تختزن أنماط الحياة بمدينة آسفي زخما من الخصوصيات الاجتماعية ميزتها وأهلها، فتعددت أعرافها وبرزت تقاليدها كحامل لترسبات تاريخية عريقة المنبع، فريدة في الأصل انصهرت عبر حقب زمنية مختلفة، فكانت تقاطعا لعدة تيارات ثقافية وأصول إثنية بكل حمولاتهما الإنسانية من لباس وطباع وطبخ وطريقة في الكلام ونمط في العيش. فإذا ولينا وجهنا إلى تاريخ آسفي الحديث والمعاصر، سنجدها دخلت تحت راية الإسلام ابتداء من سنة 62ه، لما بلغها عقبة بن نافع الفهري مصحوبا برجاله ومنهم شاكر الذي أوكل إليه مهام الإشعاع الديني عبر رباطه القائم إلى يومنا، وبعد أن دخلها البرغواطيون استخلصها منهم المرابطون الذين تركوا بصماتهم في العمارة، إلى أن علت مكانتها مع الدولة الموحدية في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، وهي الفترة التي شيد فيها السور الموحدي وكان وراء ذلك السلطان يعقوب المنصور، وستأخذ آسفي من بعدهم مكانة علمية رفيعة القيمة مع المرينيين، وهي المرحلة التي ستعرف تشييد المدارس العلمية والمستشفيات وغير ذلك من لوازم الحياة المدنية الحديثة، فكانت مع أواسط القرن الثامن الهجري إلى آخره قد حفظت لنفسها مكانة عالية في العمران إلى درجة أن السلطان أبو الحسن المريني هو الذي كان وراء بناء مسجد القصبة بآسفي في عام 742ه، وكان من يتولى الخطبة فيه الفقيه العلامة عبد الله بن مرزوق. قبل دخول البرتغال إلى حدود دولة المرينيين وقبل دخول البرتغال، كانت آسفي قد راكمت كما زاخرا من مختلف الثقافات الأمازيغية والعربية والمشرقية بالخصوص الوافدة في انسجام مكمل حتى بلغها البرتغال، ورغم أنهم لم يحسنوا صيانة الآثار الدينية بالمدينة، فإنهم طبعوا آسفي بخصوصيات الهندسة المعمارية الإيمانويلية فشيدوا الأسوار والأبراج والقلع والحصون وكنيستهم الشهيرة التي لا مثيل لها على طول وعرض إفريقيا الشمالية، ولما كان الجلاء عن آسفي في أكتوبر 1541م، استخلصها ملوك السعديين بمراكش، وهذه الفترة جد الهامة في عهدهم لما استقر بها السلطان محمد الشيخ المهدي مؤسس القصبة العليا وباني المساجد ومرمم السور ومحرك حالتها التجارية، حيث الميناء منطلق تسويق السكر من معامل حاحا وشيشاوة لدرجة أضحت توصف بمرسى مراكش أي المغرب، وعرفت أيضا بتسويق الشموع المعطرة إلى أمريكا اللاتينية ومادة ملح البارود والصقور نحو أوربا. ويصف ذ· أحمد بنجلون آسفي في عهد السعديين من خلال كتاب «آسفي دراسات تاريخية وحضارية» الصادر سنة 1989: «إنها مدينة دبلوماسية يقطنها السفراء والقناصل. وقد أخذ يتوافد عليها بعض الأسر العربية الأندلسية القادمة من تطوانوفاس وسلا والرباط، ومن هنا اتخذت المدينة انطلاقتها في طريق التمدن، إذ أقبل النازحون بتقاليد جديدة في اللباس للرجال، كالجبدور والطربوش الملفف بالعمامة والضراعة وهي ملابس أدخلها الأتراك إلى فاس، أما بالنسبة إلى النساء، فإن الجديد الذي دخل