على مر الزمن القصير، انتقلت آسفي من مدينة نظيفة وهادئة تشتم في أزقتها رائحة الزعفران المنفلت من مطابخ الآسفيات مثلما هي روائح «السخينة»، الأكلة الدسمة واللذيذة التي كانت تنكب على تحضيرها وإرسالها إلى الفرن الخشبي المسلمات واليهوديات اللائي كن يسكن في منازل ورياض المدينة القديمة من غير حاجة إلى ملاح. آسفي كانت دائما مدينة فاتحة ذراعيها للأجنبي، فواجهتها البحرية على المحيط جعلتها منفذ استقبال وإرسال إلى العالم منذ أيام الفينيقيين الأولى حتى القرن السادس عشر مع البرتغاليين الذين كانوا يبادلون 10 من عبيد السودان الغربي المحملين فوق البواخر على أرصفة مرساها بحصان واحد من أجود خيول سهول عبدة الشاسعة. حتى الملك إمانويل الأول، إمبراطور البرتغال، أغرم بآسفي وبهوائها النقي وبطبخ بيوتها وجمال نسائها وبخصوبة تربتها وغنى خيراتها الطبيعية، فكان أن بعث إليها أجود رساميه ونحاتيه لتشييد كاتدرائية القديسة «سانت كاترين» التي صنفت كأحد أجمل المباني العمرانية خلال العهد الإمانويلي على كافة تراب القارة الإفريقية. بتراب آسفي تتواجد إحدى أقدم المنارات والزوايا الإسلامية وأكبر عدد من أضرحة الصالحات في المغرب كلالة زينب الكوابلية ولالة شتية ولالة أم علي ولالة صفية ولالة هنية الحمرية، ومن على الساحل الصخري لجرف أموني بوسط المدينة أطلق الشيخ سيدي سليمان الجزولي مؤلف «دلائل الخيرات» الإشعاع لطريقته الصوفية التي جلبها معه من رحلته المشرقية والحجازية، وغير بعيد عنه أطلق أبو محمد صالح الماجري، أيام العهد الموحدي، ركب الحجاج المغاربة من آسفي إلى الإسكندرية حتى مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة. وخلال بداية عهد التسعينيات من القرن الماضي فقط، دخل المدينة عامل وقائد من وزارة الداخلية جاءا من الصحراء وحولا آسفي إلى محطة للرحل، فنظما، عبر شبكات، موجة كبرى من الهجرة القروية، وأغريا فقراء وبؤساء الفلاحين بعربات مجرورة في محاولة لامتصاص مواسم الجفاف، فانطلقت بالمدينة رحلة التيه والفوضى، وانتشر البناء العشوائي وسادت الجريمة بإقفال وإفلاس أزيد من 80 وحدة لتصبير السمك. خلال عهد أربعة عمال وولاة وثلاثة مجالس منتخبة، لم يستطع أحد منهم إيجاد حل لعار الفوضى العمومية التي بدأت تُعرف بها مدينة آسفي بجانب صناعة الفخار والسمك والتلوث، فالكل هنا يفترش الأرض حاملا شعار السوفيات المُعدل «الأرض لمن يفترشها أولا»، والمارة يمشون بجوار السيارات والدراجات والشاحنات، فقط لأن الرصيف المخصص لهم مملوء بعربات نقانق الحمير وحلزون المقابر ومتلاشيات أوربا. الشارع العام بآسفي أصبح وصمة عار في وجه المدينة وسكانها، فحتى «مولينيكس» التي صنعتها فرنسا بفخر التكنولوجيا الدقيقة منذ سنة 1937، أصبحت تباع بجوار «حرتوكة»، السمكة الرديئة المذاق والمنظر والرخيصة الثمن، فآسفي اليوم لا تشرف ناسها ولا تاريخها، لأن هناك من يهوى تجميع المداخيل السوداء لتتفاقم فرجة المأساة.