السوفيات المُعدل «الأرض لمن يفترشها»، والمارة يمشون بجوار السيارات والدراجات والشاحنات فقط لأن الرصيف المخصص لهم مملوء بعربات نقانق الحمير وحلزون المقابر ومتلاشيات أوربا.
الشارع الرئيسي بآسفي أصبح شتيمة في وجه المدينة وسكانها، فحتى «مولينيكس» التي صنعتها فرنسا بفخر التكنولوجيا الدقيقة منذ سنة 1937 أصبحت تباع بجوار «حرتوكة» السمكة الرديئة في المذاق والمنظر ورخيصة الثمن، فآسفي اليوم لا تشرف ناسها ولا تاريخها، فقط لأن هناك من يهوى بالميراث المداخيل السوداء لفرجة المأساة.
مدينة ليلها خال من الأحلام
هل انتهت صلاحية مدينة آسفي؟ لعله بكل تأكيد السؤال الذي ينتصب فارضا وجوده بعد الزمن الجميل الذي قطعته المدينة خلال القرن العشرين، من مدينة تجارية ومصدرة بامتياز إلى مدينة صناعية كبرى حتى مدينة مع وقف التنفيذ لا تعرف أي رِجْل تقدم أو تأخر في تتالي الأيام.
آسفي كانت ضحية عقلية براغماتية قاتلة كانت تنظر إلى حاضر المدينة الصناعي بدون رؤية مستقبلية، وبدون مخطط تنموي حقيقي يربط الثقافة بالسياحة وبالحاجيات الجديدة للمجتمع، فجميع البؤر السوداء للمدينة يتم حلها بخلق بؤر جديدة لاسكات وإخفاء الأولى، حتى فاض كأس التحمل ولفظت المدينة دفعة واحدة رداءتها إلى الشارع.
آسفي اليوم مدينة موغلة في العزلة والسكون، بالليل يمكنك أن تسمع خطوات النمل على أطراف شوارعها بسبب خلاء وصمت الأمكنة، الآسفيون أناس لا يبرحون منازلهم سوى لقضاء أغراضهم الضرورية، بعدها لكل واحد منهم حياته وعالمه داخل جدران بيته.
المغاربة لا يحملون عن آسفي سوى نظرة «الشواية» والسردين والخزف وغناء العيطة بقبائل عبدة، أما سكان آسفي من أهل البيوت العريقة فيعتبرون تصنيف المغاربة لهم تحقيرا وتقزيما لصورة مدينة عريقة بعلومها ومآثرها وفنها الأندلسي والمديحي وبمطبخها الذي أغرم به الراحل الحسن الثاني.
في آسفي اليوم تسير الحياة بجانب الزيف، والقانون لا يُحمى سوى بأدعية الناس، فالعزلة التي تعيشها المدينة تجعلها عرضة لسيادة أشكال ما قبل التمدين الحضري، فكان سهلا أن تنتقل المدينة بنظامها وضوابطها وشوارعها ومؤسساتها إلى ساحة عامرة بعربات النقانق والحلزون، وكان طبيعيا أن ينتقل الفكر البشري إلى مستوى آخر من الوعي الذي لا يقبل بأشكال التنظيم ولا يؤمن بسيادة القانون، فقط يكرس الرداءة ويضفي الشرعية على حياة الفوضى.
الكثير هنا يشبهون المدينة بأنها معلقة من رجليها بخيط رقيق من الصوف قد ينقطع في كل ململة، ومع ذلك هناك من لازال يعض بأنيابه على سروالها ويتسلق إلى جيوبها وينهب من خيراتها ومع ذلك يقولون هل من مزيد !!
رغم ذلك هناك عدد قليل ممن يعتقدون أن للمدينة سقفا قصيرا سرعان ما يدمي الرؤوس، في إشارة إلى عاقبة من مروا من هنا وخلدوا أسماءهم بمداد من العار على جبين آسفي، واليوم لا زالت المدينة تؤدي ما بذمتها للذاكرة والناس، فالراحل الحسن الثاني كان لا يتفاءل بالمجيء إليها ولا يثق بأناسها الذين يوصفون بكثرة «الوجوه» وبمزاجهم الخاص الذي يجعل كلام الليل يمحوه نفس الليل، شعارا في التعامل مع بعضهم.
كثيرا ما يوصف أهالي آسفي من أصحاب المدينة بالعنصرية تجاه العنصر البدوي، أما انطوائية الآسفي وخوفه من الخروج ليلا فهما من نتائج تلك النظرة التي تجعل من الغريب عنصرا غير مرغوب في التعامل والعيش معه ومخالطته، خاصة وأن المدينة كانت في حالات كثيرة ضحية غربائها ممن عاثوا فيها فسادا دون حتى أدنى مساءلة ولا محاسبة، فقذفوا خيراتها من النوافذ وملؤوا الجيوب والأفواه .
في آسفي اليوم باستطاعة الفاشل والأمي أن يصبح كاتبا أو أستاذا جامعيا أو صحافيا أو حتى برلمانيا ومقاولا بين ليلة وضحاها، فالمدينة مليئة بزيف الألقاب والصفات والمهام وهناك من يسقي بأمواله وأموال غيره حقول الزيف ... فقط لإعلاء المغالطة ولرعاية التضليل... وفقط لأن هناك من اعتاد النوم مع الالتباس على سرير واحد حتى يطول نوم المدينة وحتى يكون ليلها خاليا من الأحلام وحتى يختلي بها أنى شاء... فقط لأنها آسفي، المدينة التي تناست نفسها في سروال غيرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.