آسفي هو الحجاب السميك منه والشفاف، وارتداء البرنس. وأتى أولئك النازحون كذلك بتقاليد غذائية جديدة من أصل أندلسي، كما حملوا إلى المدينة أساليب جديدة في البناء والهندسة المعمارية كالزليج الملون، والخشب المنقوش للسقوف عوضوا به ما يسمى هنا «تسويت»، وساهموا مساهمة كبرى في إعادة بناء المدينة العتيقة». عادات أهل آسفي وقد كتب الفقيه أحمد بن محمد الصبيحي سنة 1918 في كتابه «باكورة الزبدة في تاريخ آسفي وعبدة» عن عادات الآسفيين وجمعهم في أربع: عاشوراء، المولد، شعبانة، الزواج، ومنه يقول: «يزيد الآسفيون على بعض المدن (في عاشوراء) اعتناءهم بزيارة القبور وختم الختمات من القرآن عليها، وفي عادة المولد يخصصون رابع العيد للعيساويين (عيساوة) الذين يأكلون اللحوم النيئة بدمائها، وتتبعهم في ذلك اليوم طائفة السودانيين (كناوة)، وتخصيصهم سابع العيد للحمدوشيين (حمادشة) الذين يضربون رؤوسهم بالحديد ونحوه، ويسيلون بذلك الدم منها، وكلتا الطائفتين يذهب رجالها في زيهم، وجموع الناس تتفرج عليهم في خارج باب أقواس مارين بوسط المدينة إلى الرباط، ثم يرجعون إلى زاويتهم فيأكلون ويشربون ويذكرون الله تعالى وينصرفون. وعادة شعبانة بآسفي هي عادة تزيين فيها البنات الصغيرات من منتصف شعبان إلى آخره. ثم الذهاب بهن إلى بعض دور الأشراف الأفاضل أو الزوايا، حيث ينضم إليهن كثير من المتفرجات والمسمعات يسمعن الناس اسم البنت ويشهرن نسبها حتى يعرفها الحاضرون. أما عادة الزواج بآسفي أن أهل الزوج لما يتراكنون مع أهل الزوجة، يرسل الزوج إلى دار الزوجة نحو ثلاثين طيرا من الدجاج وآنية صغيرة من السمن ونحو خمسة أرطال من الزيت وآنية صغيرة من العسل وكبشا ومائدة مملوءة سميدا ونحو أوقية من الزعفران، وقالبا كبيرا من السكر يزن نحو 25 رطلا ونحو رطل من الأتاي وخمسة من الشمع وخمسة ريالات للمسمعات والمزغرتات، فيقوم أهل الزوجة بتيسير الطعام لأهلي الزوجة والزوج والعدل ثم يحضر الجميع في يوم معين للعقد الرسمي، وهو في الوسط على صداق مئة ريال إفراضا لعجلة وكبش وآنية سمن وخروبتين (120 كيلوغراما) من القمح وعشرة أرطال من الشمع وقالب كبير من السكر ورطلين من الأتاي وثلاثة أريلة للحمام ولوازمه. ثم المرأة تأتي للرجل بناموسية نحاس وزربية وثلاث مضربات ولحافين واثنتي عشرة مخدة وغطاء وكساء وحسكتين صفر وطست وصندوقين كبير وصغير ومرآتين كذلك ومائدتين وطست للحمام. وقبل الزواج يجعل الزوج الإطعام العام في يوم أو يومين أو ثلاثة. وفي ليلة الزفاف يذهب أهل الزوج إلى دار الزوجة ليأتوا بها إلى دار الزوج في القبة التي تكون مكسوة في شارة حسنة ومعها في القبة صبي من أهلها فوق بهيمة جيدة والطبل والغيطة يسمعان الناس أحسن النغم، فيصلونها كذلك إلى دار الزوج ويدخلونها ثم يذهبون للإتيان بالزوج الذي يكون في الانتظار مع أصحابه وأحبابه في زاوية أو دار، فيخرجون به ذاكرين ومغنين بأعلى صوت: كلام الحق واجب ما أقول وقول الحق تعرفه العقول وما محمد إلا رسول.. رسول الله احمدنا شفيع ولما يصلون به كذلك إلى الدار، يدخلون معه إلى البيت الذي به العروسة التي تكون إذاك في ناموسية مكسوة، فيقرؤون (يستبشرون) إلى آخر السورة وغيرها من القرآن، ثم يخرجون وفي صبيحة ليلة الزفاف يوجد والد الزوجة وأصحابه الذين يكونون معه نحو عشر موائد من الطعام». خصوصيات اجتماعية إن ما دونه الصبيحي عن عادات مدينة آسفي وخصوصيات حياتها الاجتماعية، ليس سوى انطباع تركته المدينة لزائرها حين عين بها ناظرا على الأحباس قضى منها ثلاث سنوات ابتداء من سنة 1918، فكانت جزءا من مشروع كتاباتها عن آسفي التي حفظها في ما أسماه بالباكورة، ولأن من دوافع هذا الاهتمام بالعادات المحلية كانت من أسبابه قوة رسوخ وتنوع أنماطها بين الأهالي، فإنه من اليسير تفسير اهتمامه بها وانشداده إليها إذا ما استحضرنا أن تلك الخصوصيات الآسفية لم تكن وليدة اللحظة بل امتداد لمسار منغرس النشأة مليء بالتنوع والاختلاف. إن العامل البشري عنصر أساسي مكون لطبيعة الخصوصيات الآسفية انطلاقا من تنوع وتفرع أصول بيوتات آسفي كالوزانيين الذين يرجع نسبهم إلى مولاي إدريس بن التهامي الحسني الإدريسي اليملحي الوزاني الذي وفد إلى آسفي سنة 1706م، وبيت عطار الذي يرجع أصله إلى سوس وبيوت الركوش والشقوري وأولاد ميتة من أصول أندلسية ونفس الأمر مع عائلتي الغماز والقليعي، وكذلك بيت الدمني وهم من قلعة دمنة بنواحي القصر الكبير وأولاد حدادو من تطوان وبيت كوار من آيت باعمران، كما تزخر المدينة ببيوتات لا يتسع المجال هنا للتفصيل فيها، ومنها أولاد الناظر والأمغاريون والوحيديون ومولاي الحاج وبن الكاهية والبوعناني والحكيم وبنهيمة وواعزيز وبن الهواري والتريكي وأولاد بن عبد الخالق والغزاوي وبن عزوز وغيرهم كثير، وإذا أضفنا إلى هذه العائلات العربية القادمة مع موجة الهلاليين وبني معقل وسليم وتلك التي لها أصول صنهاجية وأمازيغية ومشرقية، فإننا سنكون أمام عدة مرجعيات وحمولات بشرية غنية أنتجت وأثرت في طبيعة تكون الشخصية الآسفية. ومن بين العادات المحلية التي اتخذت مرجعيتها من البحر كمكون مجالي طبيعي، نجد تلك التي يطلق عليها بعادة «تقشار الحوت»، ويقول عنها ذ·عبد الرحيم لعطاوي في كتاب «آسفي دراسات تاريخية وحضارية»: «توجد في جميع مراكز الصيد البحري مجموعة من العادات المرتبطة بالبحر والسمك، ولمدينة آسفي نصيبها من هذه العادات، وأذكر من بينها على سبيل المثال ذلك الحفل العائلي الجميل الذي يقام صباح اليوم الثالث بعد العرس، والمتمثل في برش السمك من طرف العروسين والذي يطلق عليه اسم حفل تكرات الحوت. وتبرز هذه العادة المعتقدات المحلية التي تجعل من السمك رمزا للخير والسعادة· أما من رأى السمك في حلمه فسوف يتوصل بمال وافر أو يصبح من الأثرياء. وهذه الأمثلة تدلنا على مكانة السمك الرفيعة عند أهل آسفي ونواحيها. ألم يقل لي صياد عن قصبة أيير: إن طعامنا في الجنة إن شاء الله سيكون بالأساس من كبد السمك». خصوصيات دينية هذا واستطاعت آسفي كذلك أن تحفظ لنفسها خصوصيات دينية جعلتها تنفرد في كثير من الأحيان أمام باقي مناطق المغرب، انطلاقا من التأثير القوي والواضح والمستمر الذي عرفته مع الشيخ أبي محمد صالح ومع الطريقة الجزولية للشيخ سيدي سليمان الجزولي صاحب دليل الخيرات الذي اتخذ آسفي نقطة إشعاعه الصوفي حين اختارها خلوة له بجانب عدد كبير من الصلحاء والصالحات اللائي يعمرن المدينة بقبابهن الخضراء، أمثال السيدات الصالحات لالة هنية الحمرية ولالة شتية ولالة صفية ولالة أم علي ولالة زينب الكوابلية ولالة فاطنة ولالة عيشة، فيما تمتاز المدينة بتنوع كبير في عدد الطرق الصوفية وزواياها من الزاوية القادرية والتيجانية والدرقاوية والعيساوية والحمدوشية، وبرزت بآسفي خلال قرون عادة حفظ الأذكار والمتون الصوفية من مديح وسماع، بنفس الوتيرة التي برزت فيها في السابق مدارس موسيقية عريقة انصهر فيها الوافد الأندلسي بمرجعياته الإسلامية واليهودية. تمتاز أيضا مدينة آسفي بعلو كعب مطبخها، سواء المتعلق بطهي وإعداد السمك الرفيع الذي يصفه الناس ب«الحوت الحر»، أو من خلال تفردها في إعداد أطباق من الحلويات لا مثيل لها على كافة تراب المملكة، وتأتي في مقدمتها ما يسمى ب«ماصابان» الذي يحضر أساسا باللوز وشكله كالتاج المرصع بحبيبات ملونة ذات مذاق حلو، يرجع أصله إلى الأتراك ويبرع أهالي آسفي ممن كانوا يخالطون ويجاورون اليهود في إتقانه، باعتباره كان يدخل ضمن اختصاص العائلات اليهودية الآسفية. ستعرف وتشتهر كذلك مدينة آسفي بفنونها التقليدية الراقية كصناعة «البلغة» الجلدية الصفراء التي كانت تضاهي مثيلاتها بفاس، و«الريحية» وغزل الصوف بطرق تقليدية وصناعة الجلباب والحياكة، بجانب صناعة الفخار الذي أعلى مرتبتها بين المتاحف وجامعي التحف وخلد أسماء صناعه بمداد من الذهب، أمثال المعلم السوسي وابن ابراهيم والغريسي وبوجمعة العملي والركراكي والزيواني وبن جلول، الذين تباع اليوم منتوجاتهم الفنية الراقية بعد وفاة أغلبهم بأثمان خيالية، ويحفظ أغلبها في بيوت المشاهير وأروقة المعارض والمتاحف الوطنية والدولية. إن أبرز ما يسترعي الاهتمام والانتباه في خصوصيات عادات وتقاليد أهالي آسفي هو ذلك التأثير الذي تركته العناصر الأندلسية والمشرقية العربية الآسفية في تنوع وتعدد للعادات والتقاليد والطباع، فبروز ذلك واضح سواء في الطبخ واللباس أو في العمران والفقه والفن، حيث كانت المدينة تعتبر مدرسة قائمة الذات ونقطة إشعاع مهمة في تاريخ وتطور الموسيقى الأندلسية مع روافدها من سماع ومديح، حتى إنها بلغت مرتبة عالية في نبوغ رجالاتها في الشعر والفلك والتجارة والسياسة والفن، فاستأثرت دوما باهتمام العديد من الشخصيات والملوك وسفراء الدول الأجنبية على مر الزمن.